التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث
تحقيق البيان في سبحة أهل الإيمان
لخادم علم الحديث الشريف
الشيخ عبد الله الهرري
المعروف بالحبشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وهو حسبنا وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما على نبينا محمد المصطفى وعلى ءاله وصحبه بصلوات زاكيات تشمل من بإحسان اقتفى.
أما بعد: فقد روينا من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا [5]: “إن محرم الحلال كمحل الحرام”.
فمن هنا انبغى الاعتدال في الجانبين وتحقيق المقام، خطورة التسرع إلى تضعيف حديث أو عكسه، وتعقب كلام ناصر الألباني فيما كتبه في مجلة التمدن الإسلامي الصادرة في جمادى الآخرة من سنة 1375هـ.
ثم أعاد نشر ذلك فيما بعد في سلسلته المسماة “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة” [1/95]، وقد طبعت هذه السلسلة مرارا مع إصراره على أخطائه الحديثية والفقهية العديدة تعصبا للرأي واتباعا للهوى كما سيظهر لك جليا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
قال الألباني [6] ما نصه: “نعم المذكر السبحة”.
[موضوع] أخرجه الديلمي في “مسند الفردوس” قال: أخبرنا عبدوس بن عبد الله، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن فتحويه الثقفي، ثنا علي بن محمد بن نصرويه، ثنا محمد بن هارون بن عيسى بن المنصور الهاشمي، حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي، حدثني عبد الصمد بن موسى، حدثتني زينب بنت سليمان بن علي، حدثتني أم الحسن بنت جعفر بن الحسن، عن أبيها، عن جدها، عن علي مرفوعا. ذكره السيوطي في رسالته “المنحة في السبحة” [ص141/2] من الحاوي [7]، ونقله عنه الشوكاني في “نيل الأوطار” [2/166-167] وسكتا عليه. قلت: وهذا إسناد ظلمات بعضها فوق بعض [8]، جل رواته مجهولون بل بعضهم متهم: أم الحسن بنت جعفر بن الحسن لم أجد من ترجمتها، وزينب بنت سليمان بن علي ترجمها الخطيب في تاريخه [14/434] وقال: “كانت من فضائل النساء”، وعبد الصمد بن موسى هو الهاشمي ترجمه الخطيب [11/41] ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، ولكن نقل الذهبي في “الميزان” عن الخطيب أنه قال فيه: “قد ضعفوه” فلعل ذلك في بعض كتبه الأخرى. ثم قال الذهبي: “يروي مناكير عن جده محمد بن إبراهيم الإمام”، قلت: فلعله هو ءافة هذا الحديث…”، ثم قال الألباني: “فثبت أنه بإسناد ضعيف لا تقوم به حجة، ثم إن الحديث من حيث معناه باطل عندي لأمور: الأول أن السبحة بدعة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما حدثت بعده صلى الله عليه وسلم…، الثاني أنه مخالف لهديه” انتهى كلام الألباني.
أقول: هنا مخالفة خالفت بها قواعد الحديث المقررة في علم الاصطلاح احتججت على الحكم بالوضع بجهالة الراوي ونكارته أي روايته للمناكير، فهل رأيت أحدا من أئمة الحديث عد من موجبات الوضع الجهالة والنكارة؟ بل الأمران من أسباب الضعف الوسطى. فالجهالة من القسم الذي إذا تابع صاحبه غيره ممن هو مثله أو فوقه انجبر ضعفه وصار حديثه مقبولا حسنا، قال الحافظ السيوطي في “تدريب الراوي” [9] عند قول صاحب المتن وهو النووي: “إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه ءاخر وصار حسنا وكذا إذا كان ضعفها لإرسال..” ما نصه: “أو تدليس أو جهالة رجال كما زاده شيخ الإسلام” ا.هـ، وهذا نص صريح من الحافظ ابن حجر فيما قلنا: “من أن جهالة الراوي من الضعف الذي يزول بموافقة راو ءاخر له”.
فقد تحققت مخالفتك لأهل الحديث وبطل تمسكك في الحكم بالوضع على هذا الحديث بكون بعض رواته مجهولا.
