الإمام محمد بن إدريس الشافعي
ترجمته:
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، فهو عربي قرشي هاشمي مطلبي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف.
ولد الشافعي بغزة سنة مائة وخمسين هجرية، وهي نفس السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة.
وروى ياقوت الحموي في معجمه عن الشافعي أنه قال “ولدت باليمن فخافت أمي علي الضيعة، فحملتني إلى مكة وأنا ابن عشر سنين أو شبيه ذلك” وذهب البعض في التوفيق بين الروايتين إلى القول بأنه ولد بغزة، ونشأ بعسقلان وهي بلدة تبعد نحو ثلاثة فراسخ من غزة كانت تسكنها قبائل اليمن.
نشأ الشافعي في أسرة فقيرة، ومات أبوه وهو صغير فانتقلت به أمه إلى مكة لتحافظ على شرف نسبه.
وأمه تدعى فاطمة بنت عبد الله الأزدية نسبة إلى قبيلة الأزد. شب الشافعي فقيرًا ضيق العيش، حتى اضطر وهو يطلب العلم إلى الكتابة على قطع الخزف، وقطع الجلود وسعف النخل وعظام الحيوانات لضيق ذات يده وعدم قدرته على شراء الورق.
حفظ الشافعي القرءان الكريم وهو صغير، وأخذ يحفظ الأحاديث النبوية ويكتبها، ورحل إلى البادية وعاشر قبيلة “هذيل” عشر سنين ليأخذ عنها قواعد اللغة العربية وكلماتها، فحفظ الشافعي أشعار هذيل وأخبارها، وكانت هذيل من القبائل العربية الفصيحة. تعلم الشافعي الرمي إلى جوار العلم، حتى إنه كان يرمي عشرة سهام فلا يخطئ في سهم منها وقال في ذلك: “كانت همتي في شيئين: الرمي والعلم، فصرت في الرمي بحيث أصيب من عشرة عشرة” وسكت، فقال له بعض من سمعه [أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي].
الشافعي في مكة:
كان الشافعي في أول أمره منصرفًا إلى الشعر والأدب وأيام العرب، ثم قيض الله له من الأسباب ما صرفه إلى الفقه والعلم. وتقول الروايات إنه التقى وهو في طريقه إلى طلب النحو والأدب بمسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فسأل الشافعي: من أين أنت؟ فقال: من أهل مكة قال: أين منزلك؟ قال: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت فأجاب الشفعي: من عبد مناف قال مسلم: بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن لك.
وقد نبغ الشفعي في الفقه على حداثة سنه، وأذن له الزنجي في الإفتاء، ولكن همة الشافعي لم تقنع بما وصل إليه، إذ بلغته أخبار إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه وكان ذلك في الوقت الذي ارتفع فيه اسم مالك في الآفاق وبلغ شأنًا عظيمًا من العلم والحديث.
الشافعي في المدينة المنورة:
سمت همة الشافعي للهجرة إلى المدينة في طلب العلم، وأعد لذلك عدته بأن استعار كتاب “موطأ مالك” من رجل في مكة وقرأه وحفظه، ثم سافر إلى المدينة فلما سأله الإمام مالك عن اسمه قال: محمد، فقال له مالك: “يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن، إن الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية”. ثم قال له: “إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك”. وأخذ الشافعي يقرأ ومالك يستزيده في القراءة، وظل معه يروي عنه ويتفقه عليه ويدارسه المسائل التي يفتي فيها الإمام الجليل إلى أنا مات الإمام مالك سنة مائة وتسع وسبعين هجرية وقد بلغ الشافعي الشباب.
كان الشافعي حريصًا على ملازمة الإمام مالك، ولكنه كان يتحين الوقت بعد الآخر فيقوم برحلات إلى مكة يزور أمه ويستفيد بنصائحها، وكان فيها نبل وحسن فهم، وكان الإمام الشافعي يحب السفر ويرى فيه فوائد جليلة.
وكان يقول:
سأضرب في طول البلاد وعرضها *** أنال مرادي أو أموت غريبًا
فإن تلفت نفسي فلله درها *** وإن سلمت كان الرجوع قريبا
وقال الشافعي في فوائد السفر:
سافر تجد عوضًا عمن تفارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** وإن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
على أن شرف نسب الشافعي لم يقعده عن العمل والسعي في طلب الرزق ليأكل من كد يمينه، ثم ولاه أحد حكام اليمن عملاً في نجران ظهر فيه ذكاؤه وترفعه عن الظلم فرفض التملق والرشوة التي كانت تقدم لمن سبقه من الحكام.
الشافعي في العراق:
كان الشافعي وقت قدومه بغداد في الرابعة والثلاثين من عمره وأقام بها حولين. ثم تفرغ لدراسة العلم والفقه على محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، فاجتمع له بذلك فقه الحجاز الذي يغلب عليه النقل، وفقه العراق الذي يغلب عليه العقل، وهكذا صار الشافعي إمامًا من أئمة الفقه في المعقول والمنقول.
