الخميس مارس 28, 2024

المطلب الرابع 

 التمايز بين المسلم المنـزه والمشبه المجسم الجهوي

ذلك أنك لو سئلت من هو المسلم؟ لقلت: هو المنـزه الموحد الذي ينفي عن الله الشبيه والجسمية والكيفية، والأعراض التي هي صفات الخلق من حركة وسكون واجتماع وافتراق واتصال وانفصال إلى غير ذلك مما لا يجوز في حق الخالق سبحانه، إلى غير ذلك مما هو شرط في صحة الإيمان، من نحو الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فلا يدخل المشبه بهذا الوصف لأنه يعبد جسما سواء تخيله في باله أم لم يتخيله، لكنه في المحصلة يعتقد أنه يعبد حجما كثيفا كالإنسان والحجر وغيرهما مما يمسك باليد، وسواء في ذلك اعتقد أنه كشىء من أعيان الأجسام الكثيفة التي يراها أو يتخيلها أم اعتقد أنه يخالفها في الشكل والكيف والحجم لكنه في النهاية يتصوره جسما، وسواء قال هو مركب أم ليس مركبا، وكذا لو اعتقد أنه جسم لطيف أي لا يمسك باليد كالضوء والظلام والروح والريح ونحو ذلك، وسواء حدد لمعبوده واحدة من هذه الكيفيات أم لم يحدد، لكنه اعتقده جسما لطيفا فهذا كافر ما شم رائحة الإيمان.

ثم هو لا يختلف عمن اعتقد أن معبوده صنم يراه أمامه ويعبده، لأن هذا العابد للصنم لو جعل صنمه في خزانة أو رفعه على سطح بيته أو برج إيفل أو فوق شاهق جبل أو أرسله في قمر صناعي إما ليبقى فيه أو ليجعل على سطح القمر أو غيره، فإنه يبقى وثني يعبد صنما وصورة، هذه حقيقته، وكذلك عابد جسم يتخيل أنه بذاته فوق العرش ساكن أو في السماء السابعة وسواء اعتقده مستقرا ثابتا كالزمن لا يستطيع الحراك أم اعتقده يتحرك ويتحول من حال إلى حال وينتقل فإنه لم يعرف الله ولم يعبده.

وفي هذا قال إمام الحرمين رحمه الله: «فذهبت طوائف إلى وصف الرب بما يتقدس في جلاله عنه، من التحيز في جهة حتى انتهى غلاة إلى التشكيل والتمثيل تعالى الله عن قول الزائغين. والذي دعاهم إلى ذلك طلبتهم ربهم من المحسوسات، وما يتشكل في الأوهام ويتقدر في مجاري الوساوس، وخواطر الهواجس ، وهذا حيد[(990)] بالكلية عن صفات الإلهية، وأي فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية» [(991)] اهـ.

وها هو القرطبي يكشف في تفسيره لقوله تعالى: {…فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ… *} [(992)] خطورة ما ذهبت إليه المشبهة فينقل عن شيخه أبي العباس رحمة الله عليه أن «من متبعي المتشابه من يتبعه طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك، وأن الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد»[(993)] اهـ.

وقال الملا علي القاري: «وما أحسن المثل المضروب لمثبت الصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، فالمعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما»[(994)] اهـ.

وقال البغدادي: «وإنما تبرؤوا – أي أهل السنة – من أهل الملل الخارجة عن الإسلام، ومن أهل الأهواء الضالة مع انتسابها إلى الإسلام، كالقدرية والمرجئة والرافضة والخوارج والجهمية والنجارية والمجسمة»[(995)] اهـ.

وقال الحافظ المدقق البحر العلامة ابن الجوزي: «وإنما يقع الإشكال في وصف من له أشكال، وإنما تضرب الأمثال لمن له أمثال، فأما من لم يزل ولا يزال فما للحس معه مجال، عظمته عظمت عن نيل كف الخيال، كيف يقال له كيف، والكيف في حقه محال، أنى تتخايله الأوهام وهي صنعه، كيف تحده العقول وهي فعله، كيف تحويه الأماكن وهي وضعه، انقطع سير الفكر، وقف سلوك الذهن، بطلت إشارة الوهم، عجز لطف الوصف، عشيت عين العقل، خرس لسان الحس، لا طور للقدم في طور القدم، عز المرقى فيأس المرتقى، بحر لا يتمكن منه غايص، ليل لا يبين للعين فيه كوكب.

مرام شط مرمى العقل فيه

فدون مداه بيد لا تبيد

جادة التسليم سليمة، وادي النقل بلا نقع، انزل عن علو غلو التشبيه ولا تعل، قلل أباطيل التعطيل، فالوادي بين جبلين. المشبه متلوث بفرث التجسيم، والمعطل نجس بدم الجحود، ونصيب المحق لبن خالص هو التنزيه ، تخمر في نفوس الكفار حب الأصنام، فجاء محمد فمحا ذلك بالتوحيد، وتخمر في قلوب المشبهة حب صورة وشكل حييت فمحوتها بالتنزيه، والعلماء ورثة الأنبياء، ما عرفه من كيَّفه، ولا وحَّده من مثَّله، ولا عبده من شبَّهه ، المشبه أعشى والمعطل أعمى»[(996)] اهـ.

