الخميس نوفمبر 21, 2024

التَّوْبَةُ

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ) تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ فَوْرًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهِيَ النَّدَمُ وَالإِقْلاعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنَّ لا يَعُودَ إِلَيْهَا وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ تَرْكَ فَرْضٍ قَضَاهُ أَوْ تَبِعَةً لِآدميٍّ قَضَاهُ أَوِ اسْتَرْضَاهُ.

   الشَّرْحُ هَذَا الْفَصْلُ مَعْقُودٌ لِلتَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةُ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ وَهِيَ فِي الْغَالِبِ تَكُونُ مِنْ ذَنْبٍ سَبَقَ لِلْخَلاصِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الآخِرَةِ وَقَدْ تُطْلَقُ التَّوْبَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ كَحَدِيثِ» إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ« [أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ]، وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ لِلْخَلاصِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الآخِرَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي الْقُرْءَانِ بِمَعْنَى طَلَبِ مَحْوِ الذَّنْبِ بِالإِسْلامِ وَذَلِكَ كَالَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ عَنْ نُوحٍ ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [سُورَةَ نُوح/10] فَإِنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مُشْرِكُونَ فَمَعْنَاهُ اطْلُبُوا مِنْ رَبِّكُمُ الْمَغْفِرَةَ بِتَرْكِ الْكُفْرِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِالإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الأُلُوهِيَّةِ وَالإِيـمَانِ بِنُوحٍ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَيْكُمْ.

   ثُمَّ هِيَ وَاجِبَةٌ عَيْنًا مِنَ الْكَبِيرَةِ وَمِنَ الصَّغِيرَةِ فَوْرًا.

   ثُمَّ إِنَّ التَّوْبَةَ لَهَا أَرْكَانٌ فَالرُّكْنُ الَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ فِي النَّوْعَيْنِ أَيْ نَوْعِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لا تَعَلُّقَ لَهَا بِحُقُوقِ بَنِي ءَادَمَ أَيْ تَبِعَتِهِمْ وَلا هِيَ بِتَرْكِ فَرْضٍ وَالنَّوْعِ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِحُقُوقِ بَنِي ءَادَمَ النَّدَمُ أَسَفًا عَلَى تَرْكِ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ، فَالنَّدَمُ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَعَارٍ أَوْ ضَيَاعِ مَالٍ أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ أَوْ لِكَوْنِ مَقْتُولِهِ وَلَدَهُ لا يُعْتَبَرُ، فَالنَّدَمُ وَهُوَ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لَهُ.

   وَالأَمْرُ الثَّانِي: الإِقْلاعُ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَالِ.

   وَالأَمْرُ الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ هِيَ التَّوْبَةُ الْمُجْزِئَةُ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِتَرْكِ فَرْضٍ أَوْ تَبِعَةٍ فَيُزَادُ فِيهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ صَلاةً أَوْ نَحْوَهَا قَضَى فَوْرًا وَإِنْ كَانَ تَرَكَ نَحْوَ زَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ مَعَ الإِمْكَانِ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ عَلَى إِيصَالِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ أَيْ فَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ وَيَفِي بِالنَّذْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَبِعَةً لِآدَمِيٍّ رَدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ فَيَرُدُّ عَيْنَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَبَدَلَهُ [وَالْمُرَادُ بِالْبَدَلِ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ، وَتُعْتَبَرُ أَقْصَى الْقِيَمِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِلَى وَقْتِ الإِتْلافِ] لِمَالِكِهِ أَوْ نَائِبِ الْمَالِكِ أَوْ لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَوِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ دَفَعَهُ إِلَى الإِمَامِ لِيَجْعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِحَاكِمٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ بِنِيَّةِ الْغُرْمِ إِنْ ظَهَرَ الْمُسْتَحِقُّ.

   قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمِثْلُ الصَّدَقَةِ سَائِرُ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ حَاكِمٌ بِشَرْطِهِ رَدَّهُ إِلَى أَمِينٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ، فَإِنْ أَعْسَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ نَوَى الْغُرْمَ إِذَا قَدَرَ أَوِ اسْتَرْضَاهُ أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ فَتَصِحُّ لَوْ كَانَتِ الْبَرَاءَةُ مَجْهُولَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْمِحَهُ يَذْكُرُ لَهُ، فَيَقُولُ سَامِحْنِي مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ ذَلِكَ الْغِيبَةُ فَلا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ مِنْهُ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْغِيبَةِ إِنْ كَانَتْ بَلَغَتِ الْمُغْتَابَ [أَيْ يَقُولُ لَهُ قُلْتُ فِيكَ كَذَا فَسَامِحْنِي لِأَنَّهُ قَدْ يَظُنُّ شَيْئًا هَيِّنًا فَيُسَامِحُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ قَدْ لا يُسَامِحُ]، هَذَا إِذَا لَمْ يَخْشَ حُدُوثَ فِتْنَةٍ إِنْ أَخْبَرَهُ بِهَا وَإِلَّا فَلا حَاجَةَ لِلإِخْبَارِ.

   قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلا خِلافَ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَبْرَأَ مِنَ الْمَالِ أَوْ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ أَوِ اسْتَوْفَى سَقَطَ الْحَقُّ.

 

فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ

 

   الأُولَى رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا» مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَسْتَحِلَّهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ «مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ كَأَنْ سَبَّهُ أَوْ أَكَلَ لَهُ مَالَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلْيُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ الْيَوْمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ لا تَرُدُّ عَنْهُ الدَّرَاهِمُ وَلا الدَّنَانِيرُ شَيْئًا، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُبَرِّئْ ذِمَّتَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَظْلَمَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذَ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكْفِ حَسَنَاتُهُ لِذَلِكَ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَحُمِلَتْ عَلَى الظَّالِمِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ قِصَاصًا مَكَّنَ الْمُسْتَحِقَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ أَيْ يَقُولُ لَهُ خُذْ حَقَّكَ مِنِّي أَيِ اقْتُلْنِي وَإِنْ شِئْتَ فَاعْفُ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الأَمْرَيْنِ صَحَّتِ التَّوْبَةُ وَلَوْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ نَوَى تَمْكِينَهُ إِذَا قَدَرَ.

   وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِصَحَابِيٍّ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُرَيٍّ سُلَيْمُ بنُ جَابِرٍ» وَلا تَسُبَّنَّ أَحَدًا فَإِنْ عَيَّرَكَ أَحَدٌ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ« قَالَ سُلَيْمٌ »فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدًا وَلا دَابَّةً«. مَعْنَى الْحَدِيثِ خَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تُقَابِلَهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ حَالُ أَهْلِ الْكَمَالِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَعْفُونَ بَدَلَ أَنْ يَرُدُّوا بِالْمِثْلِ ثُمَّ إِنَّ الْمَسْبُوبَ إِذَا رَدَّ عَلَى السَّابِّ بِالْمِثْلِ لا يُطَالِبُهُ الْمَسْبُوبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَكِنْ يَبْقَى حَقُّ اللَّهِ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ» الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ «رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [فِي سُنَنِهِ] وَغَيْرُهُ أَفْهَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذَّنْبَ عَلَى الْبَادِئِ وَأَنَّ الْمَسْبُوبَ لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ رَدَّ بِالْمِثْلِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ إِنْ زَادَ فِي السَّبِّ، فَيُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَسْبُوبِ أَنْ يَرُدَّ بِالْمِثْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا السَّبِّ كَذِبٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/194] مَعْنَاهُ لَكُمْ رُخْصَةٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الرَّدِّ أَفْضَلَ، فَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ظَالِمُ يَا خَبِيثُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَا ظَالِمُ يَا خَبِيثُ وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ فِي سَبِّهِ كَذِبٌ وَلا أَنْ يَضْرِبَهُ بَدَلَ السَّبِّ.

