بسم الله الرحمن الرحيم
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيان الاجتهاد والتقليد. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد فإن الاجتهاد هو استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نصٌّ صريح لا يحتمل إلا معنى واحدًا فالمجتهدُ مَنْ له أهليةُ ذلك بأن يكون حافظًا لآيات الأحكام وأحاديث الأحكام مع معرفة أسانيدها ومعرفة رجال الإسناد ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد ومع إتقان اللغة العربية بحيث إنه يحفظ مدلولات ألفاظ النصوص على حسب اللغة التي نزل بها القرءان ومعرفة ما أجمع عليه المجتهدون وما اختلفوا فيه لأنه إذا لم يعلم ذلك لا يؤمن عليه أن يخرق الإجماع أي إجماع مَن كان قبله.
ويُشترط فوق ذلك شرط وهو ركن عظيم في الاجتهاد وهو فقه النفس أي قوة الفهم والإدراك ويشترط في المجتهد أيضًا العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر بحيث تغلب على حسنات الشخص من حيث العدد. وأما المقلد فهو الذي لم يصل إلى هذه المرتبة.
والدليل على أن المسلمين على هاتين المرتبتين قوله صلى الله عليه وسلم نضَّرَ اللهُ امرأً سَمِعَ مقالَتي فوَعَاها فأدَّاها كما سَمِعَها فرُبَّ مُبلِّغٍ لا فقْهَ عندَهُ([i]) اهـ رواه الترمذيّ وابن حبان. الشاهدُ في الحديث قوله فربّ مُبَلِّغٍ لا فقهَ عنده اهـ وفي روايةٍ ورُبَّ مُبَلِّغٍ أوعى من سامع اهـ فإنه يفهمنا أن من الناس مَن حظه الرواية فقط وليس عنده مقدرة على فهم ما يتضمنه الحديث من المعاني. وفي لفظ لهذا الحديث فرُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفقَهُ منه اهـ وهاتان الروايتان في الترمذي وابن حبان.
وهذا المجتهد هو مَورِدُ قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتَهَدَ الحاكِمُ فأصابَ فلهُ أجرانِ وإذا اجتهدَ فأخطأَ فلهُ أجرٌ([ii]) رواه البخاريُّ، وإنما خصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحاكمَ بالذّكْرِ لأنه أحوجُ إلى الاجتهاد من غيره فقد مضى مجتهدون في السلف مع كونهم حاكمين كالخلفاء الستة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز.
فيكون معنى حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءً لهؤلاء الذين يسمعون الحديثَ مِنْ رسول الله ثم يحفظونه فيَرْوُونَهُ لغيرهم مِنْ غيرِ أن يزيدوا فيه أو يُحرِّفُوهُ بنَضرَةِ وجوههم يوم القيامة، ثم بيَّنَ أنَّ أكثرَ هؤلاء لا يستطيعون أن يستخرجوا الأحكام من حديثِ رسول الله وفي لفظٍ لهذا الحديث فرُبَّ حاملِ فِقْهٍ ليسَ بِفَقيهٍ معناهُ رُبَّ حاملِ علمٍ إلى غيره بروايته لحدِيثِي لا يدرك معنى هذا الحديث الذي يحمله حتى يستنبط منه الأحكام ويَجتهد أي أنَّ الأكثر هذه حالَتُهُم.
فإذا كان أصحابُ رسول الله الذين يستمعون منه الحديث أكثرهم ليس لهم مقدرة على أن يستخرجوا الأحكام من حديثه عليه الصلاة والسلام فما بال مَن بعدهم كأهل عصرنا هذا. فهذا الحديث يقطع الطريق على الـمُدَّعين للاجتهاد من غير أن يكونوا مستأهلين ويكشف أنهم تائهون ليسوا على الاستقامة.
