الباب الثاني: التمييز بين المعقول والموهوم
تمهيد:
مما تقدم يفهم أن النصوص المتشابهة الواردة في القرآن والحديث لا يجوز حملها على الظاهر الذي يتبادر إلى أوهام المشبهة أو تخيلات الحلولية، لأن الله لا يقاس بخلقه، وإلا لم يكن للنهي عن التفكر في ذات الله سبحانه معنى، ولم يكن لانزعاج مالك حين سئل عن الاستواء حتى أخذته الرحضاء وإطراقه معنى، بل كان جوابه رضي الله عنه ساطعًا كالشمس: «استوى كما وصف نفسه ولا كيف، وكيف عنه مرفوع »[(366)] ففيه نفي الجلوس والاستقرار والتحيز، لأن كل هذه كيفيات والله منزّه عنها، لأن الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منـزه عنه.
وذلك صريح كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه حيث قال في الوصية ما نصه: «ونقر بأن الله على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه ، وهو الحافظ للعرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا إلى الجلوس لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجًا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا»[(367)] اهـ.
وهو ما أجمله وأوجزه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقال:« استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر» [(368)] اهـ.
والجلوس والاستقرار والتحيز والتمكن والحلول والجهة صفات وكيفيات تخطر للبشر، وأحمد هنا يقول: «لا كما يخطر للبشر » فلم يبق إلا التزام قول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وهو قوله: «آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك» [(369)].
وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به، وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك، فقال: «من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر»، لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانا، ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه.
فهؤلاء الأئمة التي مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة، فمن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين، والله حسيبه وسيجزي الله المفترين.
وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [(370)]، فقال: الرحمـن جل وعلا لم يزل، والعرش محدث بالرحمـن استوى، ثم قال: كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم، محدث ومصنوع مثلكم، لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم، كلا كيف يحيط به علم وقد اتفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ… *} [(371)] أي عبارة تخبر عنه حقيقة الألفاظ، كلا قصرت عنه العبارات وخرست عنه الألسنة بقوله: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} [(372)]، تعالى الله وتقدس عن المجانسة والمماثلة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: معناها ليس له نظير.
وقال أهل التحقيق: ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته ، إذ الذات ممتنع عن الإحاطة بها – يريد لا نحيط علما بالله – والوقوف عليها، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [(373)]، فسبحانه هو المنـزه عن الشبيه القدوس المبرأ عن الآفات، والمسبح له بجميع اللغات، السلام السالم من نقائص المخلوقات، الصمد السيد الذي لا يشبهه شىء من المصنوعات والمخلوقات، الغني عن الأغيار، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات، الفرد الذي لا نظير له، المنفرد بصفات الكمال والقدرة، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسموات، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات، فصفاته لا يوصف بها غيره، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات.
قال البغداديون في قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [(374)]، كل صنع صنعه ولا علة لصنعته، ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان، وأوجد الأكوان بقوله (كن)[(375)]، أزال العلل عن ذاته بالدرك وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته، لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو، حي قيوم لا أول لحياته، ولا أمد لبقائه، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق إلى مثله، وأسنده الطلب إلى شكله، أهو قولهم: كل صنع عبروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ… *} [(376)]، ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك، كيف وقد تنـزه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس، من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ويدركه من جهة الدليل، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان، وهو الأول قبل سوابق العدم الأبدي بعد لواحق القدم ليس كذاته ذات ولا كصفاته صفات.
جلت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة، كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة، قال تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا *} [(377)][(378)] اهـ.
قال الحافظ البيهقي: «والقديم سبحانه عال على عرشه لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش، يريد به: مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها، والقيام والقعود من أوصاف الأجسام ، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام تبارك وتعالى. وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى: علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والكون في مكان متمكنا فيه» [(379)] اهـ.
– تنبيه: من لم يحترز بعقله هلك بعقله:
وهو تمامًا ما نبه إليه الحافظ ابن الجوزي : «سألني سائل: قد قال بعض الحكماء: «من لم يحترز بعقله هلك بعقله» فما معنى هذا؟ فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى ثم اتضح، وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه، فالاحتراز من العقل بالعقل، هو أن ينظر فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسمًا ولا شبهًا لشىء» [(380)] اهـ.