   وَإِنْ قَالَ لَهُ يَا ظَالِمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَا لِصُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنْ سَبَّ لَهُ أُخْتَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسُبَّ لَهُ أُخْتَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَإِنْ سَبَّهُ وَسَبَّ لَهُ أُمَّهُ فَلا بُدَّ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الْمَعْصِيَتَيْنِ، وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ كَأَنْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي قَذْفِ الأُمِّ وَلَيْسَ صَرِيْحًا فِي قَذْفِ الشَّخْصِ وَمَعَ ذَلِكَ لا بُدَّ لِلْقَاذِفِ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الْمَظْلَمَتَيْنِ مَظْلَمَةِ قَذْفِ الأُمِّ وَمَظْلَمَةِ إِيذَاءِ هَذَا الشَّخْصِ لِأَنَّهُ تَأَذَّى بِقَذْفِ أُمِّهِ.

   وَالَّذِي يَقْتُلُ مُسْلِمًا ظُلْمًا عَمْدًا إِنْ قُتِلَ فِي الدُّنْيَا قِصَاصًا لا يُطَالِبُهُ الْمَقْتُولُ فِي الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُخِذَ لَهُ حَقُّهُ فِي الدُّنْيَا أَمَّا إِنْ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ حَقُّهُ وَلا عَفَا عَنْهُ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَعِنْدَئِذٍ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَبِيرَةٌ فِي الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ.

   فِي الدُّنْيَا قَدْ يَأْخُذُ الشَّخْصُ حَقَّهُ وَقَدْ لا يَتَمَكَّنُ لَكِنْ فِي الآخِرَةِ الأَمْرُ شَدِيدٌ لِهَذَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [سُورَةَ عَبَسَ] وَصَاحِبَتِهِ أَيْ زَوْجَتِهِ وَبَنِيهِ أَيْ أَبْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَ ظَلَمَ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ عِقَابٍ وَقِصَاصٍ لَكِنْ إِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ، أَمَّا الَّذِينَ عَاشُوا وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ تَبِعَاتٌ وَظُلْمٌ يَشْتَاقُ أَنْ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

   الثَّانِيَةُ لا يُشْتَرَطُ الِاسْتِغْفَارُ اللِّسَانِيُّ أَيْ قَوْلُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلتَّوْبَةِ وَقَوْلُ بَعْضٍ بِأَنَّهُ شَرْطٌ غَلَطٌ فَاحِشٌ سَوَاءٌ جَعَلَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَوْ جَعَلَهُ خَاصًّا بِبَعْضِ الذُّنُوبِ.

   الثَّالِثَةُ فِي تَعْرِيفِ التَّوْبَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ اخْتِيَارُ تَرْكِ ذَنْبٍ سَبَقَ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لِأَجْلِ اللَّهِ قَالَ: وَهَذَا أَسَدُّ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَعُهَا لِأَنَّ التَّائِبَ لا يَكُونُ تَارِكًا لِلذَّنْبِ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ عَيْنِهِ لا تَرْكًا وَلا فِعْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مِثْلِهِ حَقِيقَةً وَكَذَا مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَنْبٌ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ اتِّقَاءُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ لا تَرْكُ مِثْلِ مَا وَقَعَ فَيَكُونُ مُتَّقِيًّا لا تَائِبًا، قَالَ: وَالْبَاعِثُ عَلَى هَذَا تَنْبِيهٌ إِلَهِيٌّ لِمَنْ أَرَادَ سَعَادَتَهُ لِقُبْحِ الذَّنْبِ وَضَرَرِهِ لِأَنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ يُفَوِّتُ عَلَى الإِنْسَانِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَحْجُبُهُ عَنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَعَنْ تَقْرِيبِهِ فِي الآخِرَةِ، قَالَ: وَمَنْ تَفَقَّدَ نَفْسَهُ وَجَدَهَا مَشْحُونَةً بِهَذَا السُّمِّ فَإِذَا وُفِّقَ انْبَعَثَ مِنْهُ خَوْفُ هُجُومِ الْهَلاكِ عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ بِطَلَبِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْبَعِثُ مِنْهُ النَّدَمُ عَلَى مَا سَبَقَ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ.

   الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا جَنَى جِنَايَةً لا يُكَلَّفُ الأَبُ الْغَرَامَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا جَرَحَ الصَّبِيُّ غَيْرَهُ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ وَلِيُّهُ يَدْفَعُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ مَا أَتْلَفَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ مَالٌ فَيُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ أَوْ يَبْلُغَ فَيَعْمَلَ فَيُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ، أَمَّا الأَبُ فَلا يَجُوزُ إِلْزَامُهُ بِالْغَرَامَةِ.

   الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ أَنَّ الْعَامِلَ الَّذِي يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ فِي الْحَفْرِ أَوِ الْبِنَاءِ [أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ] إِذَا هَلَكَ أَثْنَاءَ عَمَلِهِ فَمَاتَ لا يُكَلَّفُ صَاحِبُ الْعَمَلِ بِشَىْءٍ مِنَ الْغَرَامَةِ وَإِذَا جُرِحَ لا يَلْزَمُهُ عِلاجُهُ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ» الْبِئْرُ جُبَارٌ «مَعْنَاهُ مَا يَمُوتُ بِسَبَبِ الْبِئْرِ هَدَرٌ لَيْسَ لَهُ غَرَامَةٌ.

   الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ أَنَّ مَنْ ءَاذَى طِفْلًا [بِكَلامٍ أَوْ فِعْلٍ] وَكَانَ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمُسَامَحَةَ لا يَفْهَمُ مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَفْهَمَ مَعْنَى الْمُسَامَحَةِ ثُمَّ يَسْتَسْمِحُهُ.

   تَنْبِيهٌ مِنَ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ لِلطِّفْلِ الَّذِي أَسَاءَ الأَدَبَ »بُوس التَّوْبَة«.

   الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ أَنَّ الْعَبْدَ مَهْمَا أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَلَوْ أَذْنَبَ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ [فِي الْمُسْتَدْرَكِ] بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدُنَا يُذْنِبُ الذَّنْبَ قَالَ »يُكْتَبُ عَلَيْهِ« قَالَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ قَالَ »يُغْفَرُ لَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ« قَالَ ثُمَّ يَعُودُ فَيُذْنِبُ قَالَ »يُكْتَبُ عَلَيْهِ« قَالَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ قَالَ »يُغْفَرُ لَهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا «مَعْنَاهُ مَهْمَا تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِنَ الْعَبْدِ ثُمَّ تَابَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَتَّصِفُ بِالْمَلَلِ الَّذِي هُوَ ضَعْفُ الْهِمَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ الْحَادِثِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ.

   الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/70] أَيْ يُوَفِّقُهُمْ لِلْمَحَاسِنِ بَعْدَ الْقَبَائِحِ، أَوْ يَمْحُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَيُثْبِتُ مَكَانَهَا الْحَسَنَاتِ الإِيـمَانَ وَالطَّاعَةَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ بِعَيْنِهَا تَنْقَلِبُ حَسَنَاتٍ.

   وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي الطَّوِيلِ شَطْبٍ الْمَمْدُودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَّةً وَلا دَاجَّةً [الْحَاجَّةُ الصَّغِيرَةُ وَالدَّاجَّةُ الْكَبِيرَةُ] إِلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لِذَلِكَ مِنَ تَوْبَةٍ قَالَ» أَلَيْسَ قَدْ أَسْلَمْتَ« قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: »نَعَمْ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ فَيَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ حَسَنَاتٍ كُلَّهُنَّ «قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي، قَالَ: »نَعَمْ« قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى. فَمَعْنَاهُ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ بَدَلَهَا حَسَنَاتٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ تَنْقَلِبُ حَسَنَاتٍ.

   الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ تَجَنُّبُ مَعْصِيَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ حَسَنَةٍ نَافِلَةٍ.

   الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ [فِي سُنَنِهِ] وَابْنُ مَاجَهْ [فِي سُنَنِهِ] عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »كُلُّ بَنِي ءَادَمَ خَطَّاءُونَ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ« مَعْنَاهُ كُلُّ بَنِي ءَادَمَ يَأْثَمُونَ مَعْنَاهُ غَالِبُهُمْ وَخَيْرُهُمُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّوْبَةَ أَيْ أَنَّهُ كُلَّمَا عَصَى يَتُوبُ. وَالتَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ.

