ومن ذلك التحذير من الكتاب المسمّى «قصص الأنبياء» لعبد الوهاب النجار، ففيه ما يخالف عقيدة أهل الحق.
ومما فيه قوله: «أراد الله أن يحقّق للملائكة بالفعل، ويكشف لهم بالعمل ما غاب عنهم، ويبيّن لهم أن آدم الذي استحقره أولئك الملائكة محلٌّ لعناية الله، وإيثاره بما لم يعط لهم، فعلّم آدم الأسماء كلّها»([2]).اهـ.
الرَّدُّ: إن في هذا الكلام طعنًا بالملائكة الكرام، لأن الملائكة لا يعترضون على الله ولا يحقّرون أنبياءه فهم منـزّهون عن ذلك، وأما قولهم في ما حكاه القرآن عنهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ} [البقرة: 30] فليس المراد به آدم عليه السلام، إنما المراد به أن صنف البشر الذين كتب الله أنهم سيكونون خلفاء في الأرض فيهم مَن هذه صفتُهم، وهي الإفساد في الأرض وسفك الدماء بغير حق، لأنهم علموا أن البشر الذين هم من ذرية آدم عليه السلام يحصل من بعضهم هذا. فقوله: «إن الملائكة استحقروا آدم»، معناه: أنهم اعترضوا على الله كما اعترض إبليس لـمَّا أُمرت الملائكة بالسجود، وهو كان فيهم قبل أن يكفر، فقال: {ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]، مع قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76]، فتحقير آدم عليه السلام من صفة إبليس، وليس من صفة الملائكة الكرام الذين يعلمون أن سيدنا آدم من أنبياء الله تعالى الذين اصطفاهم واختارهم وفضّلهم على الملائكة، حيث أمرهم كلّهم بالسجود لآدم عليه السلام، ولولا أنه أفضل من الملائكة ما أمرهم بالسجود له، وإن الله تعالى يفضّل ما شاء من خلقه على ما شاء. ولو لم يكن في كتاب النجار إلا هذا لكفى موجبًا للتحذير منه.
وأشدُّ من هذا قوله في هذا الكتاب عن نظرية داروين ما نصّه: «عندنا القرآن الكريم، يدلّ بنصوصه الظاهرة على أن أصل الإنسان آدم، ولم يكن قردًا تحوَّل، ولا شيئًا آخر ترقى وهو الثقة، فإذا وصل أصحاب النظرية إلى الأدلة القاطعة التي تجعل هذه القصة بديهية تساوي في بداهتها أنَّ «كل عدد زوجي ينقسم إلى قسمين متساويين» وأنَّ «السماء فوقنا والأرض تحتنا» كان لزامًا علينا أن نؤول القرآن ليوافق الواقع، كما هي القاعدة القائلة إن القرآن يؤخذ على ظاهره بدون تأويل إلا إذا منع من ذلك مانع فيُعمد إلى تأويله»([3]).اهـ.
فما أشنعَ هذا التجرّؤ والتطاول على القرآن الكريم، فإنَّ قوله هذا يتضمّن جواز تأويل نصوص القرآن لغير دليل شرعيّ ثابت أو دليل عقليّ قاطع وهذا عبث بالقرآن، والقرآن منـزَّه عن العبث، فكيف احتمل في ظنه دليل عقليّ يلزم تأويل القرآن ولا يوجد شبهة دليل، فقوله هذا فيه فتح باب للتلاعب بالقرآن، ثم إنه قد نقض هذه النظريةَ الفاسدةَ كثيرٌ من قائليها بعدما قبلوها. وقد بيّنّا زيف هذه النظرية في صدر الكتاب.
ومما في هذا الكتاب أيضًا إنكاره أحاديث نزول عيسى عليه السلام، وأنه سيقتل الدجال، فيقول ما نصّه: «بقي أن يقال: إنّ الأخبار المأثورة وردت ناطقة بأن المسيح رُفِعَ إلى السماء بجسده وروحه، وأنه حيٌّ فيها، وأنه ينـزل في آخر الزمان ويقتل المسيح الدجّال. ثم قال النجار: والجواب على ذلك: أن هذه الأخبار وردت، وبعضها مرفوع إلى رسول الله ﷺ، وبعضها آراء للمفسرين، وبعضها عمن أسلموا من اليهود ككعب ووهب، ومهما كان من شأنها وصراحة عبارتها فهي أحاديث أو آراء آحاد، ولا تبلغ أن تكون لها قوة صريح القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد، ولا يمكن أن تكون في النفس اعتقادًا يقينيًّا جازمًا تطوع به النفس لصاحبها أن يشهد على الله أنه نقل المسيح حيًّا إلى السموات، ويشهد على الله مطمئنًا بتلك الشهادة أنه سوف يُنـْزِلُ عيسى من السماء إلى الأرض، وأنه سوف يتولّى قتل رجل يُنْبَزُ([4]) بالمسيح الدجّال، سيخلقه الله تعالى، ولا يدري متى يكون زمانه، إذ كلّ تلك الأخبار لا يمكن أن تنهض بإنشاء عقيدة إذا خالفها الإنسان، وحاد عن الاعتقاد بها برئ من الإسلام، وبرئ الإسلام منه»([5]).اهـ.
