التصوف والصوفية
قال الله تعالى: {وأمَّا مَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النَّفسَ عَنِ الهوى* فإنَّ الجنَّةَ هيَ المأوى} [سورة النازعات]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا شهدوا لم يُعرفوا، أولئك هم أئمة الهدى ومصابيح العلم” رواه أبو نعيم.
اعلم أن اسم الصوفي لم يكن في الصدر الأول، لكن المعنى كان موجودًا، فقد ثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “اخشوشنوا وتمعددوا” ومعنى “اخشوشنوا” أي الزموا خشونة العيش أي لا تتنعموا، وأما قوله “تمعددوا” فهو التشبه بمعد بن عدنان أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم الذين كانوا على الإسلام، وكان ذا شهامة وملازمة لخشونة العيش.
يقول الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية عن التصوف: “الخروج عن كل خُلق دني، والدخول في كل خُلق سني”.
ويقول الإمام القشيري في وصف الطائفة الصوفية: “فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه”.
وعن أبي الحسن الفرغاني قال: سألت أبا بكر الشبلي ما علامة العارف؟ فقال: صدره مسروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح، قلت: هذه علامة العارف، فمن العارف؟ قال: العارف الذي عرف الله عز وجل، وعرف مراد الله عز وجل على ما ورد في كتاب الله، وعمل بما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله عز وجل. فقلت: هذا العارف، فمن الصوفي؟ فقال: من صفا قلبه فصفى، وسلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا. قلت له: هذا الصوفي، ما التصوف؟ قال: تصفية القلوب لعلام الغيوب. قلت له: أحسن من هذا ما التصوف؟ قال: تعظيم أمر الله، والشفقة على عباد الله. فقلت له: أحسن من هذا من الصوفي؟ قال: من جفا عن الكدر، وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر، وتساوى عنده الذهب والمدر [أي التراب].
وقيل: التصوف الجد في السلوك إلى ملك الملوك.
وقال الحافظ أبو نعيم: “التصوف أحوال قاهرة، وأخلاق طاهرة تقهرهم الأحوال فتأسرهم، ويستعملون الأخلاق فتطهرهم، تحلوا بخالص الخدمة، فكفوا عن طوارق الحيرة، وعصموا عن الانقطاع والفترة، لا يأنسون إلى بالله، ولا يستريحون إلا بحبه، فهم أرباب القلوب المراقبون للمحبوب، والتاركون للمسلوب، سلكوا مسلك الصحابة والتابعين ومن نحى نحوهم من المتقشفين والمتحققين، والمميزين بين الإخلاص والرياء، والعارفين بالخطرة والهمة والعزيمة والنية، والمحاسبين للضمائر، والمحافظين للسرائر، المخالفين للنفوس، والمحاذرين من الخنوس [5] بدائم التفكر، وقائم التذكر، طلبًا للتداني، وهربًا من التواني، لا يستهين بحرمتهم إلا مارق، ولا يدعي أحوالهم إلا مائق، ولا يعتقد عقيدتهم إلا فائق، ولا يحسن إلى موالاتهم إلا تائق، فهم سرج الآفاق، والممدود إلى رؤيتهم بالأعناق، بهم نقتدي، وإياهم نوالي إلى يوم التلاق”.
[5] الخنوس: التأخر.
وقال معروف الكرخي: “التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق”.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: “التصوف عِلم تُعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية”.
وقيل: “التصوف الموافقة للحق، والمفارقة للخلق”.
وقال سيد الطائفة الإمام الجنيد البغدادي: “التصوف صفاء المعاملة”.
وقيل: “التصوف الانكباب على العمل تطرقًا إلى بلوغ الأمل”.
وقال أبو بكر الطمستاني: “الطريق واضح، والكتاب والسنة قائمان بين أظهرنا، فمن صحب منا الكتاب والسنة، وتغرّب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله تعالى، فهو الصادق المصيب”.
وقيل: “التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واتباع الرسول في الشريعة النقية”.