   الصَّغَائِرُ الَّتِي مَا فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَشَرٌ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ. خَطَّاءٌ مُبَالَغَةٌ أَيْ كَثِيرُ الْمَعَاصِي أَكْثَرُ الْبَشَرِ كَثِيرُو الْمَعَاصِي.

   ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِمَّا مِنَ الْكُفْرِ وَإِمَّا مِنَ الذَّنْبِ فَتَوْبَةُ الْكَافِرِ بِدُخُولِهِ فِي الإِسْلامِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا وَتَوْبَةُ الْعَاصِي مَقْبُولَةٌ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ، وَمَعْنَى الْقَبُولِ الْخَلاصُ مِنْ ضَرَرِ الذُّنُوبِ حَتَّى يَرْجِعَ كَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ. ثُمَّ تَوْبَةُ الْعَاصِي إِمَّا مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَإِمَّا مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَكْفِي لِلتَّوْبَةِ مِنْهُ التَّرْكُ مَعَ النَّدَمِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَمْ يَكْتَفِ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّرْكِ فَقَطْ بَلْ أَضَافَ إِلَيْهِ الْقَضَاءَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَحَقُّ غَيْرِ اللَّهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِيصَالِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ وَإِلَّا لَمْ يَحْصُلِ الْخَلاصُ مِنْ ضَرَرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الإِيصَالِ بَعْدَ بَذْلِهِ الْوُسْعَ فِي ذَلِكَ فَعَفْوُ اللَّهِ مَأْمُولٌ [قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَقَدْ لا يُؤْخَذُ بَلِ اللَّهُ يُوَفِّي عَنْهُ] فَإِنَّهُ يُؤَدِّي التَّبِعَاتِ لِمَنْ شَاءَ.

   قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ [فِي فَتْحِ الْبَارِي]: »(قُلْتُ) وَقَدْ تَمَسَّكَ مَنْ فَسَّرَ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ] وَابْنُ مَاجَهْ [فِي سُنَنِهِ] وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْن مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: »النَّدَمُ تَوْبَةٌ« وَلا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَضُّ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ فِي التَّوْبَةِ لا أَنَّهُ التَّوْبَةُ نَفْسُهَا، وَمَا يُؤَيِّدُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وُجُودُ النَّدَمِ عَلَى الْفِعْلِ وَلا يَسْتَلْزِمُ الإِقْلاعَ عَنْ أَصْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ كَمَنْ قَتَلَ وَلَدَهُ مَثَلًا وَنَدِمَ لِكَوْنِهِ وَلَدَهُ، وَكَمَنَ بَذَلَ مَالًا فِي مَعْصِيَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى نَقْصِ ذَلِكَ الْمَالِ مِمَّا عِنْدَهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَنْ يَرُدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ بِأَنَّ مَنْ غَصَبَ أَمَةً فَزَنَى بِهَا لا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ إِلَّا بِرَدِّهَا لِمَالِكِهَا، وَأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا عَمْدًا لا تَصِحُّ تَوْبَتُهُ إِلَّا بِتَمْكِينِ وَلِيِّ الدَّمِ لِيَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ« اهـ.

   فَإِنْ قِيلَ يَعْكِرُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِأَوْلِيَاءِ الدَّمِ فِي الْقَتْلِ الْعُدْوَانِيِّ قِصَّةُ الإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ لَهُ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ اذْهَبْ إِلَى أَرْضِ كَذَا فَإِنَّ بِهَا قَوْمًا صَالِحِينَ، فَذَهَبَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ مَاتَ فَاخْتَصَمَ فِيهِ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ وَمَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا بِصُورَةِ رَجُلٍ إِلَى ءَاخِرِ الْقِصَّةِ، وَفِيهَا أَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَةِ قَالُوا: جَاءَ تَائِبًا وَفِيهَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ« فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ لا يَعْرِفُ أَوْلِيَاءَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمُ الْقِصَاصُ بَلْ دَفْعُ الدِّيَةِ فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ لَكِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْفَعَ دَفَعَ، فَقَدْ زَالَ الإِشْكَالُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

