السبت سبتمبر 7, 2024

التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

اعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، ولا زال المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا على ذلك، وجواز هذا الأمر يعرف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسّم شعره حين حلق في حجة الوداع وأظفاره.

أما اقتسام الشعر فأخرجه البخاري [1] ومسلم [2] من حديث أنس وأحمد [3] من حديث عبد الله بن زيد، ففي لفظ مسلم عنه قال: لما رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقّه الأيمن فحلق، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال: “احلق”، فحلق فأعطاه أبا طلحة فقال: “اقسمه بين الناس”.

وفي رواية لمسلم فبدأ بالشق الأيمن فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال بالأيسر –أي فعلَ- فصنع مثل ذلك، ثم قال: “ههنا أبو طلحة”، فدفعه إلى أبي طلحة.

وفي رواية لمسلم أيضًا أنه عليه الصلاة والسلام قال للحلاق: “ها” وأشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا فقسّم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم.

فمعنى الحديث أنه وزّع بنفسه بعضًا بين الناس الذي يلونه، وأعطى بعضًا لأبي طلحة ليوزعه في سائرهم، وأعطى بعضًا أم سليم. ففيه التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشعر لا يؤكل إنما يستعمل في غير الأكل، فأرشد الرسول أمته إلى التبرك بآثاره كلها حتى بُصاقه، وكان أحدهم أخذ شعرة والآخر أخذ شعرتين، وما قسمه إلا ليتبركوا به فكانوا يتبركون به في حياته وبعد وفاته، حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء فيسقون هذا الماء بعض المرضى تبركًا بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في البخاري [4] ومسلم [5] وأبي داود [6]. وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم بصق في في الطفل المعتوه، وكان يعتريه الشيطان كل يوم مرتين وقال: “اخرج عدو الله أنا رسول الله” رواه الحاكم [7].

فقسّم صلى الله عليه وسلم شعره ليتبركوا به، وليستشفعوا إلى الله بما هو منه، ويتقربوا بذلك إليه، وليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، ثم تبع الصحابة في خطتهم في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم مَن أسعده الله، وتوارد ذلك الخلف عن السلف، فلو كان التبرك به في حال الحياة فقط لبيّن ذلك.

وخالد بن الوليد رضي الله عنه كانت له قلنسوة وضع في طيّها شعرًا من ناصية رسول الله أي مقدّم رأسه لما حلق في عمرة الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة  الطائف، فكان يلبسها يتبرّك بها في غزواته. روى ذلك الحافظ ابن حجر في المطالب العالية [8] عن خالد بن الوليد أنه قال: “اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي” اهـ. وعزاه الحافظ لأبي يعلى.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية عند ذكره محنة الإمام أحمد ما نصه [9]: “قال أحمد: فعند ذلك قال –يعني المعتصم- لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين” اهـ.

وأما الأظفار فأخرج الإمام أحمد في مسنده [10] أن النبي صلى الله عليه وسلم قلّم أظفاره وقسمها بين الناس.

أما جبّته صلى الله عليه وسلم فقد أخرج مسلم في الصحيح [11] عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء بنت أبي بكر قال: “أخرجت إلينا جبة طيالسة كسروانية لها لِبْنَة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج [12]، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قُبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها”، وفي رواية “نغسلها للمريض منّا”.

وعن حنظلة بن حذيم قال: وفدت مع جدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم هذا أصغرهم، فأدناني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح رأسي وقال: “بارك الله فيك”، قال الذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها فيقول: “بسم الله على موضع كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحه فيذهب الورم”. رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحمد في المسند [13]، وقال الحافظ الهيثمي [14]: “ورجال أحمد ثقات”.

 

وعن ثابت قال: كنت إذا أتيت أنسًا يُخبَرُ بمكاني فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما وأقول: بأبي هاتان اليدان اللتان مسّتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو يعلى [15].

وأخرج ابن سعد في الطبقات [16] عن عبد الرحمن بن رزين قال: “أتينا سلمة بن الأكوع بالربذة فأخرج إلينا يده ضخمة كأنها خف البعير، قال: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه، فأخذنا يده فقبلناها”.

