(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا﴾) أَىْ أَنَّ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَىْ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ فِى الْبَرْزَخِ أَىْ فِى مُدَّةِ الْقَبْرِ وَالْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَمْتَلِئُوا رُعْبًا أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً (﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾) وَوَقْتُ الْغَدَاةِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الضُّحَى وَأَمَّا الْعَشِىُّ فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ ءَاخِرَ النَّهَارِ (﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾) أَىْ يُقَالُ لِلْمَلائِكَةِ (﴿أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾) وَءَالُ فِرْعَوْنَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاتَّبَعُوهُ فِى أَحْكَامِهِ الْجَائِرَةِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَقَارِبَهُ (وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾) أَىْ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذَا مَاتُوا يَتَعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِـ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَىِ الْمَعِيشَةَ الضَّيِّقَةَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِـ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ مَعِيشَةً قَبْل الْمَوْتِ إِنَّمَا الْمُرَادُ حَالُهُمْ فِى الْبَرْزَخِ (فَهَاتَانِ الآيَاتَانِ وَارِدَتَانِ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ) الأُولَى صَرِيحَةٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ عُرِفَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِىِّ هُوَ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ (وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَيُؤَخِّرُ لَهُمْ بَقِيَّةَ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِىُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرِ إِثْمٍ) أَىْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ مَا يَرَى النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبُهُمَا شَيْئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِى الْحَقِيقَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ (قَالَ بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) وَهِىَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا يَقُولُ لِهَذَا فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا وَيَقُولُ لِلآخَرِ فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا لِيُوقِعَ بَيْنَهُمَا الشَّحْنَاءَ (وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ) أَىْ كَانَ يَتَلَوَّثُ بِالْبَوْلِ وَهَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ« رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِىُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ مَعْنَاهُ تَحَفَّظُوا مِنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُلَوِّثَكُمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ »لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا«. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِى الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِى الْقَبْرِ كَحَدِيثِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ الَّذِى رَوَاهُ الْحَاكِمُ) فِى الْمُسْتَدْرَكِ (وَالْبَيْهَقِىُّ) فِى شُعَبِ الإِيمَانِ (وَأَبُو عَوَانَةَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ) وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِيهِ »وَيُعَادُ الرُّوحُ إِلَى جَسَدِهِ« (وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا »مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِى الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ« رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) فِى التَّمْهِيدِ وَالاِسْتِذْكَارِ (وَ)الْحَافِظُ (عَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِىُّ وَصَحَّحَهُ فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ رُجُوعَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ إِلَى بَعْضِهِ) وَعَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ ثَابِتٌ فِى حَقِّ كُلِّ الأَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ (وَيَتَأَكَّدُ عَوْدُ الْحَيَاةِ فِى الْقَبْرِ إِلَى الْجَسَدِ مَزِيدَ تَأَكُّدٍ فِى حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِى قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ« صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِىُّ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ) ابْنُ حَجَرٍ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا ثَابِتٌ لِكُلِّ نَبِىٍّ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فَقَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَامًّا كَمَا حَصَلَ لِلتَّابِعِىِّ الْجَلِيلِ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ فَقَدْ شُوهِدَ فِى قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ يُصَلِّى (وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ »إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ) وَلَفْظُ الإِشَارَةِ الْمَذْكُورُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ فِى قَوْلِهِ »مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ« لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ فِى تِلْكَ السَّاعَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا مَرْئِيًّا مُشَاهَدًا وَإِنَّمَا هَذِهِ الإِشَارَةُ تُسَمَّى إِشَارَةً لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِىِّ (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَىِ الْكَامِلُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ) أَىْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مِثَالُ النَّارِ وَمِثَالُ الْجَنَّةِ فِى الْقَبْرِ (فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا) فَيَعْرِفُ فَضْلَ الإِسْلامِ حِينَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِى الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً أَمَّا شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ فَإِنَّ رُوحَهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَوْرًا (وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ فَيُقَالُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ) أَىْ لا عَرَفْتَ وَإِنَّمَا قِيلَ وَلا تَلَيْتَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ (ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ) أَىْ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَضْرِبَانِهِ بِهَذِهِ الْمِطْرَقَةِ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ (فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ) مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ (إِلَّا الثَّقَلَيْنِ«) وَهُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ فَإِنَّ اللَّهَ حَجَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فَتَّانَىِ الْقَبْرِ) وَالْفَتَّانُ هُوَ الْمُمْتَحِنُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ. مُنْكَرٌ مَعْنَاهُ هَذِهِ الْهَيْئَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ هَيْئَتُهُمَا تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْمَلائِكَةِ وَعَنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ هَذَا مَعْنَى مُنْكَرٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ بَاطِلًا وَسُؤَالُ الْقَبْرِ خَاصٌّ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ مَاذَا تَقُولُ فِى مُوسَى مَاذَا تَقُولُ فِى عِيسَى وَإِنَّمَا هَذَا زِيَادَةٌ فِى شَرْعِ مُحَمَّدٍ (فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا) يَعْنِى عِنْدَ السُّؤَالِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ »نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ«) أَىْ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنَ الْجِسْمِ مَعَ الرُّوحِ (قَالَ فَبِفِيهِ الْحَجَرُ) أَىْ ذَاكَ الْخَبَرُ الَّذِى لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ وَسَكَتَ وَانْقَطَعَ عَنِ الْكَلامِ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا كَانَ يَظُنُّ هُوَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ فَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ عَرَفَ خَطَأَ ظَنِّهِ (وَ)أَخْرَجَ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ) أَىْ لَوْنُهُمَا لَيْسَ مِنَ السَّوَادِ الْخَالِصِ بَلْ مِنَ الأَسْوَدِ الْمَمْزُوجِ بِالزُّرْقَةِ وَهَذَا يَكُونُ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنَ الأَلْوَانِ حَتَّى يَفْزَعَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا (يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ) وَقَدْ سُمِّيَا مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لِأَنَّ الَّذِى يَرَاهُمَا يَفْزَعُ مِنْهُمَا (فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ) يُسَمِّيَانِ الرَّسُولَ بِاسْمِهِ وَلَيْسَ الرَّسُولُ شَاهِدًا حَاضِرًا لِلسُّؤَالِ (فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ) قَبْلَ الْمَوْتِ (فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا) أَىْ كَامِلًا (قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) اللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُ وَيُقْدِرُهُ عَلَى الْجَوَابِ (فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ) أَىْ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ (أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ) وَلَمْ يَرِدْ مَاذَا تَقُولُ الْمَلائِكَةُ لِلْعَاصِى بَعْدَمَا يَشْهَدُ بِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ) أَىْ لِلْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ (فِى قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا) طُولًا (فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا) عَرْضًا وَذَلِكَ بِذِرَاعِ الْيَدِ (وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِى لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ) إِلَيْهِ أَىْ لا يُحِسُّ بِقَلَقٍ وَلا وَحْشَةٍ (حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ) الْمَيِّتُ (مُنَافِقًا) وَهُوَ الَّذِى يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ (قَالَ لا أَدْرِى كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَكُنْتُ أَقُولُهُ) فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْمَلَكَيْنِ فِى الْقَبْرِ أَنْ يَسْأَلا