(24) رَوَى الْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادَفَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ يُسَمَّى حَارِثَ وَفِى لَفْظٍ حَارِثَةَ فَقَالَ لَهُ «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ» قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ «انْظُرْ يَا حَارِثَةُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ مَقَالِكَ» قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَزَفْتُ نَفْسِىَ عَنِ الدُّنْيَا أَسْهَرْتُ لَيْلِى وَأَظْمَأْتُ نَهَارِى وَكَأَنِّى بِعَرْشِ رَبِّى بَارِزًا وَكَأَنِّى بِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا وَكَأَنِّى بِأَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا.
قَوْلُهُ عَزَفْتُ نَفْسِى عَنِ الدُّنْيَا مَعنَاهُ قَطَعْتُ نَفْسِى عَنِ الدُّنْيَا أَىْ لا أُعْطِى نَفْسِى شَهَوَاتِهَا لا أَتْرُكُهَا تَسْتَرْسِلُ فِى مَلَذَّاتِهِا لَيْسَ مَعنَاهُ أَنَا أُحَرِّمُ التَّنَعُّمَ، التَّنَعُّمُ ضِمْنَ الْحَلالِ لَيسَ حَرَامًا إِنَّمَا شَأْنُ الصُّوفِيَّةِ أَنْ يَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْحَلالِ لا يُعْطُونَهَا إِلَّا الْقَدْرَ الَّذِى لا تَسْتَغْنِى عَنْهُ مِنَ النَّوْمِ يُعطُونَهَا الْقَدْرَ الَّذِى يُحْفَظُ بِهِ صِحَّةُ الْجَسَدِ وَمِنَ الأَكْلِ كَذَلِكَ وَمِنَ الشَّرَابِ كَذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَكَأَنِّى بِعَرْشِ رَبِّى بَارِزًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدِى مِنَ الْيَقِينِ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ بِحَيْثُ إنِّى كَأَنِّى أُعَايِنُ الْعَرْشَ مُعَايَنَةً مَعَ بُعْدِ مَسَافَتِهِ عَنَّا أَرَاهُ بَارِزًا، وَصَارَ عِنْدِى مِنْ شِدَّةِ الْيَقِينِ بِحَيثُ إِنِّى كَأَنِى أُشَاهِدُ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا يَجْلِسُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ وَقَدْ وَصَلْتُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا وَرَدَ عَنْ جَهَنَّمَ كَأَنِّى أُشَاهِدُهَا عِيَانًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَرَفْتَ فَالْزَمْ عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الإِيـمَانَ فِى قَلْبِهِ». هَذَا هُوَ التَّصَوُّفُ.
وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ كَمَا قَالَ إِمَامُهُمُ الْجُنَيْدُ الْبَغْدَادِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «مَا أَخَذْنَا التَّصَوُّفَ بِالْقَالِ وَالْقِيلِ بَلْ أَخَذْنَاهُ بِالسَّهَرِ وَالْجُوعِ وَتَرْكِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْمُسْتَحْسَنَاتِ». مَعْنَاهُ لَيْسَ التَّصَوُّفُ بِإِيرَادِ الْحِكَايَاتِ قَالَ الشَّيخُ فُلانٌ كَذَا وَقَالَ الشَّيْخُ فُلانٌ كَذَا يَعنِى قَطَعْنَا أَنْفُسَنَا عَنْ شَهَوَاتِهَا لِأَن التَّصَوُّفَ صَفَاءُ الْمُعَامَلَةِ كَمَا قَالَ حَارِثَةُ.