وهذا سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي هو أحد مشاهير الصحابة والذي هو أول من نزل الرسول عنده لما هاجر من مكة إلى المدينة، جاء ذات يوم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع وجهه على قبر النبي تبركًا وشوقًا، روى ذلك أحمد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه أبو أيوب فقال: نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ءات الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله” رواه أحمد [17] والطبراني في الكبير [18] والأوسط [19].

وقال السمهودي في وفاء الوفا [20] ما نصه: “لما قدمَ بلالٌ رضي الله عنه من الشام لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أتى القبرَ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه”، وإسناده جيدٌ. وفي تحفة ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: “لما رمسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها فوقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وأخذت قبضةً من تراب القبر ووضعت على عينها وبكت، وأنشأت تقول:

ماذا على مَن شمَّ تربةَ أحمدٍ *** أن لا يشمَّ مدى الزمانِ غواليا

صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها *** صُبَّت على الأيامِ عُدْنَ لياليا

وعن حليمة بنت أميمة، عن أمها قالت: “كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره، فقام فطلبه فلم يجده فسأل: “أين القدح”؟ قالوا: شربته برة خادم أم سلمة التي قدمت معها من أرض الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “فقد احتظرت من النار بحظار” رواه الطبراني [21] ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل وحكيمة وهما ثقتان.

وأخرج البخاري [22] من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟ فقيل له: نعم هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها فخرج إلينا وإنها إزارهُ فقال رجل من القوم: يا رسول الله أُكسنيها، فقال: “نعم”، فجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه لقد علمت أنه لا يرد سائلاً، فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه.

وأخرج [23] أيضًا في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم ورأيت بلالاً أخذ وَضوء النبي صلى الله عليه وسلم والناس يبتدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئًا تمسح به ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه.

وروى ابن أبي شيبة [24] عن أبي مودودة قال: حدثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: “رأيت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك” اهـ.

وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد [25] بالإسناد المتصل إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: “رأيت أبي –يعني أحمد بن حنبل- يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه ويقبّلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه، ويغمسها في الماء ثم يشربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جبّ الماء ثم شرب فيها…” اهـ.

وفي كتاب سؤالات عبد الله بن أحمد بن حنبل لأحمد [26] قال: “سألت أبي عن مسّ الرجل رمانة المنبر بقصد التبرك، وكذلك عن مسّ القبر” فقال: “لا بأس بذلك”.

وفي كتاب العلل ومعرفة الرجال ما نصه [27]: “سألته عن الرجل يمسّ منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك”.

 

قال البهوتي [28]: “ولا بأس بلمسه –أي القبر- باليد وأما التمسح به والصلاة عنده أو قصده لأجل الدعاء عنده معتقدًا أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره، أو النذر له أو نحو ذلك، فقال الشيخ: -يعني ابن تيمية- فليس هذا من دين المسلمين بل هو مما أُحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك، قال –يعني ابن تيمية- في الاختيارات: اتفق السلف والأئمة على أن من سلّم على النبي أو غيره من الأنبياء والصالحين فإنه لا يتمسّح بالقبر ولا يقبله، بل افقوا على أنه لا يستلم ولا يقبّل إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يُستلم ولا يقبّل على الصحيح. ثم قال البهوتي ردًا على ابن تيمية: قلت: بل قال إبراهيم الحربي: يستحب تقبيل حجرة النبي” اهـ. والبهوتي حنبلي لكنه لما علم أن كلام ابن تيمية غير صحيح ردّه عليه، فأبطل بذلك دعواه اتفاق السلف على منع تقبيل القبر، وهو لم يدرك ابن تيمية، وقد توفي البهوتي بعد الألف.

قال صاحب غاية المنتهى الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي [29] ما نصه: “ولا بأس بلمس قبر بيد لا سيما من ترجى بركته” اهـ.

قال صاحب المرادوي الحنبلي في الإنصاف [30] ما نصه: “يجوز لمس القبر من غير كراهة، قدمه في الرعايتين والفروع، وعنه يكره، وأطلقهما في الحاويين والفائق وابن تميم، وعنه يستحب قال أبو الحسين في تمامه: وهي أصح”. اهـ. فبهذا تبين أن ابن تيمية شذّ عن الإمام أحمد الذي كان ينتسب إليه وأهل مذهبه الذين قبله كما شذّ عن سائر أئمة المسلمين.