الْكَافِرَ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ سَيُجِيبُ لا أَدْرِى فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُجِيبُ مُخْبِرًا عَمَّا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِى الْمَاضِى قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ الآنَ أَنَّهُ حَقٌّ (فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِى فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ) فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ (حَتَّى تَخْتَلِفَ) أَىْ تَتَشَابَكَ (أَضْلاعُهُ فَلا يَزَالُ) هَذَا الْعَبْدُ (مُعَذَّبًا) بِهَذَا الْعَذَابِ (حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ«) ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُبْعَثَ يُعَذَّبُ بِأَشْيَاءَ غَيْرِ الَّتِى كَانَ يُعَذَّبُ بِهَا وَهُوَ فِى الْقَبْرِ ثُمَّ بَعْدَ دُخُولِهِ النَّارَ يَكُونُ أَشَدَّ وَأَشَدَّ (وَالْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُمَا فَفِى الأَوَّلِ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِى الْقَبْرِ وَالإِحْسَاسِ وَفِى الثَّانِى إِثْبَاتُ اسْتِمْرَارِ الرُّوحِ فِى الْقَبْرِ وَإِثْبَاتُ النَّوْمِ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلَ الْجَسَدُ. وَهَذَا النَّعِيمُ لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِىِّ وَهُوَ الَّذِى يُؤَدِّى الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعَاصِىَ وَهُوَ الَّذِى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ »الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ) أَىْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّعِيمِ فِى الآخِرَةِ الدُّنْيَا كَالسِّجْنِ (وَسَنَتُهُ) أَىْ دَارُ جُوعٍ وَبَلاءٍ (فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ« حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، يَعْنِى الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ. ثُمَّ إِذَا بَلِىَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ) وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ لا يَبْلَى وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ نَارٌ شَدِيدَةٌ وَقَدْ وَرَدَ فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ »مِنْهُ خُلِقَ الإِنْسَانُ وَعَلَيْهِ يُرَكَّبُ« أَىْ أَنَّ سَائِرَ الْعِظَامِ تُرَكَّبُ عَلَى هَذَا الْعَظْمِ الصَّغِيرِ (يَكُونُ رُوحُ الْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ فِى الْجَنَّةِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَبَعْضُهُمْ فِى السَّمَاءِ الأُولَى وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِى سِجِّينَ وَهُوَ مَكَانٌ فِى الأَرْضِ السُّفْلَى وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ) الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (فَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ) وَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ »أَرْوَاحُهُمْ فِى جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِى إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ« وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ فِى حَوْصَلَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ يَطِيرُونَ فِى الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِهَا أَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مُتَبَوَّأَهُ الْخَاصَّ لا يَدْخُلُونَ فِى حَوَاصِلِ الطُّيُورِ الَّتِى فِى الْجَنَّةِ. وَالأَوْلِيَاءُ وَالْوَلِيَّاتُ بَعْدَمَا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ أَرْوَاحُهُمْ تَصْعَدُ إِلَى الْجَنَّةِ فَتَسْرَحُ فِى الْجَنَّةِ بِشَكْلِ طَائِرٍ لَيْسَ بِشَكْلِ جَسَدِهِ الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا الرُّوحُ يَتَشَكَّلُ بِشَكْلِ طَائِرٍ فَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَعْثِ تَعُودُ الأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ءَامِنِينَ وَفِى ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ »إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِى شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ« رَوَاهُ مَالِكٌ، أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ بِلَى أَجْسَامِهِمْ تَكُونُ فِى الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ لَكِنْ لا يَتَبَوَّؤُنَ الْمَكَانَ الَّذِى هُىِّءَ لَهُمْ لِيَدْخُلُوهُ فِى الآخِرَةِ (تَنْبِيهٌ يُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ النَّبِىُّ وَالشَّهِيدُ أَىْ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ الطِّفْلُ أَىِ الَّذِى مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُ سُؤَالُ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأَمْوَاتِ فَالْجَوَابُ مَا قَالَ الْحَلِيمِىُّ »إِنَّ الأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ مَلائِكَةُ السُّؤَالِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً يُسَمَّى بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا وَبَعْضُهُمْ نَكِيرًا فَيُبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ«) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْطِىَ اللَّهُ لِهَؤُلاءِ أَشْبَاحًا فَيَحْضُرَانِ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ بِشَبَحَيْنِ إِمَّا بِالشَّبَحِ الأَصْلِىِّ وَإِمَّا بِالشَّبَحِ الْفَرْعِىِّ.