   وَقَدِ اشْتَهَرَ أَنَّ شَرْعَ مُوسَى تَحَتُّمُ الْقَتْلِ وَأَنَّ شَرْعَ عِيسَى تَحَتُّمُ الدِّيَةِ، وَجَاءَ شَرْعُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا السَّلامُ بِثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: الْقِصَاصُ إِنْ أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ ذَلِكَ، وَالْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، وَالْعَفْوُ مَجَّانًا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ.

   الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي بَيْتِ شَخْصٍ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ لا يَرْضَى بِوُجُودِهِ فِي بَيْتِهِ لَحْظَةَ فِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْمِحَهُ أَمَّا إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْبَيْتِ لا يَكْرَهُ وُجُودَهُ فِي الْبَيْتِ لَحْظَةَ فِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ وَلَكِنَّهُ لا يَرْضَى بِالْمَعْصِيَةِ لا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَسْمِحَهُ لِأَنَّهُ يَكْرَهُ مَعْصِيَتَهُ وَلَكِنَّهُ لا يَكْرَهُ وُجُودَهُ فِي بَيْتِهِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ.

   الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ »مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ« رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [فِي سُنَنِهِ] وَهَذَا مَعْنَاهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ.

   الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِذَا تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغْلَقَ قَلْبُهُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾« [سُورَةَ الْمُطَفِّفِين/14]. قَالَ التِّرْمِذِيُّ »حَسَنٌ صَحِيحٌ«.  

   قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ [فِي تَفْسِيرِهِ] »أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا فَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَالطَّبْعُ فَلا يَكُونُ لِلإِيـمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ وَلا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مَخْلَصٌ« اهـ فَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالأَكِنَّةُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي الْقَلْبِ.

   فَالْخَتْمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/7] الآيَةَ، وَالطَّبْعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/93]، وَالأَكِنَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/25] هِيَ خَلْقُ اللَّهِ الضَّلالَةَ فِي الْقَلْبِ.

   الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِذَا عَرَضَ لِسَالِكِ طَرِيقِ الآخِرَةِ أَمْرٌ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَزِنَهُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ فَإِنَّ الأَحْكَامَ لا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فَلْيُبَادِرْ إِلَى فِعْلِهِ فَإِنَّهُ مِنَ الرَّحْمٰنِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِلْقَاءِ الْمَلَكِ فِي الرُّوعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِلْقَاءَ الْمَلَكِ قَدْ يُعَارِضُهُ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَالْوَسَاوِسُ بِخِلافِ الْخَوَاطِرِ الإِلْهَامِيَّةِ فَإِنَّهُ لا يَرُدُّهَا شَىْءٌ بَلْ تَنْقَادُ لَهَا النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ طَوْعًا وَكُرْهًا. قَالَ الأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: فَإِنَّكَ إِنْ تَوَقَّفْتَ بَرَدَ الأَمْرُ وَهَبَّتْ رِيحُ التَّكَاسُلِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْبُوشَنْجِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي شُغْلٍ فَدَعَا مَنْ نَزَعَ قَمِيصَهُ عَنْهُ وَقَالَ ادْفَعْهُ إِلَى فُلانٍ فَقِيلَ لَوْ صَبَرْتَ حَتَّى تَخْرُجَ فَقَالَ خَشِيتُ أَنْ يَزُولَ هَذَا الْخَاطِرُ عَنِ الْقَلْبِ اهـ.

   فَإِنْ خَشِيتَ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ أَنْ يَقَعَ عَلَى صِفَةٍ مَنْهِيَّةٍ لِعُجْبٍ أَوْ رِيَاءٍ فَلا يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ أَقِمِ الأَمْرَ وَاحْتَرِزْ عَنِ النَّهْيِ فَإِنْ أَوْقَعْتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَنْهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مُحْبِطًا لَهُ.