ولا يخفى عليك أيها القارئ أن هذا طعنٌ خفيٌ في اعتقاد المسلمين، فإن نزول عيسى عليه السلام أمر مجمع عليه إجماعًا معتبرًا عند الأصوليين، وما فتئ أصحاب العقائد والمتون يذكرون في مصنفاتهم نزول المسيح عليه السلام وأنه يقتل الدجال ويُقرّرون ذلك بالدلائل، فلا معنى لإنكار عبد الوهاب النجار ذلك إلا المعاندة وهوى النفس، وقد قال فيه الشيخ عبد الله الغماري: إنه من المبتدعة([6])، ومن الأحاديث الواردة في إثبات نزول عيسى عليه السلام حديث البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا»([7])، وعند البيهقيّ: «ينزل عيسى ابن مريم من السماء»([8])، وعند ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ ﷺ قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] قال: «نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة»([9])، فأحاديث نزوله عليه السلام مشهورة قريبة من التواتر. وأما حديث خروج الدجال فهو حديث صحيح أخرجه مسلم([10]) وغيره.
وأما زعم النجار أنه لا حجة للجمهور في القول بأنه رفع إلى السماء، فهذا يردّه رواية البيهقيّ السابقة وفيها: «ينـزل من السماء»، وقد ألّف في ذلك العديد من العلماء ومنهم:
بالإضافة إلى ما تناوله علماء الحديث في كتبهم من ذكر أشراط الساعة، فالإمام البخاريّ رحمه الله ضمّن كتاب الصحيح كتاب الفتن وذكر فيه بعض أشراط الساعة. وأدرج الإمام أبو داود في سننه بعضهما في كلّ من كتاب الفتن وكتاب المهديّ، وكتاب الملاحم. وكذلك الإمام الترمذيّ في سننه في كتاب الفتن، ذكر فيه باب ما جاء في أشراط الساعة.
[1])) عبد الوهاب ابن الشيخ سيد أحمد النجار (ت1360هـ)، كاتب مصريّ. اشتغل بالمحاماة ثم عيّن مدرّسًا للأدب والشريعة في كلية الخرطوم، فأستاذًا للتاريخ الإسلاميّ في الجامعة المصرية القديمة، فناظرًا لمدرسة عثمان ماهر باشا، إلى آخر حياته. ألّف كتبًا منها: الكتاب المسمّى (قصص الأنبياء). الأعلام، الزركلي، (4/183).
[2])) الكتاب المسمّى قصص الأنبياء، النجار، (ص25).
[3])) الكتاب المسمّى قصص الأنبياء، النجار، (ص33).
[4])) أي: يُلقَّب، من النَّبَز وهو اللقب. مختار الصحاح، الرازي، مادة: (ن ب ز)، (ص268).
[5])) الكتاب المسمَّى قصص الأنبياء، النجار، (ص546).
[6])) الأحاديث المنتقاة، الغماريّ، (ص138).
[7])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب الأنبياء، باب: نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإيمان، باب: نزول عيسى ابن مريم عليه السلام حاكمًا بشريعة نبينا محمد ﷺ، سنن الترمذيّ، الترمذي، كتاب الفتن، باب: ما جاء في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، مسند أحمد، أحمد، (2/538)، سنن البيهقيّ، البيهقي، (1/244).
[8])) الأسماء والصفات، البيهقيّ، (2/166).
[9])) صحيح ابن حبان، ابن حبان، (8/288).
[10])) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه، وباب: صفة الدجال، وباب: خروج الدجال ومكثه في الأرض، وباب: قصة الجساسة، وباب: قصة الدجال. (8/194)، رقم 7546.
[11])) محمد أنور شاه الكشميريّ الهنديّ، (ت1352هـ)، صدر المدرسين بدار العلوم الدينوبندية الهندية، له عدة مؤلفات منها: (فيض الباري على صحيح البخاري)، و(العرف الشذي على جامع الترمذي) وغيرهما. توفي في ديوبند. من مقدمة كتابه التصريح بما تواتر في نزول المسيح الذي تلقاه عنه تلميذه محمد شفيع. (ص37).