التجسيم في فكر بعض المنتسبين إلى الحنابلة
نعوذ بالله أن يكون غرضنا في عقد هذا المبحث هو الطعن بمذهب من مذاهب أهل السّنة المعتبرة، بل الأمر على عكسه لأن الذي دعا إلى تخصيص البحث في مسألة التجسيم في فكر بعض المنتسبين إلى الحنابلة خاصة دون غيرهم من المذاهب الفقهية، هو ميل هؤلاء المتحنبلة البعض إلى الغلوّ في التجسيم والتشبيه، ومن المقطوع به عندنا أنه لا يقول بمثل ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه ولا أركان مذهبه أمثال ابن الجوزي وشيخه ابن عقيل. والحق أن علماء الحنابلة منزَّهون عن هذا الغلوّ، وقد لهجوا بالبراءة منه واجتهدوا في تبرئة إمامهم منه أيضًا، وفي ذلك يقول ابن الجوزيّ كلامًا([1]) ينبغي أن يكتب بماء الذهب نعيده مع أننا ذكرناه خلال الكتاب لعظيم فائدته.
«اعلم وفقك الله تعالى أني لما تتبَّعت مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى رأيته رجلًا كبير القدر في العلوم، قد بالغ -رحمة الله عليه- في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه، إلا أنه على طريق السلف، فلم يصنّف إلا المنقول، فرأيت مذهبه خاليًا من التصانيف التي كثر جنسها عند الخصوم… ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى بن الفرَّاء، وابن الزاغونيّ، فصنفوا كتبًا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوامّ، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهًا زائدًا على الذات، وعينين وفمًا ولهواتٍ وأضراسًا وأضواء لوجهه هي السُّبُحَات ويدين وأصابعَ وكفًّا وخنصرًا وإبهامًا وصدرًا وفخذًا وساقين ورجلين! وقالوا: ما سمعنا بذِكْرِ الرأس! وقالوا: يجوز أن يُمسَّ وَيَمَسّ([2])، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم: ويتنفّس. ثم يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل، وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء وإتيان على معنى بِرّ ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشىء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن، ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنَفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السّنة! وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، فقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل، وإمامكم الإمام الأكبر أحمد ابن حنبل كان يقول وهو تحت السّياط: «كيف أقول ما لم يُقَل». فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه… فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم أحد، إنما حمْلكم إياها على الظاهر قبيح، فلا تُدخِلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفيّ ما ليس منه. ولقد كسيتم هذا المذهب شَيْنًا قبيحًا حتى صار لا يقال حنبليّ إلا مجسّم» اهـ.
ولهج شيوخ الحنابلة المنزّهون لله تعالى عن التجسيم من قَبْلِ ابن الجوزيّ في الإنكار الشديد على أبي يعلى، حتى قالوا فيه كلمة فظيعة لا نقصد بنقلها إلا بيان غيرة أكابر هذا المذهب على مذهبهم، كما فعل شيخ الحنابلة رزق الله التميميّ، فقال في حق القاضي أبي يعلى[3] في كتابه إبطال التأويلات([4]): «لقد خرئ أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء» اهـ.
وأنت إذا تأمَّلت منزلة هذا القائل المشهود له بالرئاسة والتقدُّم في الفقه والأصول والتفسير والعربية والحشمة والهيبة وعلوّ الكعب في الوعظ، ونظرت في كتاب أبي يعلى، تعرف أن هذه الكلمة لم تصدر منه إلا لغيرته الشديدة على مذهب الحنابلة من أمر فظيع نسب إليهم بسبب أبي يعلى، فإذا وقفت على ما في كتاب أبي يعلى من إثبات الأضراس واللهوات والفخذ والساعد والساق والأبعاض، والرؤية على صورة شاب أمرد! ونحو ذلك مما هو مذكور في موضعه، علمت أن التميميّ لم يقل هذا إلا لأمر جَلَلٍ حَفَزَه فأخرجه عن الاستعمال الشائع في عُرْف الجرح والتعديل. وذلك للتنفير من عظيم شؤم هذه المفسدة التي أحدثها المجسمة وللفت الأنظار إلى براءة المذهب مما نسب إليه بسبب أولئك المشبّهة المجسّمة.
وحكى أبو الفضل التميميّ ـ كما ذكرنا سابقًا ـ اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل فقال([5]): «وأنكر على من يقول بالجسم ـ أَي في حقّ الله ـ وقال: إن الأسماء ـ أي أسماء الأشياء ـ مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم ـ أي الجسم ـ على كل ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله تعالى خارج عن ذلك كله ـ أى منزّه عن ذلك كلّه
ـ فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية – ولم يجئ في
الشريعة ـ أي لم يَرِدْ إطلاق الجسم على الله في الشرع ـ فبَطََل ـ أي بطل إطلاق ذلك على الله شرعًا ولغةً» اهـ.