وقد عدَّ بعض علماء الحديث الذين ألَّفُوا في كتب مصطلح الحديث الـمُفْتينَ في الصحابة أقلَّ من عشرة وبعضهم عدَّ نحوَ مائَتَينِ منهم بلغ درجة الاجتهاد فإذا كان الأمر في الصحابة هكذا فَمِنْ أينَ يصِحُّ لكل مسلم يستطيع أن يقرأ القرءان ويطالعَ في بعض الكتب أن يقول أولئكَ رجالٌ ونحنُ رجالٌ فليس علينا أن نُقَلِّدَهُم. وقد ثبت أنَّ أكثر السلف كانوا غير مجتهدين بل كانوا مقلدين للمجتهدين فيهم.
وفي صحيح البخاريّ أنَّ رجلاً كان أجيرًا لرجل فزنى بامرأته فسأل أبوه فقيل له إنَّ على ابنك مائةَ شاة وأمَةً ثم سأل أهل العلم فقالوا له إنَّ على ابنِكَ جلدَ مائةٍ وتغريبَ عام. وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوج المرأة فقال يا رسول الله إنَّ ابني هذا كان عسيفًا أي أجيرًا على هذا وزنى بامرأتهِ فقيلَ لي إنَّما على ابنكَ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المائةُ شاةٍ والوليدةُ رَدٌّ عليه وإنَّ على ابنِكَ جلْدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ([iii]) اهـ.
فهذا الرجل مع كونه منَ الصحابة سأل أناسًا من الصحابة فأخطأوا الصواب ثم أفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بما يوافق ما قاله أولئك العلماء، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفهمنا أنَّ بعض مَنْ كانوا يسمعون منه الحديث ليس لهم فقه أي مقدرة على استخراج الأحكام من حديثه وإنما حظهم أن يرووا عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى فما بالُ هؤلاء الغوغاءِ الذين يتجرؤون على قول أولئك رجالٌ ونحنُ رجالٌ يعنون أنَّ المجتهدين كالأئمة الأربعة رجالٌ وهم رجال فلهم أنْ يجتهدوا مثلهم.
ثم هناك حديثٌ ءاخَرُ يوضح هذا المعنى رواه أبو داود وغيره أنَّ رجلاً كانَ في سفر فأجنب في ليلة باردة وكانت برأسه شجَّةٌ فقال لرفقائه أنا أصابتني جنابة وبرأسي شجةٌ فقالوا له اغْتَسِلْ فاغتسلَ فماتَ لأنَّ الماء في تلك الليلة التي كانت شديدة البرد لما دخل في شَجَّتِهِ أودَى به أي أهلكه فمات فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ هَلَّا سألُوا إذْ جَهِلُوا([iv]) اهـ المعنى هؤلاء ليسوا أهلاً للفتوى لماذا لم يسألوا مَنْ هم أهلٌ للفتوى فَتَوَلَّوا الفتوى بأنفسهم، مِنْ غضبه عليهم قال قتلهُمُ الله اهـ هؤلاء كانوا من الصحابة، ولسانُهُم عربيٌّ لُغَتُهُمْ لغةُ القرءان لغةُ الحديث، مع هذا ما كانوا وصلوا إلى حدِّ الاجتهادِ أي الاجتهاد الصحيح بل أفْتَوا من غير أن يكونوا مجتهدين فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هَلَّا سألوا إذْ جَهِلُوا اهـ معناه ما كان لهم حقٌّ أن يُفْتُوا بل كان حقهم أن يسألوا غيرَهُم ممن هم مِنْ أهل الفتوى أي من أهل الاجتهاد، هذا الحديث أيضًا دليل على أنه لا يصلح لكل إنسان أن يكون مجتهدًا كما يزعم بعض أهل هذا العصر، يكتفون بأفكارهم لا هم مجتهدون ولا يتبعون المجتهدين الذين رزقهم الله ذلك الفهمَ والحفظَ كالأئمةِ الأربعة وغيرهم. لكن الأئمة الأربعة مذاهبهم مدوّنة، تلاميذهم سجلوا فتاويهم واجتهاداتهم، أما المجتهدون الآخرون في ذلك الزمن وفيما قبل ذلك ما دُوّنَتْ مذاهبهم بل انقرضَتْ، أتباعهم الذين كانوا يأخذون باجتهادهم انقرضوا، كان عددٌ كثيرٌ من المجتهدين بعضُهُم منَ الصحابةِ وبعضهُم منَ التابعينَ وبعضُهُم من أتباع التابعين وبعضُهُم من تَبَعِ الأتباعِ كان عدد كثير من المجتهدين في هذه العصور لكن مذاهبهم انقرضت كان مذهبهم معمولًا به في بعض البلاد نحو مائَتَي سنة، الإمام الأوزاعيُّ كان أتباعه يوجدون في بَرّ الشام والمغرب نحو مائتي سنة ثم هؤلاء تحولوا إلى الشافعية والحنفية والمالكية فانقرض مذهب الأوزاعيّ أي لم يبقَ أحد يحفظه ولا مؤلفاته بقيت بين أيدي الناس بل تلفت وكذلك مجتهدون غيره.
