الجمعة أبريل 19, 2024

التواضع للناس:

التواضع ترك الترفع على الناس وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يحمل أمامة بنت بنته زينب، هذا من شدة رحمته بخلق الله وتواضعه، وهكذا شأن الأنبياء مع ما لهم من جاه عظيم عند الله، كانوا أشد الناس تواضعًا. وكان صلى الله عليه وسلم يحلب شاته بيده، ويخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه، وفي مهنة بيته من شدة التواضع ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم كان يكنس بيته لكن كنس البيت في معنى هذا، وهذا من كمال التواضع.

وقد سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله – يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.

فالأنبياء من أول نشأتهم تعودوا على التواضع، لأن كل نبي سبق له رعية الغنم تمرن صاحبها على الصبر على التعب، لأن الغنم كثيرة التفلت. هذه تفلت إلى هنا وهذه تفلت إلى هنا، الرجل يتعب في رد هذه إلى هنا وفي رد تلك إلى هنا.

قبل النبوة ينشأ النبي على التواضع والتعب في خدمة الخلق. فالأنبياء جامعون لأوصاف الكمال من الرحمة ولين الجانب والدؤوب على السعي في مصالح الناس. وقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في الدنيا مع المتواضعين، وأن يحشر يوم القيامة مع المتواضعين، وقد طلب من الله تعالى أن يحشر في زمرة المتواضعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “اللهم أحييني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين” أي المتواضعين. وكان يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، ويعود المريض ولا يدع أحداً يمشي خلفه، وكان يأمر بالرفق ويحث على العفو والصفح ومكارم الأخلاق.

والتواضع مطلوب مع الكبار والصغار والأغنياء والفقراء لوجه الله تعالى.

والتكبر مذموم في وجه المؤمن وغير المؤمن، لأن الأنبياء لما دعوا الكفار إلى الدين ما كانوا متكبرين عليهم لأنهم لو كانوا متكبرين في وجوه الكفار لنفروا عنهم، وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء تدل على ذلك. وما كان الأنبياء ليكونوا متكبرين لأن التكبر رد الحق، والحق كان مع الأنبياء والناطق بالحق ليس متكبراً فإن التكبر شأن الكافرين.

والتكبر صفة مذمومة مع التواضع وغير المتواضع ليس كما يقول بعض الناس: التكبر على المتكبر صدقة، الله تبارك وتعالى يحب المؤمن المتواضع ويكره المتكبر، وكل من له عند الله منزلة عالية صفته التواضع وترك العجب وهو شهود العبادة صادرة عن النفس غائباً عن المنة فمن ترك العجب وابتعد عنه فقد نجا وسلم ومن تأمل في أحوال الصالحين والصحابة ومن بعدهم علم أنهم كانوا متواضعين وأنهم لم يكونوا مترفعين على الناس. كان الإمام الشافعي رضي الله عنه مع جلالة قدره وعلو شأنه لا يجادل إنساناً وهو مترفع عليه إنما كان يبغي عند جداله لإنسان الوصول لإظهار الحق.

كان رجل من اليهود في المدينة عامل النبي صلى الله عليه وسلم بدين إلى أجل ثم جاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل” فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أظهر الغضب منه، مع أنه يستحق ذلك بقوله ذلك، فلم يعامله النبي بالمثل رجاء إسلامه ولو رد عليه النبي لم يكن ظالماً لأنه افترى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاء دينه على وجه الإحسان.

لولا تواضع الأنبياء من أين يستفيد منهم البشر هذه الفائدة التي هي سبب السعادة الأبدية؟ يُسبَّون فيقابلون الإساءة والإهانة بالإحسان، هذا بتواضعهم.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفهر في وجه هذا اليهودي الذي أهانه من ذمه وذم عشيرته لأن كلامه شامل له ولعشيرته فكأنه قال أنت يا محمد وعشريتك تماطلون الدين.

فأسلم هذا اليهودي لأنه أراد أن يمتحنه هل يجد فيه العلامات التي هي مذكورة في بعض الكتب القديمة من صفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رآها كلها أسلم.

وقد حصل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له بعض الناس: هيه يا ابن الخطاب إنك لا تعدل في القضية ولا تقسم بالسوية، فغضب عمر وهم به فقال له ابن أخيه قال تعالى: (وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فهدأ عمر، ما سلم أحد من ألسن الناس.