وفي عمدة القاري بشرح صحيح البخاري للعيني [31] ما نصه: “وقال –يعني شيخه زين الدين- أيضًا: وأخبرني الحافظ أبو سعيد ابن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ أن الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك، قال فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك ويقول عجبت أحمد عندي جليل يقوله [32]؟ هذا كلامه أو معنى كلامه، وقال: وأيّ عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصًا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال المحب الطبري: ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى فإنه لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة، قال: وقد رأيت في بعض تعاليق جدي محمد بن أبي بكر عن الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الصيف أن بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبّلها وإذا رأى أجزاء الحديث قبّلها وإذا رأى قبور الصالحين قبّلها، قال: ولا يبعد هذا والله أعلم في كل ما فيه تعظيم لله تعالى” اهـ.

وروى ابن حبان في صحيحه [33] تحت باب: “ذكر إباحة التبرك بوضوء الصالحين من أهل العلم إذا كانوا متّبعين لسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن ابن أبي جُحيفة، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء ورأيت بلالاً أخرج وَضوءه فرأيت الناس يبتدرون وضوءه يتمسّحون” اهـ. وفيه [34] عن جابر بن عبد الله أنه قال: “جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب من وضوئه عليّ فعقلت” اهـ.

وروى ابن حبان وغيره [35] عن نافع قال: “كان ابن عمر يتتبع ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فكان ابن عمر يجيء بالماء فيصبه في أصل الشجرة كي لا تيبس”، وأخرج الحُمَيدي في “مسنده” [36] عن صدقة بن يسار عن نافع: “أن ابن عمر كان يمر بشجرة بين مكة والمدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم يستظل فيها، فيحمل لها الماء من المكان البعيد حتى يصبه تحتها”. ولا يُعارض هذا بما جاء عن أبيه أنه أمر بقطع شجرة بيعة الرضوان وذلك لمعنى قصده عمر رضي الله عنه وهو خوف أن يعبدها بعض الناس بمرور الزمان وليس مقصوده تحريم التبرك بآثار الرسول، وفعل ابنه هذا فيه إثبات التبرك بآثار رسول الله وهو أمر حسن لذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة وغيرهم، فلا تعارض بين الأثرين أثر عمر وأثر ابنه رضي الله عنهما، وإن خالف في ذلك الوهابية لمعنى في أنفسهم وهو ترك تعظيم الرسول، فإنهم يرون تعظيم الرسول بالتبرك بآثاره شعبة من شعب الشرك، وما أبعد هذا الظن عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.

وروى البخاري في صحيحه [37] في باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة. وحدثني نافع بن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالمًا فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا أنس بن عياض قال: حدثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحُليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سَمُرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط من بطن وادٍ، فإذا ظهر من بطن وادٍ أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرَّسَ ثمَّ حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي، فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك، وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتُني ثم مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد كان يتركه على يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مرَّ به قبل الصبح بساعة أو من ءاخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة من رواه العرج، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة على القبور رَضمٌ من حجارة عن يمين الطريق عند سَلَمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة فيصلي الظهر في ذلك المسجد، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلي إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مرّ الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر، وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي طُوى ويبيت بها حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بني ثم ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة” انتهى. نص البخاري رحمه الله تعالى. قال الحافظ الزبيدي [38]: “وإنما كان ابن عمر يصلي في هذه المواضع للتبرك” اهـ.

قال الحافظ ابن حجر [39]: “ومحصل ذلك أن ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن، وتشدده في الاتباع مشهور، ولا يعارض ذلك ما ثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك فقالوا: قد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا ءاثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا، لأن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجبًا، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين” اهـ.