ثم مع هذا كله نحن لا نقول باب الاجتهاد مغلقٌ مسدود على كل إنسان بل نقول إنه صعب جدًا. نقول يجوز أن يكون في هذا العصر مجتهدٌ رزقه الله مِنَ الفهم والحفظ كما رزق أولئكَ لكن الذي هو أهل لهذا يرى أنه ليس ضروريًّا أن يُظهِرَ نفسَهُ ويقولَ يا أيها الناس أنا مجتهدٌ كما كان أولئك الأئمة مجتهدين فخذوا بمذهبي واتبعوني، لا يرى ذلك أمرًا ضروريًّا يقول ما عليه الناس من اتباع مذاهب الأئمة المجتهدين الأربعة يكفيهم ليس ضروريًّا أن أظهر نفسي وأقولَ للناس يا أيها الناس أنا في هذا العصر رَزَقَني اللهُ تعالى درجةَ الاجتهادِ فاتبعوني بدل أن تتبعوا الشافعيَّ أو مالكًا أو أبا حنيفة أو أحمد بن حنبل لا يرى ذلك من الضروري بل يسكت لأنه يرى أنَّ ما هم عليه من اتباع المذاهب الأربعة حقٌّ.
والدليلُ على أنَّ باب الاجتهادِ مفتوح لمن هو أهلٌ لذلكَ ما قاله الإمامُ عليُّ ابن أبي طالب رضيَ الله عنه لِكُمَيلِ بنِ زياد لن تخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بِحُجَّةٍ([v]) اهـ رواه أبو نعيم والخطيب البغداديُّ وغيرُهما.
ثم الاجتهاد يكون في الأحكام ليس في أصول العقيدة، أصولُ العقيدة ليس فيها اجتهادٌ بل اتباع ما كان عليه الرسول مما تلقاه الصحابة عنه ثم التابعون الذين لم يَلْقَوا رسولَ الله واتبعوا الصحابة أي في أصول العقيدة تلك (1) وهكذا تسلسل إلى عصرنا هذا. عند جمهور الأمة في الاعتقاد وفي أصول العقيدة لا اختلاف، لذلك الصحابة لم يختلفوا في أصول العقيدة أي في ما يتعلق بمعرفة الله والأمور الاعتقادية التي تحصل في الآخرة كالإيمان بوجود الجنة ووجود جهنمَ والحساب والميزان ورؤية الله للمؤمنين بأبصارهم من غير أن يشبه شيئًا من الأشياء وأن الله خالق كل شيء من الأجسام وأعمال العباد الظاهرة والقلبية أي أن ذلك كله الله خالقه لا خالق للأجسام ولا للحركات والسكنات وتقلب القلوب إلا الله. في هذا لم يختلف الصحابة، وكذلك جمهور الأمة على هذه العقيدة.