وحصل لسيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه أن كان ذات يوم يمشي مع جمع من مريديه، فعلم بذلك يهودي كان يسمع أن السيد أحمد الرفاعي حليم متواضع، فأراد أن يمتحنه هل هو كما يصفه الناس أم لا، فأتى إليه وقال له: يا سيد أنت أفضل أم الكلب أفضل؟ فقال السيد أحمد رضي الله عنه: “إن نجوت على الصراط فأنا أفضل”، فأسلم اليهودي وأسلم أهله وكثير من معارفه. فلولا أن تواضع معه لم يسلم، فلو كان ظهر في وجهه أنه غضب، أو كان اكفهر في وجهه، أو قال له كلمة شتم، ما رغب في الإسلام. لكن أعجبه شدة حلمه وتواضعه فاعترف في نفسه بأن دين هذا السيد صحيح وهو أي السيد أحمد كان شديد التواضع، يضرب به المثل في التواضع، أحياناً كان يكنس الرواق بنفسه وكان يخرج ليمسك أيدي العميان ليوصلهم إلى حيث يريدون، بلغ الغاية في التواضع. قال بعض العلماء (الكامل):

إن التواضع من خصالا ملتقي     وبه التقي إلى المعالي يرتقي

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ألا أخبركم بأهل الجنة، أهل الجنة كل هين لين سهل قريب”. معنى “هين” متواضع، سهل في التعامل، و”لين” قريب تأكيد لهذا. وقال صلى الله عليه وسلم: “إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة التواضع” أي من أفضل العبادة وليس أفضلها على الإطلاق. فليلزم أحدنا نفسه أن يتواضع لأخيه لا أن يكون مترفعاً عليه. فعلينا بمخالفة النفس فإن النفس تحب الترفع والتعالي. فالتواضع يؤدي إلى كسب المعالي والدرجات العالية، والتواضع له جزء يتبعه وهو الحلم، التواضع والحلم مقرونان، قال بعض العلماء: “الحلم زين العلم” ومما يروى عن سيدنا عيسى عليه السلام قوله في صفة علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم “علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء” معناه علماء أمة محمد هذه صفتهم، ومن كثرة ما يرزقون في العلم كأنهم أنبياء، الحلم جزء من التواضع، فليكن عمل كل منا مع أخيه على هذا النحو التواضع والحلم والإغضاء أي المسامحة على الإساءة، أي ينبغي أن يكون المؤمنون متعاملين فيما بينهم على التغاضي والعفو والسماح. والحلم بالتحلم معناه الحلم يكتسب، وهو مطلوب مع الناس مع الصالح والطالح لأنه بالحلم قد يلين الغليظ الجاف. بعض الناس يكونون شرسين ثم يتعلمون ويتقون فيصيرون حلماء كثير من الأولياء كانوا شرسين ثم لما سلكوا طريقة الأولياء تغيروا. والتواضع يدعو إلى التطاوع. والتطاوع أن يوافق كل واحد أخاه ولا يترفع عليه ولا يسيء الظن به، وإذا خالف رأيه رأي أخيه يتهم رأي نفسه، ويقول رأي أخي هذا أحسن، فينظر فيه، فإن تيقن أنه خطأ ينبهه، فليلزم أحدنا نفسه أن يتواضع لأخيه لا أن يكون مترفعاً عليه، رئيساً عليه، قائدا له إلى آرائه. أبو ذر الغفاري كان تقيا وجريئاً لكنه كان ضعيفاً. الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: “يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً فلا تولين على اثنين ولا تولين مال يتيم”. الرئاسة صعبة. وقال فيه صلى الله عليه وسلم “يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث يوم القيامة وحيداً”. هو أبو ذر كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ينفرد، كان شديد لزهد يقول للناس لماذا تمسكون المال انفقوه فصار بينه وبين الناس خلاف فذهب إلى بادية بعيدة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام “المؤمن كالجمل الأنف” الأنف معناه الذي في أنفه قرح ويوضع فيه حبل إذا قاده طفل ينقاد كما ينقاد للفارس الكبير، وهكذا المؤمن ينقاد لإخوانه إلا إذا قِيد لمعصية. الترفع لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة فالنفس تحت الترفع إلا من خالفها لوجه الله تعالى، فالشخص الذي يخالف نفسه يكون متواضعاً مع عباد الله التواضع مطلوب حتى الرجل في البيت إن خدم نفسه وخدم زوجته بدل أن ينتظر خدمتها هذا أفضل.

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة، فأذن لي، وقال: “لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك” فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا وفي رواية: وقال: أشركنا يا أخي في دعائك رواه أبو داود.

والذي يوصل إلى التطاوع التواضع. وليكن أحدنا كما فعل سيدنا علي رضي الله عنه، كان في جيش خالد بن الوليد في حرب الردة، كان سيدنا خالد هو قائدهم مع ما بين خالد وسيدنا علي في رفعة القدر، الذي لا يتواضع لا يترقى، لأن ترك التواضع حاجز بين الشخص وبين الترقي.