وقيل: “التصوف الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمير للوصول”.
وسئل الجنيد بن محمد البغدادي رحمه الله عن التصوف فقال: “اسم جامع لعشرة معانٍ، الأول: التقلل من كل شيء من الدنيا عن التكاثر فيها، والثاني: اعتماد القلب على الله عز وجل من السكون إلى الأسباب، والثالث: الرغبة في الطاعات من التطوع في وجود العوافي، والرابع: الصبر على فقد الدنيا عن الخروج إلى المسألة والشكوى، والخامس: التمييز في الأخذ عند وجود الشيء، والسادس: الشغل بالله عز وجل عن سائر الأشياء، والسابع: الذكر الخفي عن جميع الأذكار، والثامن: تحقيق الإخلاص في دخول الوسوسة، والتاسع: اليقين في دخول الشك، والعاشر: السكون إلى الله عز وجل من الاضطراب والوحشة، فإذا استجمع هذه الخصال استحق بها الاسم وإلا فهو كاذب”.
ويقول رويم بن أحمد: “التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختبار”.
وقيل: “التصوف المنافسة في نفائس الأخلاق، وفض النفس عن أنفس الأعلاق”.
وسئل أبو همام عبد الرحمن بن مجيب الصوفي عن الصوفي فقال: “فالصوفي لنفسه ذابح، ولهواه فاضح، ولعدوه جارح، وللخلق ناصح، دائم الوجل، يحكم العمل، ويبعد الأمل، ويسد الخلل، عذرهُ بضاعة، [أي يتهم نفسه أنه من أهل التقصير] وحزنه صناعة، وعيشه قناعة، بالحق عارف، وعلى الباب عاكف، وعن الكل عازف”.
وقيل: “التصوف ابتغاء الوسيلة، إلى منتهى الفضيلة”.
وسُئل ذو النون المصري عن الصوفي فقال: “من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق”.
وقال بعضهم في وصفهم: “لهم الأحوال الشريفة، والأخلاق اللطيفة، مقامهم منيف، وسؤالهم ظريف، هم المنبسطون جهرًا، المنقبضون سرًا، يبسطهم رَوْحُ الارتياح والاشتياق، ويقلقهم خوف القطيعة والفراق، والحاكمون بالعدل، هم مصابيح الدجى وينابيع الرشد والحِجى، خُصوا بخفي الاختصاص، ونقوا من التصنع بالإخلاص، هم الشغِفون به وبوده، والمكلفون بخطابه وعهده، هم المصونون عن مرافقة حقارة الدنيا بعين الاغترار، المبصرون صنع محبوبهم بالفكر والاعتبار، إنهم سُباق الأمم والقرون، وبإخلاصهم يمطرون وينصرون، وإن ليقينهم تنفلق الصخور، وبيمينهم تتفتق البحور، إنهم المضرورون في الأطعمة واللباس، المبرورة أقسامهم عند النازلة والباس، نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى بهجتها وزينتها فوضعوها”.
وقيل: “التصوف: قطع العلائق والأخذ بالوثائق”.
فالصوفي من كان عاملاً بشريعة الله تبارك وتعالى وخالف هواه، من لا يتبع نفسه الهوى في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، بل يقتصر على القدر الذي يحفظ صحة جسده من المأكل والمشرب والملبس، مع بذل الجهد في عبادة الله تبارك وتعالى في اداء الفرائض، والإكثار من النوافل.
وأنشدوا: [الخفيف]
عمدة الدين عندنا كلماتٌ *** أربعٌ قالهنَّ خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما *** ليس يعنيك واعملنَّ بنية
يقول الجنيد: “طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، إذ الطريق إلى الله مسدود إلا على المقتفين ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ويقول سهل التستري: “أصول مذهبنا [يعني الصوفية] ثلاثة: اقتداء بالنبي في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال”.