ومعنى كلامه إجمالًا أنّ أسماء الأشياء تُعرف إما من اللّغة وإمّا من الشّرع، فهناك أشياءُ عُرفت أسماؤها من اللغة كالرجل والفرَس، وأشياء عُرفَت أسماؤها اصطلاحًا من طريق الشّرع مثل الصّلاة الشّرعيّة.
والجسم في اللغة يطلق على ما له طول وعرْض وسَمْك وتركيب وصورة وتأليف، والله لا يوصف بشىء من ذلك، وإلا لكان مشابهًا لخلقه، وذلك ضدّ قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} (الشورى). ثم لو كان الله جسمًا ذا طول وعرض وسَمْك وتركيب وصورة وتأليف لاحتاج لمن خصّصه بذلك الطول وذلك العرض وذلك السَّمك وذلك التركيب وتلك الصّورة، والمحتاج لا يَصحّ في العقل أن يكون إلهًا، فمعنى الجسم لا يجوز وصف الله به شرعًا ولا عقلًا، ثم هذا اللفظ أي لفظ الجسم لم يرِدْ في الشرع إطلاقه على الله، ومن المقرَّر عند علماء الكلام أنه لا يجوز في الشرع تسمية الله إلا بما سمّى به نفسَه، أي إلا بما ثبت في الشرع تسميته به، كما ذكر ذلك إمام أهل السنَّة أبو الحسن الأشعريّ([6]) وغيره، كما تقدَّم، فلا يوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وصفه به نبيّه أو أجمعت عليه الأمّة، فتبيّن بذلك بطلان إطلاق الجسم على الله تعالى، بل نُقِلَ عن الإمام أحمد نفسه الإنكار على منْ قال: الله جسم([7]). وهذا موافق لما جاء عن باقي الأئمة، فقد ثبت عن الشافعيّ تكفير المجسّم، كما نقل عنه ذلكَ السُّيوطيُّ في الأشباه والنَّظائر([8])، وفي المنهاج القويم([9]) لابن حجر الهيتميّ: «واعلم أنَّ القرافيَّ وغيرَهُ حكَوا عن الشافعيّ ومالكٍ وأحمدَ وأبي حنيفةَ القولَ بكفرِ القائلينَ بالجهةِ والتجسيم، وهم حقيقون بذلك» اهـ. أي بالتكفير، يعني تكفير من ينسب إلى الله سبحانه وتعالى الجسميةَ أو الكونَ في جهةٍ لأنّ كلّ ذلك من معاني البشر أي صفاتهم.
ومثل هذه النصوص كثيرة مذكورة في مواضعها، فنبرأ إلى الله عزَّ وجلَّ من نسبة التجسيم إلى الحنابلة المنزّهة، كما برَّأهم من ذلك الأشعرية، فقد قال الشهرستانيّ([10]): «فأما أحمد بن حنبل وجماعة من أئمة السلف فجَرَوْا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث، وسلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسّنة، ولا نتعرض للتأويل ـ أي التفصيليّ ـ بعد أن نعلم قطعًا أن الله عزَّ وجلَّ لا يشبه شيئًا من المخلوقات، وأن كل ما تمثَّل في الوهم فإنه خالقه ومقدّره» اهـ. فهذا الائتلاف بين الحنابلة والأشعرية يدل على الاتفاق على تنـزيه الله عزَّ وجلَّ.
فإن قيل: ما السبب في اختيار الغلاة لمذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه؟
الجواب أن اختيارهم ذلك يرجع إلى سببين:
الأول: أن الإمام أحمد اشتهر موقفه في محنة خلق القرآن، وطال فيها صبره وثباته حتى صار له من القبول ما دفع إلى ادّعاء الغلاة الانتساب إلى مذهبه متظاهرين بالتمسك بالأثر والسّنة. ولا يخفى أن الإمام لم يتمسَّك بالإسرائيليات والأخبار الضعيفة والمتون المنكرة كما فعل هؤلاء، واستغلوا ما كتبه الله للإمام من القبول عند العوام، فزخرفوا مذهبهم بالانتساب إليه واستثاروهم بالغيرة على مذهبه.
وقد امتحن الإمام أحمد رضي الله عنه عام 220هـ، فأريد منه أن يقول بخلق القرآن.