أما الاختلاف في الفروع أي فروع الأحكام فقد حصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هناك مسئلة لم تحدث في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا ذكرت في القرءان ولا الرسول ذكرها وهي أن الرجل إذا مات وتركَ جَدًّا وإخوةً فاجتهدَ أصحاب رسول الله فكان اجتهادُ بعضِهِم أدَّاهُ إلى أنَّ الجد يرث مع الأخوة أي يتشارك الجدُّ مع الإخوة فيأخذ الجدُّ حصته من مال ابن ابنهِ وإخوةُ الميت يأخذون حصتهم، واجتهد ءاخَرونَ من الصحابة فأداهم اجتهادهم إلى أنَّ الجد مثل الأب فلذلك هو يرث أي الجدُّ فقط يأخذ المالَ والإخوة لا يأخذون شيئًا. مثل هذا الاختلاف في الأحكام ليس فيه ضرر إذا كان ممَّنْ هو أهلٌ للاجتهادِ لأنَّ الذين قالوا الجَدُّ هو وَحْدَهُ يأخذ الميراث لأنه مثل الأب هم سيدُنا أبو بكر وبعضٌ من الصحابة وافقوه، والذين قالوا الإخوةُ والجَدُّ يشتركون في الميراث كذلك من أكابر الصحابة مثل سيدنا علي وزيد بن ثابت. لا هؤلاء عابوا على هؤلاء ولا هؤلاء عابوا على هؤلاء اجتِهادَهُم فالمذاهب الأربعة هذا شأنهم، بعضهم اجتهد فوافق اجتهادُهُ اجتهادَ أبي بكر وبعضهم اجتهد فوافق اجتهادُهُ اجتهادَ سيدنا عليّ فلا بأسَ على هؤلاء ولا على هؤلاء.
فينبغي لأهلِ كلِّ بلدٍ أن لا يخرجوا عن المذاهب المعتبرة بدعوى الاجتهاد لأنفسهم أو لأناس شَذُّوا وتصَدَّرُوا هذا المنصب منصبَ الاجتهادِ وليسوا بأهل بل هم من أبعد الناس عن هذا المنصب.
فالنصيحةُ للجميع أن لا يلتفتوا لهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم مجتهدين وهم ليسوا من أهل الاجتهاد.
وكم من الـمُحدّثين حفظوا من متون أحاديث رسول الله عشراتِ الألوف ومنَ الأسانيدِ ما يزيد على مائةِ ألفٍ يحفظون ذلك عن ظهر قلبٍ من غير مراجعة لِما تلقَّوهُ من أمثالهم لم يدَّعُوا الاجتهاد بل كان قسمٌ منهم مالكيين وقسم منهم شافعيين كالحافظ ابن حجر الذي قيل عنه أمير المؤمنين في الحديث من كثرة محفوظاته لأحاديثِ رسول الله ورواةِ أحاديث رسول الله، حتى هذا كان شافعيًّا كان قاضيًا على مذهب الشافعيّ، وكذلك محدثون كانوا يحفظون عشراتِ ألوف الرواة منَ الصحابة، كان يعرف أحدهم أن أبا هريرة وحده كان له ثمانِمائةِ راوٍ أي الذين سمعوا منه الحديثَ عددهم ثمانمائة وأنَّ عدد الذين أخذوا عن الإمام عليّ كذا وكذا وأن عدد الذين أخذوا عن أبي بكر كذا وكذا مع حفظهم لهذا عن ظهر قلب ومع ذلك ما ادَّعَوا الاجتهادَ كان هذا شافعيًّا أو مالكيًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا فكيف بهؤلاء الذين تصدَّرُوا اليومَ منصبَ الاجتهاد بغير أهلية، لا يحفظ أحدهم عشرة أحاديث بأسانيدها من أنفسهم إلى رسول الله، كيف يصِحُّ لهم دعوى الاجتهاد وكيف يصح للناس أن يتبعوا هؤلاء ويتركوا المذاهب المعتبرة.