وفي هذا بيان أن التصوف الحقيقي ليس فقط لبس الصوف دون اتباع للشرع الشريف بل الصوفي الحقيقي هو الذي يتبع الحق ويؤدي حقوق الله عليه، وفي ذلك أنشدوا: [البسيط]
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه *** ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدرٍ *** وتتبع الحق والإسلام والدينا
وكان سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه إذا رأى على فقير جبة صوف يقول له: “يا ولدي انظر بزي من تزييت، وإلى من انتسبت، قد لبست لبسة الأنبياء وتحليت بحلية الأتقياء، هذا زي العارفين فاسلك فيه مسالك المقربين وإلا فانزعه”.
ويروى عن السري السقطي أنه قال: “المتصوف اسم لثلاث معانٍ: هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه الكتاب أو السنة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله”.
ويقول الإمام الرفاعي: “الصوفي هو الفقيه العامل بعلمه، وعلى هذا قالوا ما اشتهر في وصفهم: الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى، وأذاق النفس طعم الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا”.
وقال الجنيد: “ما أخذنا التصوف بالقال والقيل ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والمستحسنات”.
فالتصوف حاصله اتصاف بالمحامد، وترك الأوصاف المذمومة مع الزهد في المأكل والملبس وقبل ذلك كله الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بأداء الفرائض واجتناب المحرمات. فالصوفية موصوفون بأنهم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخذان [6]، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعرَوا الاجساد، وإنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بحسب ابن ءادم أكلات يُقمن صلبه” رواه الترمذي.
[6] جمع خدن وهو الصديق المقرب المؤتمن على الأسرار.
وأنشدوا: [الطويل]
فلو كانت الدنيا جزاءٌ لمحسنٍ *** إذًا لم يكن فيها معيشٌ لظالم
لقد جاع فيها الأولياء كرامةً *** وقد شبعت فيها بطون البهائم
ويقول الكلاباذي: “وعلى هذا سماهم قومٌ جوعية لأن الجوع من صفات القوم وهو من أهم أمور المجاهدة، ومخالفة النفس وغلبتها، فإن أرباب السلوك قد تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل إلا عند الضرورة وخشية الضرر، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، لأن الشبع يحرك شهوات الإنسان ويستثيرها، والجوع يحرك الإنسان إلى الطاعة. وكثرت الحكايات عنهم في ذلك. قال الله تعالى: {ولَنَبْلُونَّكن بشئٍ منَ الخوفِ والجوعِ ونقصٍ منَ الأموالِ والأنفسِ والثَّمراتِ وبشِّرِ الصابرين} [سورة البقرة]. فبشرهم بجميل الثواب في الصبر على مقاساة الجوع”.
قال يحيى بن معاذ: “لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره”.
وقال أبو سليمان الداراني: “جوع قليل وسهر قليل يقطع عنك الدنيا”.
واعلم أن هذا كله لمن لا يخشى على نفسه الضرر والهلاك فالمطلوب أن يأكل القدر الضروري الذي ينجيه من أن يضر نفسه ويهلكها.
وقال بشر بن الحارث: “الصوفي من صفا قلبه”.
وقال رجل لسهل بن عبد الله التستري: “من أصحب من طوائف الناس فقال: “عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكبرون، ولا يستكثرون”.
وأما تسميتهم بالصوفية فقالت طائفة: “إنما سموا صوفية لصفاء أسرارهم، ونقاء ءاثارهم”.
وقال ءاخرون: “إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن باطنهم الموصوف بالصفاء، ومن لبسهم وزيهم سموا صوفية، لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لان مسه وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة، فاكتفوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف”.
ثم هذه كلها صفة أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا غرباء فقراء مهاجرين، أخرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عُبيد فقالا: “يَخِرُّون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين”، وكان لباسهم الصوف فلما كانت هذه صفة أهل الصفة في حالهم وزيهم سموا صوفية وصُفية، وسماهم قوم فقراء، لأن أحدهم لا يملك شيئًا وإن ملكه بذله وذلك لتخليهم من الأملاك.