وهنا نتوقف لنبيّن أمرًا مهمًّا في هذه المسألة: وهو أنّ التلفظ بهذه العبارة «القرآن مخلوق» حرام لإيهامها ما لا يجوز وهو أن كلام الله الذي هو صفة ذاته مخلوق والعياذ بالله، لكن يبيَّن في مقام التعليم أن اللفظ المنـزّل الموجود في المصاحف ليس قائمًا بذات الله بل هو مخلوق لله، لأنه حروف يسبق بعضها بعضًا، وما كان كذلك فهو حادث مخلوق قطعًا، فالتلفظ بهذه العبارة «القرآن مخلوق» يوهم أنّ الصفة الأزلية مخلوقة، فمن كفّر من السلف المعتزلةَ لقولهم: «القرآن مخلوق»، فذلك لأن المعتزلة لا تعتقد أن لله كلامًا هو صفة له، بل تعتقد أن الله متكلم بكلام يخلقه في غيره كالشجرة التي سمع موسى عليه السلام عندها، فكفّروهم لذلك، لأنّهم نفوا صفة الكلام لله، وهي ثابتة له سبحانه في القرآن الكريم. وقد نُقِلَ هذا التفصيلُ عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه، حيث قال([11]): «والله يتكلم لا بآلة وحرف، ونحن نتكلّم بآلة وحرف» اهـ. فَلْيُفَهم ذلك، وليس الأمر كما تقول المشبّهة من أن السلف ما كانوا يقولون بأن الله متكلم بلا حرف وإنما هذا بدعةُ الأشاعرة، بل هذا الكلام من أبي حنيفة ثابت ذكره في إحدى رسائلِهِ الخمسِ كما تقدّم. وهذا يهدم دعواهم، وينقض شبهتهم.
ومن الأدلة الواضحة في بيان أن القرآن يُطلَقُ ويُرادُ به اللفظ المنزَّل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ {15} (الفتح) فالكفَّارُ يريدون تبديلَ اللفظِ المنزَّلِ وليس الصّفة الذّاتية، وكذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ {18} ([12]) (القيامة) أي إذا جمعناه لك في صدرك فاتبع قرآنه أي اعمل به، ويقال: قرأت الماء في الحوض أي جمعته([13]). ومن الدليلِ الصريح على أن الله تعالى لم يقرأ القرآن على جبريل كما قرأه جبريلُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقرأهُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم على صحابتِهِ قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} (الحاقة)، فلو كانَ القرآنُ بمعنى اللفظ المنزلِ عينَ كلامِ الله الذي هو صفتُهُ لم يقل: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ {40} أي جبريل بإجماع المفسرين، فالآية صريحة في أن القرآن بمعنى اللفظ المنـزل المقروء هو مقروءُ جبريل، وليس مقروءَ الله تعالى، وهذا دليل مفحم للمشبّهة، فلو كان الأمر كما تقول المشبهة لكانت الآية: إنه لقولُ ذي العرشِ.
ونعود إلى المحنة التي امتحن بها الإمام أحمد حين أرادوا إجباره على القول بخلق القرآن، فرفض فقاموا بضربه وحبسوه، ومع كل البلاء الذي تعرّض له لم يستجب للمعتزلة وبعض الحُكّام الذين استدرجهم المعتزلة ولبَّسوا عليهم فقد كان في ذلك العصر شوكة ونفوذ للمعتزلة عند بني العبَّاس، إلى أن أتى الخليفة العباسيّ المتوكل([14]) ففكّ أسره، بل كان أحمد وهو في سجنه يطعن في رؤوس المعتزلة، فلم يسلموا من حكمه بالكفر -يعني على من ثبت عليه منهم قضية تُخرِجُه من الإسلام-، فقد ذكر الحافظ المقدسيّ (ت 600هـ)([15]) في كتاب محنة الإمام أحمد أنَّ أبا شعيب الحجّام وكان قد أُرسِل إلى السجن لمناظرة الإمام أحمد قال: إنَّ علم الله مخلوق! فكفّره الإمام أحمد قائلًا له أمام الناس: لقد كفرت بالله العظيم([16]).
وفي لسان الميزان([17]) لابن حجر في ترجمة ضرار بن عمرو المعتزلي أن أحمد شهد عند القاضي بضرب عنقه فهرب ضرار، وكان ينكر عذاب القبر، وهو كذلك في ميزان الاعتدال([18]) للذهبيّ.