يقول ابن حجر عن الشافعي: “اجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث”.
مشايخه:
ومن مشايخه في العراق وكيع بن الجرّاح الكوفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي، واسماعيل بن عطية البصري، وعبد الوهاب بن عبد الحميد البصري.
ومن شيوخه في المدينة: مالك بن أنس الأصبحي، وإبراهيم بن سعد الأنصاري وعبد العزيز بن محمد الداوردي وإبراهيم بن يحيى الاسامي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وعبد الله بن نافع الصائغ.
ومن شيوخه في اليمن: مطرف بن مازن وهشام بن يوسف قاضي صنعاء وعمر بن أبي مسلمة صاحب الأوزاعي ويحيى بن حسان صاحب الليث بن سعد.
الشافعي وأحمد بن حنبل:
ولما عاد إلى مكة يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكابر العلماء في موسم الحد، واستمعوا إليه، ثم التقى بأحمد بن حنبل العالم الجليل، فلما سُئل عن الشافعي قال: “لقد منّ الله به علينا، ولقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير رحمة الله عليه” وكان ابن حبان يكثر التردد على مجلس الشافعي يجل مقامه ويحتفل به، ويقال إن الشافعي ركب يومًا على حماره فمشى ابن حنبل إلى جانيه وهو يذاكره، ولما علم يحيى بن معين بذلك عاتب أحمد بن حنبل على فعله هذا فقال له الإمام أحمد: “لو كنت في الجانب الآخر من الحمار لكان خيرًا لك”.
وفي عام مائة وخمس وتسعين هجرية قدم الشافعي بغداد ومعه أصول الفقه وقواعده، فأقبل عليه العلماء والمحدثون وأهل الرأي، فأخذ يفيض عليهم من علمه، وكان له بالعراق تلاميذ وأتباع، وعرف مذهبه واشتهر بمذهبه القديم.
وكان رحمه الله أول من صنّف في ابواب كثيرة من الفقه معروفة ومع ذلك قال: “وددت لو أخذ عني هذا العلم من غير أن يُنسب إلي منه شيء” وقال: “ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه”.
كان الشافعي رحمه الله جهوري الصوت جدًا، وفي غاية الكرم والشجاعة، وجودة الرمي وصحة الفراسة وحسن الخلق، كان قوله في اللغة حجة كقول امرئ القيس ولبيد ونحوهما كما نقله ابن الصلاح في طبقاته، في فصل المحمدين عن ابن هشام صاحب السيرة بسند صحيح، ولهذا عبّر ابن الحاجب في “تعريفه” بقوله: “وهي لغة الشافعي كما يقولون لغة تميم، وربيعة”، وكان رحمه الله أعجوبة في العلم بأنساب العرب وأيامها، وأحوالها.
وسأله هارون الرشيد يومًا موعظة، فوعظه بموعظة مؤثرة لطاووس اليماني، فبكى الرشيد وأمر للشافعي بمال كثير وهدايا ففرقها عند الباب.
قال الرازي في كتاب مناقب الشافعي: “واعلم ان الشافعي رضي الله عنه قد صنف كتاب الرسالة وهو في بغداد، ولما رجع إلى مصر، أعاد تصنيفه، وفي كل واحد منهما علم كثير”.
وفي سنة مائة وثمان وتسعين هجرية تولى الخلافة المأمون العباشي، وفي عهده لم يطب للشافعي المقام ببغداد نظرًا لغلبة الفرس واستيلائهم على شئون الحكم، والشافعي عربي قرشي معتز بالشريعة، بينما كان المأمون يشجع الفلسفة التي انتشرت في عهده، ولقد عرض على الشافعي تولي القضاء فأباه.
وعندما أراد الشافعي السفر إلى مصر قال:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر *** ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى *** أساق إليها أم أساق إلى القبر
وأقام الشافعي بمصر أربع سنين ونيفًا، نشرت فيها كتبه وسار ذكره ونال الفوز بسبب إقبال الناس عليه وحبهم له وانتشار مذهبه بينهم.
قال الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلى الفجر فيجيئه أهل القرءان، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار.
كان الشافعي رضي الله عنه يتحرى الدقة فيما يرويه الرواة منسوبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشترط فيمن يروي الحديث أن يكون صادقًا ورعًا، يفهم ما يرويه، حافظًا له وأن يكون قد سمع الحديث مباشرة ممن يروي عنه.
واعتبر الشافعي الإجماع إجماع أمة محمد في زمن من الأزمان على حكم من الأحكام حجة، وذلك بعد أن وضع له قيودًا وشروطًا تبعد عنه الفوضى، وكان يكره الغلوّ في الدين، ويرى أنه لا يجوز لإنسان أن يقول بالشريعة برأيه، إلا إذا كان أساس هذا الرأي القياس، وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في عله الحكم على أن يكون المتكلم أهلاً للاجتهاد والقياس.
ويقول الرازي في فقه الشافعي: “اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض”.