وأما النكارة: فقد أخرج مسلم في صحيحه [10] في المتابعات لمن قال فيه بعض أهل الجرح: “روى مناكير” وهو أبو زكير [11].
قال الحافظ العراقي في شرح ألفية الحديث [12] عند تقسيم المنكر إلى قسمين عند شرح قوله في المتن: نحو “كلوا البلح بالتمر” ما نصه: “فالأول مثال للفرد الذي ليس في راويه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده، وهو رواه النسائي [13] وابن ماجه [14] من رواية أبي زكير يحيى بن محمد بن قيس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كلوا البلح بالتمر فإن ابن ءادم إذا أكله غضب الشيطان”، الحديث، قال النسائي: هذا حديث منكر، قال ابن الصلاح [15]: “تفرد به أبو زكير وهو شيخ صالح، أخرج عنه مسلم في كتابه غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده” انتهى، وإنما أخرج له مسلم في المتابعات: انتهى كلام العراقي. وقال الحافظ العراقي أيضا في نكته [16] على ابن الصلاح ما نصه: “وأورد له ابن عدي أربعة أحاديث مناكير” ا.هـ.
قال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح [17]: “وقول الخليلي [18]: إنه شيخ صالح، أراد به في دينه لا في حديثه لأن من عادتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك فقالوا: صالح الحديث، فإذا أطلقوا الصلاح فإنما يريدون به في الديانة، والله أعلم” ا.هـ.
وقال الحافظ العراقي في شرح ألفيته [19] في مبحث بيان مراتب الجرح والتعديل بعد أن ذكر منها ثلاثا ما نصه: “و كل من قيل فيه ذلك من هذه المراتب الثلاث لا يحتج بحديثه ولا يستشهد به ولا يعتبر به. المرتبة الرابعة: فلان ضعيف، فلان منكر الحديث، أو حديثه منكر، أو مضطرب الحديث، وفلان واه، وفلان ضعفوه، وفلان لا يحتج به” ا.هـ.
ثم قال [20] أي العراقي: “وقولي: [وكل من ذكر * من بعد شيئا] أي من بعد قولي لا يساوي شيئا فإنه يخرج حديثه للاعتبار وهم المذكورون في المرتبة الرابعة والخامسة” ا.هـ.
فهذا تصريح منه بأن من قيل فيه: “يروي مناكير” ليس بساقط بحيث لا تنفعه متابعة راو ءاخر له فيما رواه. فهذا الإمام مسلم قد روى في صحيحه حديث أبي زكير في المتابعات مع كونه ممن وصف برواية المنكر.
قال الحافظ السيوطي في “التدريب” عند ذكر النووي ألفاظ الجرح بقوله: ((وإذا قالوا: “ضعيف الحديث” فدون “ليس بقوي” ولا يطرح بل يعتبر به)) ما نصه [21]: “ومن هذه المرتبة فيما ذكره العراقي: ضعيف فقط، منكر الحديث، حديث منكر، واه، ضعفوه” ا.هـ.
قال الحافظ العراقي [22] أيضا في نكته على ابن الصلاح ما نصه: “وأما ألفاظ التجريح فمن المرتبة الأولى وهي ألين التجريح قولهم: فلان فيه مقال، وفلان ضعف وفلان تعرف وتنكر، وفلان ليس بالمتين، أو ليس بحجة، أو ليس بعمدة، أو ليس بالمرضي. وفلان للضعف ما هو، وسيء الحفظ، وفيه خلف، وطعنوا فيه، وتكلموا فيه. ومن الرتبة الثانية وهي أشد من الأولى: فلان واه، فلان ضعفوه، فلان منكر الحديث” ا.هـ.
قال الحافظ ابن حجر في النخبة [23] ما نصه: “وإن وقعت المخالفة مع الضعف فالراجح يقال له المعروف، ومقابله يقال له المنكر” ا.هـ.