واستمرّ الإمام أحمد على موفقه ملتزمًا طريق السّنة، مجانبًا للبدعة، ولم يُجِب إلى القول بخلق القرآن، بل كان يبدّع من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما ذكر الحافظ ابن الجوزيّ في كتابه في مناقب أحمد والحافظ ابن أبي بكر السعديّ([19]) (ت 900هـ) في الجوهر المحصّل في مناقب الإمام أحمد ابن حنبل، وعلى هذا كان الإمام البخاريّ، والفتنة التي تعرّض لها في ذلك فأخرج بسببها من نيسابور معروفة، حتى ألَّف في بيان ذلك كتاب خلق أفعال العباد. وقد أراد قومٌ نسبة البخاريّ إلى البدعة فسألوه ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنهم الإمام، فألحوا فقال الإمام البخاريّ([20]): «القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة» اهـ.
وكُتُب الله المنزلة من القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك مما أنزله على رسله عبارات عن كلامه الذاتيّ الأزليّ الأبديّ. والعبارة غير المُعبَّر عنه، ولذلك اختلفت باختلاف الألسنة. فإذا عُبّر عن الكلام الذاتيّ بحروف القرآن التي هي عربية فقرآن، وبالعبرانية فتوراة، وبالسريانية فإنجيل وزبور. فالاختلاف في العبارات دون المعبَّر عنه. وحروف القرآن حادثة، والمعبَّر عنه بها هو الكلام الذاتي القائم بذات الله وهو أزليٌّ. فتبيَّن أن القراءة والتلاوة والكتابة حادثة، والمعبَّر عنه ـ أي ما دلّت عليه الكتابة والقراءة والتلاوة من كلامه الذاتيّ ـ قديم أزليّ، كما أنه إذا ذُكر اللهُ بألسنةٍ متعددةٍ ولغات مختلفة فإن الذِكْرَ حادث، والمذكور وهو ربّ العباد قديم أزليّ.
وخلاصة الأمر أن يقال: القرآن
أحدهما: إطلاقه على كلام الله الذاتيّ الأزليّ الأبديّ الذي لا يتجزأ ولا يتبَعَّض، الذي ليس عربيًّا ولا سريانيًّا ولا غيرهما من اللغات[21]، فالقرآن بهذا المعنى قديم لا بداية له قطعًا.
وثانيهما: إطلاقه على اللفظ المُنَزّل على سيدنا محمد ﷺ لإعجاز المعارضين بأقصر سورة منه. ويسمى هذا اللفظ كلام الله أيضًا لأنه دالّ على الكلام الذاتيّ وعبارة عنه.
وكِلا الإطلاقين حقيقة شرعية. أما تسمية الأول كلام الله فظاهر
لا يحتاج إلى تأويل، وأما تسمية اللفظ المنزّل كلام الله، فلأنه يدل على الكلام الذاتيّ، ولأنه ليس من تأليف جبريل ولا من تأليف سيدنا محمد ﷺ.
الثاني من أسباب اختيار الغلاة مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أن الإمام لورعه لم يصنف إلا في المنقول المأثور، كما أكّد ذلك الحافظ ابن الجوزي الحنبلي بقوله: «وكان الإمام لا يرى وضع الكتب وَيَنْهَى عن كتابة كلامه ومسائله»([22]) اهـ. ولهذا طمع هؤلاء في نسبة بعض أفكارهم إليه، فتجد الاختلاف في الرواية عن الإمام أحمد كثيرًا. وتجد بعض الرسائل المكذوبة المنسوبة إلى الإمام قد اعتمد عليها الكثيرون مع أن فيها رواة مجهولين.
ونختم الكلام في هذه المسألة بأبيات صادقة ختم بها ابن الجوزيّ دفاعه عن مذهب الحنابلة المنزّهـة فقال([23]): [الطويل]
وجاءَكَ قومٌ يدَّعونَ تَمَذهُبًا |
| بمَذهبِهِ ما كلُّ زَرْعٍ لهُ أُكْلُ |
فلا في فروعٍ يثبتونَ لنصْرةٍ |
| وعندَهُمُ منْ فَهمِ ما قالَه شُغْلُ |
إذا ناظروا قامُوا مَقامَ مقاتلٍ |
| فَواعَجَبًا والقَومُ كلُّهُمُ عُزْلُ |
قياسهُمُ طردًا إذا ما تصدَّرُوا |
| وهُمْ مِنْ علومِ النَّقْلِ أجمعِها عُطْلُ |
إذا لم يكُنْ في النقلِ صاحبُ فطنةٍ |
| تَشابهتِ الحياةُ وانقطعَ الحبْلُ |
ومالُوا إلى التَّشبيهِ أخذًا بصورةٍ |
| لِـمَا نقلوهُ في الصِفاتِ وهُمْ غُفْلُ |
وقالوا: الذي قُلناهُ مذهبُ أحمدٍ |
| فمالَ إلى تَصْديقِهِمْ مَنْ بهِ جَهْلُ |
وصارَ الأعادي قائلينَ لِكُلّنا: |
| «مشبّهةٌ»، قد ضرَّنا الصحبُ والخِلُّ |
فقد فَضحُوا ذاك الإمامَ بجهلِهِمْ |
| ومذهَبُهُ التنـزيهُ لكنْ هُمُ اختلُّوا |
لَعَمري لقد أدركتُ منهُم مشايخًا |
| وأكثرُ مَنْ أدركتُهُم ما لهُ عقْلُ |
وما زِلتُ أجلُو عندَهُمْ كلَّ خصلةٍ |
| من الإعتقادِ الرَّذْلِ كيْ يُجْمَعَ الشملُ |
تسمَّوا بألقابٍٍ ولا عِلْمَ عندَهُمْ |
| موائدُهُمْ لا حُرْمَ فيها ولا حِلُّ |
[1] ) دفع شبه التشبيه، ابن الجوزيّ، ص 30 ، 33.