ثم وظيفةُ المجتهد التي هيَ خاصَّةٌ له القياسُ أيْ أنْ يعتبر ما لم يَردْ به نصٌّ بما ورد فيه نصٌّ لشبهٍ بينهما. فالحذرَ الحذرَ منَ الذينَ يحثون أتباعهم على الاجتهادِ مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه المرتبة.
فهؤلاء يُخرِّبُون ويدْعُونَ أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين، وشبيهٌ بهؤلاء أناسٌ تعوَّدُوا في مجالسهم أن يوزعوا على الحاضرين تفسير ءايةٍ أو حديثٍ مع أنه لم يسبق لهم تلَقّ معتبر من أفواه العلماء فهؤلاء الـمُدَّعُونَ شَذُّوا عن علماء الأصول لأن علماء الأصول قالوا القياسُ وظيفةُ المجتهدِ وخالفوا علماء الحديث أيضًا، فالنصيحةُ عدمُ الالتفاتِ إلى كلام هؤلاء وعدم الخروج عن المذاهب المعتبرة. فمِمَّنْ ادَّعى منصب الاجتهادِ فشَوَّشَ على المسلمينَ في العقيدة والأحكام رجلٌ ظهر في أواخر القرن السابع الهجري يقال له أحمد بن تيمية أفتى فتاوى مخالفةً للشريعةِ الإسلامية ضد ما كان عليه علماء الإسلام قبله بلغت ستين مسئلة كما قال الحافظ وليُّ الدين العراقيُّ، ومن جملتها قوله الذي يزورُ قبرَ نبيّ أو وليّ لطلب البركة منَ الله بزيارته لهذا النبيّ أو هذا الوليّ مشركٌ كافرٌ إلا الذي يزور للسلام عليه والدعاء له هذا زيارته شرعية. وكذا عمل ابن تيمية بلبلةً في مسائل عديدة.
هو كان نشأ في دمشق فعلماءُ الشام عملوا له مجلس مناظرة فحاجُّوه غلبوه في الحجة ثم أظهر أنه تاب وأمضى بخطه رجعتُ إلى ما عليه الجماعة، ثم تركوه ثم عاد للتشويش ثم أخذوه وهكذا تكرر منه هذا الشذوذُ والتشويشُ على المسلمين، ثم الـمَلِكُ السلطان محمّد بن قلاوون الملك الناصر الذي كان مقره في القاهرة استدعاه وقال وجهوه إلينا من الشام إلى مصر، فوَجَّهُوهُ إلى هناك ثم أمر الملكُ محمّد بن قلاوون العلماءَ بأن ينظروا في أمرهِ فاجتمعَ قاضي قضاةِ الشافعية وقاضي قضاةِ المالكيةِ وقاضي قضاةِ الحنابلة وقاضي قضاةِ الحنفية هؤلاء الأربعةُ كل واحد منهم قاضي القضاءِ ليسوا من العلماء الصغار، اجتمعوا فنظروا في أمرهِ قالوا هذا الرجلُ ضالٌّ يجب التحذير منه ويلزم حبسه الحبس الطويل. فردوه إلى الشام فوضع في السجن إلى أن ماتَ.
هذا الذي يقال عنه اليوم عند بعض الناس المخدوعين شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهذا شأنه، وهذه القصة أن قضاة المذاهب الأربعة حكموا عليه بالحبس الطويل رواها عِدَّةٌ من المؤرخين منهم تلميذٌ لابن تيمية اسمه صلاح الدين الصفديُّ له تاريخٌ سماه عيونَ التواريخ يقول في ذلك هذا التفصيل أنَّ ابن تيمية أخذوه من الشام إلى مصر ثم الملك أصدر المرسوم بحبسه وأصدر مرسومًا يُقرأ على المنابر في بر الشام فقرئ على المنابر في بر الشام وفي مصر في التحذير منه ومن أتباعه ثم مات ابن تيمية فخفت فتنته ثم بعد ثلاثمائةِ سنةٍ في نجدٍ رجلٌ يُقال له محمّد بن عبد الوهاب طالع كتب ابن تيمية فشوشَ على المسلمين بتلك الفتاوى التي كان ابن تيمية أنشأها وهيَ سارية إلى اليوم في نجد الحجاز هؤلاء يُنسبون إلى ذلك الرجل محمّد ابن عبد الوهاب يُقال لهم الوهابية.