وقال السهروردي: “بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد عهد الصحابة من أخذ منهم العلم سمي تابعيًا، ثم لما تقادم زمان الرسالة وبعُدَ عهد النبوة وانقطع الوحي السماوي، اختلفت الآراء وتنوعت الأنحاء وتفرد كل ذي رأي برأيه وكدّر شرب العلوم شوب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكثف حجابها، وكثرت العادات، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها، تفردت طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية، وصدق العزيمة وقوة في الدين، وزهدوا في الدنيا ومحبتها، واغتنموا العزلة والوحدة، واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى أسوة بأهل الصفة تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال سنيُّ الأحوال، وتهيأ لهم صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان… فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معانٍ يعرفونها، وتُعرِبُ عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف حتى صار ذلك رسمًا مستمرًا، وخبرًا مستقرًا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسمَّوا به وسُموا به”.
ويقول الإمام الرفاعي الكبير رضي الله عنه: قيل لهذه الطائفة الصوفية، واختلف الناس في سبب التسمية وسببها غريب لا يعرفه كثير من الفقراء، وهو أن جماعة من مضر يقال لهم بنو الصوفة وهو الغوث بن مر أد بن طابخة الربيط كانت أمه لا يعيش لها ولد، فنذرت إن عاش لها ولد لتربطن برأسه صوفة وتجعله ربيط الكعبة، وكانوا يجيزون الحاج، إلى أن منَّ الله بظهور الإسلام فأسلموا وكانوا عبادًا، ونقل عن بعضهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن صحبهم سميَ بالصوفي وكذلك من صحب من صحبهم، أو تعبد ولبس الصوف مثلهم ينسبونه إليهم فيقال: صوفي، ونوّع الفقراء الأسباب فمنهم من قال التصوف الصفاء، ومنهم من قال المصافاة، وغير ذلك، وكله صحيح من حيث معناه. اهـ.
ويقول السهروردي في تسميتهم صوفية للبسهم الصوف: “وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق لأنه يقال: “تصوّف” إذا لبس الصوف وقال: ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عالٍ إلى أعلى منه.. وأبواب المزيد علمًا عليهم مفتوحة وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم، فلما تعذر تقيدهم بحال تقيدهم، لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم، نسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين من الإشارة إليهم، وأدعى إلى حصر وصفهم، لأن الصوف كان غالبًا على المتقدمين من سلفهم، وأيضًا لأن حالهم حال المقربين ولما كان الاعتزاء إلى القرب أمر صعب يعزّ كشفه والإشارة إليه، وقعت الإشارة إليه وتتداوله الألسنة، فكان هذا أقرب إلى الادب، والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية”.
فيه معنى ءاخر: “وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا، وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم، حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم، يوطن نفسه على التقشف والتقلل، ويعلم أن المأكول أيضًا من جنس الملبوس، فيدخل في طريقهم على بصيرة، والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم أولى”.
وقيل: “إنهم لما ءاثروا الذبول والخمول والتواضع والإنكسار والتخفي والتواري كانوا كالخرقة الملقاة والصدفة المرمية التي لا يُرغب فيها ولا يلتفت إليها، فيقال صوفي نسبة إلى الصوفة كما يقال كوفي نسبة إلى الكوفة، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم والمعنى المقصود به قريب ويلائم الاشتقاق، ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد” انتهى كلام السهروردي.
وعلى هذا فإن طرق الصوفية طرق سنية، موافقة للشريعة المحمدية، وفي ذلك يقول الشعراني في كتاب لواقح الأنوار القدسية: “إياك أن تقول إن طرق الصوفية لم يأت بها كتاب ولا سنة فإنها أخلاق محمدية”.
فهاك ما ذكرناه عن أعيانهم وساداتهم ما يُظهر لك حقيقة أمرهم، ظاهره وباطنه مما يقوي عندك اليقين أنهم صفوة القوم، وما ذاك إلا باقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.