 

وإننا نتحدى من يتعصّب لكلام ابن تيمية على الإتيان بنقل صحيح من إمام من السلف أو الخلف حرّم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك أو التوسل به في حياته أو بعد مماته، ولن يجدوا ذلك، ولهذا خالف ابن كثير شيخه ابن تيمية في مسألة التوسل، وكان يتبعه في مسائل الطلاق فعذّب لذلك، فصرح في تفسيره باستحسان التوسل بالنبي بعد موته والاستغاثة به، كما ذكر ذلك في تاريخه البداية والنهاية في ترجمة عمر بن الخطاب.

قال الحافظ ولي الدين العراقي قاضي القضاة في فتاويه ما نصه [40]: “مسألة: سئلت عمن يزور الصالحين من الموتى فيقول عند قبر الواحد منهم: يا سيدي فلان أنا مستجير أو متوسل بك أن يحصل لي كذا وكذا، أو أطلب منك أن يحصل لي كذا وكذا، أو يقول: يا رب أسألك بمنزلة هذا الرجل أو بسرّه أو بعمله أن يفعل لي كذا وكذا، هل هذه العبارات حسنة أو غير حسنة أو بعضها حسن وبعضها قبيح، وما كانت السلف تقول عند زيارة قبور الصالحين، وهل إذا قال الشخص عند قبر الصالح: يا سيدي متى حصل لي كذا وكذا أجئ إليك بكذا وكذا هل يلزم الوفاء به أم لا؟

فأجبت: زيارة الرجال للقبور مندوب إليها فقبور الصالحين ءاكد في الاستحباب وينبغي الدعاء عندها لأن لتلك البقع فضلاً وشرفًا بوجود ذلك الصالح فيها، والدعاء في البقاع الشريفة أقرب إلى الإجابة، وقد اشتهر عند أهل بغداد إجابة الدعاء عند قبر معروف الكرخي وإنه الترياق المجرب، واشتهر ذلك في قبور كثير من الصالحين، وأيضًا فإن الداعي عقب عبادةٍ وهو زيارته ذلك القبر وعقب قراءة إن كان قد قرأ شيئًا من القرءان كما هو الغالب وذلك أقرب إلى الإجابة، ولا امتناع في التوسل بالصالحين فإنه ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولصلحاء أمته حظ مما لم يعد من خصائصه… أمته لمن شاء منهم، وهي بركة نمت عليهم، وقد توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، ولا يمنع من ذلك موت ذلك الصالح لأن الموت إنما طرأ على الجسد وأما الروح فحية، وقد ورد ما يدل على اتصالها به في بعض الأحيان كيف يشاؤه الله تعالى. وأما قوله: وأنا أطلب منك أن يحصل لي كذا فأمر منكر فالطلب إنما هو من الله تعالى والتوسل إليه بالأعمال الصالحة أو بأصحابها أحياء وأمواتًا لا ينكر فإن المنح الإلهية لم تنقطع عن الأولياء بموتهم، والذي كانت السلف تقوله عند زيارة القبور ما علمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو “سلام عليكم دار قوم مؤمنين” إلى ءاخره، ولا بأس بالدعاء بغير ذلك. وقوله: متى حصل لي كذا أجئ إليك بكذا إن لم يقترن به لفظ التزام ولا نذر لم يلزم به شئ، وإن اقترن بذلك فإن أراد التصدق على الفقراء المجاورين من… أو عمارة مشهد حيث احتيج لذلك لزم الوفاء به، وإن أراد تمليكه لنفس الميت فهو لاغ لا يجب له شئ والله أعلم” اهـ.

فبهذا يُعلم أن ابن تيمية وأتباعه شاذون عن الأمة سلفها وخلفها، وتسمية الوهابية أنفسهم سلفية كذبٌ ظاهرٌ فلا يجوزُ تسميتهم بهذا الاسم الذي هم سموا أنفسهم بهِ ليوهموا الناسَ أنهم على مذهب السلف، إنما يُسمَّونَ وهابية وهذا الاسم هو الاسمُ الذي سمّاهم به المسلمون منذ أول ما ظهروا إلى يومنا هذا، وهذا الذي يُنسبون إليه محمد بن عبد الوهاب لم يكن من الفقهاء ولا من المحدثين ولا من النحويين لذلك لم يعدَّهُ من ألّفَ في طبقات الحنابلة من فقهائهم، إنما مدحهُ من كانَ من أتباعه فلا عبرة بذلك، وأما علماء عصرهِ ومنهم أخوهُ الشيخُ سليمان بن عبد الوهاب، وعالم اليمنِ محمد بن الأمير الصنعاني فقد ذمّاه وغيرهما، وأخوهُ الشيخ سليمان ألفَ في الرد عليه تأليفًا سماهُ: “فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب”، وأما محمد بن الأمير الصنعاني كان بلغهُ في بدء الأمر عن ابن عبد الوهاب أنه رجلٌ يؤيد السنة ويقمعُ البدعة فمدحه في أبياتٍ منها هذا البيت:

سلامٌ على نجدٍ ومن حلَّ في نجدٍ *** وإن كانَ تسليمي على البُعدِ لا يُجدي

ثم جاءه الخبرُ اليقين بأنه عكس ما بلغهُ عنه فنقضَ تلك القصيدة بقصيدةٍ أخرى أولها:

رجعتُ عن القولِ الذي قلتُ في النجديّ *** فقد صحَّ لي عنه خلافُ الذي عندي

والوهابية اليومَ يذكرون المدحَ الذي مدحهُ الأمير الصنعاني ولا يذكرون النقضَ الذي نقضَ به مدحه الأول من شدةِ تعصبهم لزعيمهم.

 

الهوامش:

[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوضوء: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.

[2] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الحج: باب بيان أن السُّنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق.

[3] أخرجه أحمد في مسنده [4/42]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [4/19]: “رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح”.

[4] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوضوء: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.

[5] صحيح مسلم: كتاب الحج: باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق في الجانب الأيمن من رأس المحلوق.

[6] سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب الحلق والتقصير.

[7] أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التاريخ: باب اجتماع الشجرتين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [2/618]. وصححه وأقره الذهبي في تلخيصه.

[8] المطالب العالية [4/90]. قال الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على الحديث: كذا في الأصلين وفي الإتحاف: فما وجهته في وجه إلى فتح له، وفي الزوائد: فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصرة. قال البوصيري: رواه أبو يعلى بسند صحيح، وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما رجال الصحيح [9/349]،انظر مسند أبي يعلى [13/139].

[9] البداية والنهاية [10/334].

[10] أخرجه الإمام في مسنده [3/42] من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع [3/19] بعد عزوه لأحمد: “ورجاله رجال الصحيح”.

[11] صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع.

[12] كذا وقع في جميع النسخ: “وفرجيها مكفوفين”.

[13] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [4/16] بنحوه، وأحمد في مسنده [5/67-68] في حديث طويل.

[14] مجمع الزوائد [9/408].

[15] أخرجه أبو يعلى في مسنده [6/211]، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع [9/325]: “رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة”.

[16] طبقات ابن سعد [4/229].

[17] أخرجه أحمد في مسنده [5/422].

[18] المعجم الكبير [4/189]، وأخرجه الحاكم في المستدرك [4/515]، وصححه ووافقه الذهبي.

[19] مجمع الزوائد [5/245].

[20] وفا الوفاء [4/1356].

[21] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [24/205-206].

[22] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب البيوع: باب ذكر النساج.

[23] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب اللباس: باب القبة الحمراء من أدم.

[24] مصنف ابن أبي شيبة، باب مس قبر النبي [4/121].

[25] مناقب الإمام أحمد بن حنبل [ص/186-187].

[26] انظر مشاف القناع [2/150].

[27] العلل لأحمد بن حنبل [2/492].

[28] مشاف القناع [2/150].

[29] غاية المنتهى [ص/259].

[30] انظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف [2/562].

[31] عمدة القاري [9/241].

[32] وهذا استفهام إنكاري أي أيقوله؟.

[33] الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: [2/282].

[34] الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: [2/281].

[35] الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [9/104]، مسند الحميدي [2/293].

[36] مسند الحميدي [2/293].

[37] صحيح البخاري: كتاب الصلاة: باب المساجد التي على طريق المدينة.

[38] إتحاف السادة المتقين [4/429].

[39] فتح الباري [1/569].

[40] فتاوى ولي الدين العراقي [ق/105]، مخطوط.