وقال أيضًا: «وكل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر، فإن المجسمة دخلوا في ذلك لأنهم حملوا أوصافه على ما يعقلون»[(997)] اهـ.

وقال: «ومن تأمل حال بني إسرائيل رآهم قد أمروا بقول حطة، فقالوا: حنطة، وقيل لهم: {…ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا… *} [(998)] فدخلوا زحفا، وقالوا عن نبيهم: هو آدر[(999)].

ومن مذهبهم التشبيه والتجسيم، وهذا من أعظم التغفيل، لأن الجسم مؤلَّف ولا بد للمؤلَّف من مؤلِّف» [(1000)] اهـ.

وقال الشيخ تقي الدين الحصني: «الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة» [(1001)] اهـ.

فأما أن يقال إن لله كيفا لكن نحن لا نستطيع أن نحدد ذلك الكيف فهو ضلال مبين، وهو تشبيه لله بخلقه من بعض الوجوه لأن الكيف معناه صفات الخلق، وإنما الذي يجب اعتقاده والقطع به أن الله تعالى لا كيف له بالمرة، فهو رب الكيف ورب الصور والهيئات والأشكال والألوان والأحجام.

ويقول أبو المظفر الأسفراييني: «والكرامية من جملة المشبهة لقولهم: بأنه جسم وله حد ونهاية، وأنه محل الحوادث، وأنه مماس للعرش ملاق له، فهؤلاء كلهم مشبهة ذاته بالذوات ، وأما مشبهة الصفات فهم المعتزلة البصرية الذين أثبتوا إرادة حادثة كإرادات الإنسان، قالوا: إنها من جنس إرادتهم، وشبهوا كلامه بكلام الخلق، وقالوا: أنه عرض حال في جسم، وكذلك الكرامية شبهوا في الصفات، فقالوا: إن إرادته وقوله عرض حادث من جنس كلام الخلق وإرادتهم.

والزرارية من الروافض أتباع زرارة بن أعين، زعموا أن حياته وعلمه وقدرته وسمعه وبصره كحياة الخلق وعلمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم، وزعموا أنها كلها حادثة مثل صفات الأجسام.

والشيطانية من الروافض زعموا أن الله تعالى لا يعلم الشىء قبل أن يكون حتى يكون، وأنّ علمه محدث كعلوم العباد، ومن تأمل قول هؤلاء المشبهة علم كفرهم وضلالتهم ولم يبق له في ذلك شبهة فاستغنى بذكرها عن إقامة الحجة عليها» [(1002)] اهـ.

وقال الذهبي في تاريخه: «عبيد الله بن المحدث عبد الله بن الحسين البصري القاضي أبو القاسم المروزي قاضي نسف، قال المستغفري: كان صلب المذهب، لما دخل سبكتكين صاحب غزنة إلى بلخ، دعا فقهاءها إلى مناظرة الكرامية، وكان منهم القاضي عبيد الله، وهو يومئذ على قضاء بلخ، فقال سبكتكين: ما تقولون في هؤلاء الزهاد الأولياء يعني الكرامية؟ فقال القاضي: هؤلاء كفار. فقال: ما تقولون في إن كنت أعتقد مذهبهم؟ فقال: قولنا فيك كقولنا فيهم، فقام وضربهم بطبرزين حتى أدماهم، وشبح القاضي وقيدهم وحبسهم، ثم خاف الملامة فأطلقهم، وتوفي القاضي سنة ثمان وثمانين»[(1003)] اهـ.

وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم: «قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله تعالى وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته، لدلالة السمع عندهم على هذا وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا .

قال القاضي عياض رحمه الله : ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه مما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له، فإذن ما عرفوا الله سبحانه»[(1004)] اهـ.

[990]   العقيدة النظامية (ص/).

ـ[991]   سورة آل عمران: جزء من الآية 7 .

ـ[992]   تفسير القرطبي (4/13 – 14).

ـ[993]   الرد على القائلين بوحدة الوجود (ص/45).

ـ[994]   الفرق بين الفرق (ص/354).

ـ[995]   المدهش (ص/137 – 138).

ـ[996]   صيد الخاطر (ص/256)، فصل: قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين كفر.

ـ[997]   سورة النساء: 154 .

ـ[998]   الأدرة وزان غرفة انتفاخ الخصية، يقال: أدر يأدر من باب تعب فهو آدر، والجمع أدر، مثل أحمر وحمر. المصباح المنير (ص/9).

ـ[999]   التبصرة (1/491).

ـ[1000]  دفع شبه من شبه وتمرد (ص/18).

ـ[1001]  التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية (ص/120 – 121).

ـ[1002]  تاريخ الإسلام (27/168).

ـ[1003]  شرح النووي على صحيح مسلم (1/199 – 200).

ـ[1004]  المعيار المعرب (11/231).