وقال: «فمن المستصعب النظر والاستدلال الموصلان إلى معرفة الخالق، فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل »[(381)] اهـ.
وقد مرت بك طريقة الجمع بين الآيات الواردة في كتاب الله المجيد من كلام إمام الهدى أبي منصور الماتريدي وغيره في تنـزيه الله عن الجهة والمكان فلا نعيدها هنا.
وعلى هذه الطريقة يحمل معنى العلي العظيم من أسماء الله :
قال فخر الدين الرازي (606هـ) ما نصه: «قوله تعالى: {…وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} [(382)] لا يجوز أن يكون المراد بكونه عليا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض وذلك ضد قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر والاستعلاء وكمال الإلهية»[(383)] اهـ. وقال الحافظ الشيخ عبد الله الهرري رضي الله عنه في الرد على المشبهة المجسمة الذين يقولون بالعلو الحسي في حق الله ما نصه: «والعلو على وجهين : علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق بالله هو علو القدر لا علو المكان، لأنه لا شأن في علوّ المكان إنما الشأن في علو القدر ، ألا ترون أن حملة العرش والحافين حوله هم أعلى مكانًا من سائر عباده وليسوا أفضل خلق الله، بل الأنبياء الذين مكانهم تحت أفضل منهم، ولو كان علو المكان يستلزم علو القدر لكان الكتاب الذي وضعه الله فوق العرش وكتب فيه: «إن رحمتي سبقت غضبي»[(384)] مساويًا لله في الدرجة على قول أولئك – أي على قول من قال إن الله فوق العرش بذاته -، ولكان اللوح المحفوظ على قول بعض العلماء إنه فوق العرش ليس دونه، مساويًا لله في الدرجة بحسب ما يقتضيه زعمهم، فعلى هذا المعنى يحمل تفسير مجاهد لقول الله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [(385)] بعلا على العرش كما رواه البخاري[(386)][(387)] اهـ. وهو نفيس جدًّا، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لهذا في محله.
وكذلك معنى قولنا «الله أكبر» أي أكبر من كل شىء قدرا وعلما وقدرة، ولا يتبادر إلى فهم السامع لهذه الكلمة الشريفة كبر الحجم في حق الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ـ[366] شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة لملا علي القاري الحنفي: (ص/61).
ـ[367] دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد (ص/17).
ـ[368] ذكره في الفواكه الدواني (1/51).
ـ[369] سورة طه: 5 .
ـ[370] سورة الحديد: جزء من الآية 3 .
ـ[371] سورة الشورى: جزء من الآية 11 .
ـ[372] سورة النمل: 26 .
ـ[373] سورة البقرة: 117 .
ـ[374] وهو تعبير عن سرعة الإيجاد بلا مشقة ولا احتياج لغيره، لا أن الله تكلم بالحرف والصوت بلفظ (كن)، حاشاه، فإن كلامه بلا حرف ولا صوت ولا لغة، وإلا لأشبه كلام الخلق، وهو مستحيل.
ـ[375] سورة لقمان: جزء من الآية 11 .
ـ[376] سورة مريم: 67 .
ـ[377] مختارات من المصدر السابق دفع شبه من شبه وتمرد (ص/18-20).
ـ[378] الأسماء والصفات للبيهقي (2/412).
ـ[379] صيد الخاطر (ص/380)، فصل حدود العقل.
ـ[380] صيد الخاطر (ص/21)، فصل ما يطيقه البشر وما لا يطيقونه من التكليف.
ـ[381] سورة البقرة: جزء من الآية 255 .
ـ[382] تفسير الرازي المسمى التفسير الكبير (27/144).
ـ[383] رواه البخاري في صحيحه: (6/ 2745)، (7115)، كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [سورة البروج].
ـ[384] سورة طه: 5 .
ـ[385] رواه البخاري في صحيحه معلقًا: (6/ 2698)، كتاب التوحيد، باب {…وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ… *} [سورة هود].
ـ[386] إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية (ص/165).
ـ[387] الفرق بين الفِرَق لأبي منصور البغدادي (ص/333).