بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِين وصلَّى اللهُ علَى سيِّدنا محمَّد وعلَى ءالِه وصَحْبِه الطيِّبِين الطاهِرِين.
وبعدُ،
فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عليه وسلَّم (أكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءادَمَ مِنْ لِسَانِهِ) مَعْنَاهُ أَنَّ أَكْثَرَ الذُّنوبِ تَكُونُ مِنَ اللِّسَانِ، وَمِنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ، وقد َقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّكَ مَا تَزَالُ سَالِمًا مَا سَكَتَّ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ عَلَيْكَ أَوْ لَكَ) رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ ابنُ أَبِي الدُّنْيا في كِتَابِ الصَّمْتِ.
وعَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعالَى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر﴾ وبالحَدِيثِ الشَّرِيفِ: (مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيْمَانِ) فَإِنَّا نُحَذِّرُكُم مِن عِبارَةٍ فاسِدَةٍ شاعَت علَىْ ألْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وهِيَ قَوْلُهم: (كُلّ النّاس خَير وبَرَكة).
فإطلاقُ هذا القَوْلِ علَى وَجْهِ التَّعمِيمِ مِمَّن يَفْهَمُ مِنها ظاهِرَها بِمَعْنَى أنَّ المؤمِنِين والكافِرِينَ مِن النّاسِ أَو بِمَعْنَى أَنَّ الصَّالِحِينَ والطَّيِّبِينَ والفُجَّارَ والغَشَشَة علَى حَالٍ حَسَنَةٍ عِندَ اللهِ كُفْرٌ فيه رَدٌّ للقرءان والحديث والإجماع.
أوَّلاً:
قال الله تعالى في القرءان الكريم حِكايةً عن حال الكفار: ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [سورة البينة: 6] أي أنَّ الكفار هم شَرّ خلْقِ الله، وقال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي أنّ الكافِرَ أحْقَرُ المخلُوقاتِ، أحقرُ ما يَدِبُّ على وجه الأرض [الأنفال: 55]، وقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلَم: 35، 36] وفي هذا إنكارٌ واستِبْعادٌ أن يَتَسَاوَى المسلِم والكافر.
وقال المفسِّرون:
في الآيةِ دليلٌ على أنَّ التَسْوِيةَ بين الْمُطِيعِ والعَاصِي غَيْرُ جَائِزةٍ، وقال: ﴿أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: 18] فالفاسِقُ هنا معناه الكافِرُ، والآية صريحةٌ في أنّ المؤمنَ والكافر لا يَسْتَوِيان، وقال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28] معناه لا يَستوي المؤمنون والكُفّار، وقال أيضًا: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [المائدة: 100] ومنه يُعلَم أنه لا يَسْتَوِي المسلم والكافر ولا الصالح والطالح، وءاياتٌ أخرى كثيرةٌ كقوله تعالى: ﴿وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ﴾ [غافر: 58] وقولِه: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الحشر: 20].
ثانيًا:
فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا يُدَهْدِهُ الْجُعَلُ بِمَنْخَرَيْهِ خَيْرٌ مِنْ ءَابَائِكُمِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي على الشّركِ، لأنّ الكفارَ الذين ماتوا في الجاهليةِ قسمانِ:
قسمٌ بَلَغَتْهُم دَعوةُ الأنبياءِ إلى توحيدِ الله وقِسمٌ لم تَبْلُغْهُم، وكلٌّ كانوا مُشْتَرِكينَ بعبادةِ غيرِ الله والعياذُ بالله تعالَى.
وهذا الحديثُ يَشْمَلُ سائرَ أنواعِ الكفّارِ لأن معنَى الكُفرِ يَشْمَلُهُ وإن كانوا بالنسبةِ لعذابِ الآخرةِ يَخْتَلِفُ حالُهم، فالذينَ ماتوا على الكُفرِ ولم تَبْلُغْهم الدعوةُ لا يُعَذِّبُهم الله بالنارِ أما الذِين بَلَغَتْهُم الدّعوةُ ولم يُسْلِمُوا فَهُم الذين يُعَذَّبونَ بالنارِ خالدينَ فيها لا يَخْرُوجون مِنها.