مرضه ووفاته:
تعرض الشافعي في حياته لأمراض كثيرة منها [البواسير] الذي كان سببًا لنزف الدم منه في كثير من الأحيان، وعرضه هذا المرض ذات مرة لنزيف شديد قضى عليه رحمه الله.
توفي الشافعي بمصر ليلة الخميس بعد المغرب في ءاخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين وعمره أربعة وخمسون عامًا، وكانت وفاته عند عبد الله بن الحكم وإليه أوصى، ودفن يوم الجمعة التالي ليوم وفاته، ودفنه بنو عبد الحكم في مقابرهم بالقرافة الصغرى وبنوا على قبره قبة جددها صلاح الدين وبنى بجوارها المدرسة الصلاحية عام خمسمائة وخمسة وسبعين هجرية ألف ومائة وتسعة وسبعين رومية، وكانت معقلاً لنشر مذهب الشافعي.
قبة الشافعي:
هي قبة عظيمة تفنن المهندسون في زخرفتها، وتوالى عليها التجديد والإصلاح من الملوك والحاكمين، ومكتوب على مصراعيها:
الشافعي إمام الناس كلهم *** في العلم والحلم والعلياء والباس
له الإمامة في الدنيا مسلمة *** كما الخلافة في أولاد عباس
أصحابه خير أصحاب ومذهبه *** خير المذاهب عند الله والناس
وفوق القبة مركب مثبت في هلال القبة منذ إنشائها، وقد عاينها الإمام البوصيري صاحب “البردة” المتوفى عام ستمائة وخمسة وتسعين هجرية، ألف ومائتين وخمسة وتسعين رومية وأنشد يقول:
بقبة قبر الشافعي سفينة *** رست في بناء محكم فوق جلمود
وقد غاض طوفان العلوم بقبره *** استوى الفلك من ذاك الضريح على الجود
وصف القبة:
يقول المسعودي: “إن مقبرة الإمام الشافعي قد تميزت بوضع عمود حجري عند الرأس، وءاخر عند قدميه وقد نقش على عمود الرأي النص التالي: “هذه مقبرة الإمام محمد بن إدريس الشافعي المؤمن بالله”.
في عام خمسمائة واثنين وسبعين هجرية أمر صلاح الدين الأيوبي ببناء مدرسة بجوار ضريح الإمام الشافعي، وتمّ بناءها في رمضان عام خمسمائة وخمسة وسبعين هجرية قد بقي من هذه المدرسة لوحة كتب عليها خمسة سطور: “بنيت هذه المدرسة باستدعاء الشيخ نجم الدين الخبوشاني لتدريس فقه الشافعي وأصول الأشعرية للرد على الحشوية وغيرهم من المبتدعة”.
كما أمر صلاح الدين بعمل تابوت خشبي ءاية في الزخرفة مؤرخ عليه سنة خمسمائة وأربعة وسبعين هجرية واسم الصانع هو عبيد أبو المعالي.
ويقول المقريزي: أن الملك الكامل دفن ابنه بجوار قبر الإمام الشافعي، وبنى قبة كبيرة على القبر، ووصل إليها المياه من بركة الحبش بواسطة قناطر، ولذلك أقبل الناس على بناء مقابر موتاهم، وانتهى بناء قبة الشافعي في جمادى الآخرة عام ستمائة وثمانية هجرية وبلغت تكاليفها خمسين ألف دينار.
ويذكر ابن إياس أن السلطان قايتباي أمر بإجراء إصلاحات بضريح الإمام الشافعي عام ثمانمائة وخمسة وثمانين تحت إشراف شمس الدين بن الزمن رئيس أعماله للشئون المعمارية ولكنه لم يشر إلى الإصلاحات التي قام بها، غير أن السخاوي في ترجمته لابن الزمن ذكر هذه الأعمال التي أشرف عليها فقال: “وعمّر قبة الإمام الشافعي وجدد رخامها وزخرفتها” ويقول الجبرتي: “إن علي بك الكبير أزال القصدير المغطى بخشب القبة الذي عمله السلطان الكامل لأن الخشب تحته كان قد تآكل ووضع بدله خشبًا ءاخر ثم غطى الخشب بصفائح جديدة من القصدير وثبّتها في الخشب بواسطة مسامير كبيرة وأصلح الزخارف الداخلية بطلاءات متعددة الألوان أهمها اللون الذهبي اللازوردي”.
يضيف الجبرتي: أن عبد الرحمن كتخلدا [بلّط] ردهة غرفة قبة الإمام الشافعي بالرخام الملون الذي يدخل إليها بواسطة ممر طويل وعريض ومقفل ببابين كبيرين وذلك سنة ألف ومائة وتسعين هجرية. ويوجد بالضريح أربعة مقابر، الأولى مقبرة الإمام الشافعي عليها التابوت الخشبي الذي أمر بعمله صلاح الدين، والثاني لأم السلطان الكامل، والثالث للسلطان الكامل، والرابع للسيد محمد بن عبد الحكم.
ويعتبر ضريح الإمام الشافعي من أكبر أضرحة مصر على الإطلاق، والقبة التي تعلوه كانت طوال العصور وما تزال موضع تقدير.