[2] ) قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين رضي الله عنهما في الصحيفة السجادية: «سبحانك أنت الله لا إله إلا أنت، لا يحويك مكان، لا تُحسُّ ولا تُمسّ ولا تُجسّ» اهـ. رواه الحافظ محمد مرتضى الزَّبيديّ في إتحاف السادة المتقين، 4/380. وقد تقدَّم.
[3] ) وهو غير صاحب المسند.
[4] ) الكامل، ابن الأثير، 8/378. السيف الصقيل، السبكيّ، ص148.
[5] ) اعتقاد الإمام المبجل أحمد بن حنبل، أبو الفضل التميميّ، ص294، 295.
[6] ) الإرشاد، الجويني، 9/279.
[7] ) اعتقاد الإمام المبجل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أبو الفضل عبد الواحد التميمي، 1/298.
[8] ) الأشباه والنظائر، السيوطيّ، ص 488.
[9] ) المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية، ابن حجر الهيتميّ، 1/294.
[10] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص104.
[11] ) شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 58.
[12] ) عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: «فإذا بيَّنَّاه فاعمل بما فيه» اهـ. وحكي عنه أيضًا أنه قال: «فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه» اهـ. وقال قتادة: «فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه» اهـ. النكت والعيون، الماوردي، 6/156.
[13] ) لسان العرب، ابن منظور، مادة ق ر أ، 1/128.
[14] ) جعفر بن محمّد بن هارون بن محمّد بن عبد الله، الخليفة العبّاسي، المتوكل على الله، أبو الفضل، ولد سنة 205هـ، حكى عن أبيه وعن يحيى بن أكثم، أظهر السُّنَّة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وزجر عن القول بخلق القرآن، قُتِل في الخامس من شوال سنة 247هـ. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، 8/339، 340.
[15] ) عبد الغنيّ بن عبد الواحد المقدسيّ الجماعيليّ الدمشقيّ الحنبليّ، ت 600هـ، حافظ للحديث، من العلماء برجاله. ولد في جماعيل قرب نابلس وانتقل صغيرًا إلى دمشق. ثم رحل إلى الإسكندرية وأصبهان، وامتحن مرات وتوفي بمصر. له: «الكمال في أسماء الرجال» ذكر فيه ما اشتملت عليه كتب الحديث الستة من الرجال، و«الدرة المضية في السيرة النبوية»، و«عمدة الأحكام من كلام خير الأنام»، وغيرها. الأعلام، الزركلي، 4/34.
[16] ) لسان الميزان، ابن حجر، 3/203. راجع: تبيين كذب المفتري، ابن عساكر، ص339.
[17] ) لسان الميزان، ابن حجر، 3/202.
[18] ) ميزان الاعتدال، الذهبي، 2/328.
[19] ) محمد بن محمد بن أبي بكر السعديّ، ت 900هـ، قاضٍ، من فقهاء الحنابلة من أهل مصر، أفتى ودرّس وولي قضاء القضاة بالديار المصرية، وألف كتبًا منها: «الجوهر المحصّل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل»، و«مناسك الحج»، قال ابن العماد: «هو كتاب في غاية الحسن» اهـ. الأعلام، الزركلي، 7/52، 53.
[20] ) فتح الباري، ابن حجر، 1/491. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، 12/454.
[21] ) فالكلام الأزليّ لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى قلوب العباد والأوراق، ولا التقديم ولا التأخير، ولا اللحن (الخطأ) ولا الإعراب ولا سائر التغييرات.
[22] ) دفع شبه التشبيه، ابن الجوزيّ، ص30. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، 11/327.
[23] ) دفع شبه التشبيه، ابن الجوزي، ص276.