والجُعَلُ هو حشرةٌ صغيرةٌ سوداءُ تسوقُ القَذَر الذي يخْرُجُ من بني ءادمَ تَجْعَلُهُ حُبَيْباتٍ لِتَتَقَوَّتَ بهِ، فهذا الذي يَسُوقُهُ الجُعَلُ خيرٌ من هؤلاءِ الكُفّارِ الذينَ كانَ الناسُ في أيّامِ الجاهليّةِ َيفْتَخِرُونَ بهم يَقُولونَ: هذا جَدِّي كانَ كذا، أبي كانَ كذا، فالمعنى كُفُّوا عن الافتِخارِ بهؤلاءِ الذينَ ما يَسُوقُهُ الجُعَلُ بأنْفِهِ مِن القَذَرِ خيْرٌ منْهم لِكُفْرِهِم، وهذا الحديثُ صريحٌ في أن الكافرَ أخسُّ ما خَلَقَ الله.
وروى الحديث أبو داود وأحمد وابن حِبّان والطبراني، وقال نور الدين الهثيميُ في مَجْمَع الزوائد ورجاله رجال الصحيح.
فالكفّارُ همْ أحْقَرُ خلْقِ الله وإن كانت صورتُهُم صوْرةَ البَشَرِ وذلكَ لأنّهم أضاعوا أعْظمَ حقوقِ الله على عبادِهِ فَكَفَروا بالله عزَّ وجلَّ.
وأما ما يَروِيه بعضُ الناس على أنه مِن كلامُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو قولُهم (الناسُ سَواءٌ كأسنان الْمُشْطِ) فهو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الحافظُ ابنُ الجَوزي في الموضوعات على أنه حديث مكذوبٌ، وقال ابن عَدِيّ عنه في الكامل والسيوطيُ في اللآلئ المصنوعة: إنه موضوعٌ، كما رَدَّه ابن القيسراني في تذكرة الحفّاظ.
ثالِثًا:
الحقّ والهُدَى هو ما وَرَد في القرءان والحديثِ الصحيح الذي ذَكَرْنا ءانِفًا، والأُمّة مجُمِعَةٌ علَى ما يُوافِقُ النُصوصَ الشرعية لِقَولِه صلى الله عليه وسَلَّم: (لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي علَى ضَلالَةٍ)، فقد أجمَع المسلمون سَلَفُهم وَخَلَفُهم عامُّهم وخاصُّهم على أنّ المسلِمَ لا يُساوِيه الكافِرُ.
فالحُكم علَى قول بعض الناس (كُلّ النّاس خَير وبَرَكة) هو كما بَيَنَّا:
أنّ مَن أطْلَقها وهو يَفْهَمُ مِنها ظاهِرَها أي أنّ كُلَّ الناسِ يُساوِي بَعْضُهم بَعْضًا عِند الله أو أنّ كُلَّ الناس فِيهِم خَيْرٌ مِن حَيث الدِّينُ وفِيهم بَرَكةٌ أي لهم فَضْلٌ ودَرَجةٌ عند الله فهذا كُفْرٌ والعياذ بالله تعالَى.
وأما مَن لم يَنْتَبِه للمَعْنَى الأصلِيّ الكُفْرِيّ إنما كان لا يَفْهَمُ معنَى الخَير والبركة الَّذَيْن يُرادانِ في الشرع بل يَفْهَمُ مِن ذلك أنّ الناسَ يَعْمَلُونَ أعْمالاً هي خَيْرٌ أي لم يَخْطُر بِبالِه عِندَ الإطلاق بالمرَّة إلا أنَّ الناسَ فِيهم ما يُنْتَفَعُ بِه مِنهُم أي أنّهم يُسْتفادُ مِنهم في أمورٍ ولم يَفْهَمُ عِندَ إطلاقِه هذِه الكَلِمَةَ معنَى الخير والبركة الَّذَين يُرادانِ في الشرع فهذا لا يُكَفَّرُ.
كذلك إن كان الشخص يَتَكَلم عن أُناسٍ مُسلمِين أو ذُكِرَ لهُ فُلانٌ وفلانٌ وفلانٌ مِن المسلِمِينَ فقال: (كلّ النّاس خَير وبرَكَة) قاصِدًا هؤلاءِ المسْلِمِينَ ويَفْهَمُ مِن ذَلِكَ أنّ المسلِمين لا يَخلو أَحَدُهم مِن الخيرِ والبَرَكة لأنه مُسلِم على عَقِيدة التوحيد فهذا أيضًا لا يُكَفَّرُ، لكنّ هذه الكَلِمةَ لا تَجُوزُ.
وسبحان الله والحمد لله والله تعالى أعلم