كان لابن عبد الوهاب أخ اسمه الشيخ سليمان، كان مخالفًا لأخيه الذي شذّ عن أئمة المسلمين واتبع ابن تيمية حتى إنه ألّف في الرد عليه، ورَدُّهُ هذا موجودٌ اليوم في بَرّ الشام ومصرَ وتركية واسمه فصل الخطاب في الرد على محمّد بن عبد الوهاب.
هذا الرجل الشاذ شوّش على المسلمين، يكفّر المسلمين بغير حق وأتباعُهُ إلى اليوم يقتدون به في التشويش فاحذروهم، يوردون الأحاديث في غير مواضعها والآيات القرءانية في غير مواضعها فيوهمون الناس أنَّ كلامَهُم صحيحٌ موافق للقرءان والحديث فاحذروهم كلَّ الحذر هؤلاء مفتونون ومَن اتبعهم فهو مفتونٌ تائهٌ عن الحقّ زائغٌ ضالٌّ وكذلك كل من شذّ عن أئمة الهدى وأئمة الاجتهاد فحلَّلَ وحرَّمَ على خلاف ما كان عليه علماء الإسلام في السلف والخلف. علماء الإسلام كلهم من الصحابة إلى ذلك العصر الذي ظهر فيه ابن تيمية وإلى اليوم يعتبرون زيارة قبور الأنبياء والأولياء للتبرك جائزًا فقد روى الحافظ الخطيب البغداديُّ بالإسناد أنَّ الشافعيَّ رضيَ الله عنه قال إني لأتبركُ بأبي حنيفة وأجيءُ إلى قبره في كل يوم زائرًا فإذا عَرَضَتْ لي حاجةٌ صلَّيتُ ركعتَين وجئتُ إلى قبره وسألتُ الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تُقضَى([vi]) اهـ علماء الإسلام ما كان أحدٌ منهم ينكر هذا حتى جاء هذا الرجل ابن تيمية فأنكر وشوَّشَ على المسلمين وتَشويشُهُ هذا إلى يومنا سائر بين الناس على لسان أتباعه التيميين فاحذروهم كل الحذر وحذّروا منهم ولا يكفي أن تَحْذَرُوا أنتم لأنفسكم بل واجب عليكم أن تحذّروا غيركم لأنهم مندسُّون بين الناس هنا وهناك فاحذروهم وحذّروا منهم حتى تسلموا وتنطفئ فتنتهم.
وبعد هذا البيان الموجز اتضح لذي عينَين بصيرتين مَن هو المجتهد المستأهل ليتبعه غيره، ألهمنا الله السهر على عقيدة أهل السنة والجماعة وجنبنا الله الفتن ما ظهر منها وما بطن. وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
انتهى والله تعالى أعلم.
[i])) رواه الترمذي في سننه بابُ فضلِ نشرِ العلمِ، ورواهُ ابن حبان في صحيحه باب ذِكر وصفِ الغِنَى الذي وَصَفناهُ قبلُ.
[ii])) رواه البخاري في صحيحه باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.
[iii])) رواه البخاري في صحيحه بابُ إذا اصْطَلَحوا على صُلْحِ جَورٍ فالصُّلْحُ مردودٌ.
[iv])) رواه أبو داود في سننه باب المجروح يتيمم، والبيهقي في السنن الكبرى باب المسح على العصائب والجبائر.
[v])) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء باب وصية عليّ لِكُمَيلِ بنِ زيادٍ.
[vi])) تاريخ بغداد (1/445).