فما تقرر في تعريف المنكر هو اصطلاح عام عندهم، وأما البخاري فقد نسب إليه السيوطي [24] أنه يطلق فلان منكر الحديث فيمن لا تحل الرواية عنه أي في تاريخه، فهذا إن صح عنه فاصطلاح خاص في ذلك الكتاب، و”الميزان” الذي عليه الاستعمال هو الاصطلاح العام وإلا فالبخاري نفسه روى في الأدب المفرد عن أبي زكير الموصوف برواية المنكر، وروى له أيضا أبو داود في المراسيل وغيره.
فالحاصل: أن المنكر شيء والموضوع شيء ءاخر، فلا يحكم بكون الحديث موضوعا بمجرد كون الراوي منكرا أو مجهولا [25] ولا بمجرد كونه يكذب، فمن فعل ذلك فقد خالف علم الحديث. قال الحافظ العراقي [26] في شرح ألفيته ما نصه: “إذ مطلق كذب الراوي لا يدل على الوضع إلا أن يعترف بوضع هذا الحديث بعينه أو ما يقوم مقام اعترافه” ا.هـ.
وقال الحافظ في شرح النخبة [27] عند ذكر القرائن التي يدرك بها الموضوع ما نصه: “ومنها ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضا لنص القرءان أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل” ا.هـ.
فاذكر لنا أي هؤلاء معك؟ فليت شعري أي عقل يحيل إحالة مقطوعا بها وجود السبحة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيحض عليها؟ فهل يتوقف صحة وجود الشيء عقلا في زمن على صحة النقل والسمع به؟ والجائز العقلي هو ما عرف بقولهم: “هو ما يتصور في العقل وجوده وعدمه” والمحال العقلي ما عرف بقولهم: “ما لا يتصور في العقل وجوده” فأين برهان عقلي يقطع بنفي وجودها في ذلك العهد. فقد أخرج السيوطي في الجامع الكبير [28] إقرار عمر رضي الله عنه لبعض من كان يستعملها، فما كان موجودا في زمن الصحابة فلا يستبعد وجوده في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان مشهورا أم لا، فأين الاستحالة التي زعمتها فيما سيأتي بقولك “فكيف يعقل إلخ”؟.
وعلى فرض عدم وجودها في ذلك العصر فلا استحالة عقلا في أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على شيء ليس بمعروف لهم ليعمل به إذا وجد، فقد رغب صلى الله عليه وسلم في الشيء لم يكن معروفا فيما بينهم وسيعرف بعده، وحذر عن الشيء لم يوجد وسيوجد بعده، ومثال ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لحض الصحابة عليه مما لا يعرفونه في الحال ما أخرجه السيوطي في “الخصائص” قال ما نصه [29]: “أخرج ابن عساكر عن نبيط الأشجعي قال: لما نسخ عثمان المصاحف قال له أبو هريرة: أصبت ووفقت أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أشد أمتي حبا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني يعملون بما في الورق المعلق” فقلت: أي ورق حتى رأيت المصاحف، فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا” ا.هـ.
قال السيوطي في “تدريب الراوي” [31] ما نصه: “وفي لفظ للحاكم [32] من حديث عمر: “يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه”، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا” ا.هـ، ففيه حض للصحابة على شيء لم يكونوا يعرفونه بتلك الهيئة إذ ذاك وتشويقهم ليعتنوا به إذا رأوه.
وحديث مسلم [33] وأبي داود [34] عن النواس بن سمعان الكلابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثم ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق” وأخرجه الطبراني [35] من حديث أوس بن أوس، ولم يكن الصحابة في ذلك الوقت يعرفون المئذنة التي هي المنارة. قال ابن منظور في “اللسان” [36]: “والمنارة التي يؤذن عليها هي المئذنة” ا.هـ. فتضمن ذكره صلى الله عليه وسلم للمنارة ولا يعرفونها إذ ذاك الحض عليها، ولم يكن بحوالي دمشق في ذلك الوقت منارة وإنما كان يؤذن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو سطح البيت كما في حديث [37] بلال رضي الله عنه، ولهذا نرى المسلمين يعتنون ببنائها، والأمة معصومة عن الخطإ والضلال فيما أجمعت عليه.