الخميس نوفمبر 21, 2024

الإمام أبو القاسم القشيري العالم المصنف الصوفي الأشعري


ترجمته:
هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ذكر ابن خلكان أن أصله من بلدة “أستوا” من العرب الذين قدموا خراسان، ولد سنة ثلاثمائة وست وسبعين للهجرة وتوفي والده وهو صغير، وكانت له أرض بنواحي “أستوا” فرأى أن يحضر إلى نيسابور ليتعلم طرفًا من الحساب ليعينه ذلك على استيفاء الخراج، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الدقاق رأس الصوفية في وقته، فسمع دروسه وتعلم منه وسلك طريق الصوفية، وأشار عليه الدقاق بالاشتغال بالعلم فخرج إلى درس أبي بكر الطوسي فتفقه على المذهب الشافعي، ثم اختلف إلى الأستاذ ابن فورك فأخذ منه علم الأصول حتى أتقنه على مذهب الإمام الأشعري، وتردد أيضًا إلى مجلس الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني فأخذ عنه، وأخذ عن عدة مشايخ كأبي الحسين الخفاف الذي أخذ عنه الحديث، وأبي بكر بن عبدوس وأبي نعيم أحمد بن محمد المهرجاني، وعلي بن أحمد الأهوازي وابن باكويه الشيرازي وغيرهم، حتى صار يشار إليه بالبنان وكثر طلابه في الأصقاع.


ثناء العلماء عليه:
ذكر التاج السبكي في طبقاته فقال في مقدمة ترجمته: “الأستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري الملقب زين الإسلام، الإمام مطلقًا وصاحب الرسالة التي سارت مغربًا ومشرقًا، والبسالة التي أصبح بها نجم سعادته مشرقًا، والأصالة التي تجاوز بها فوق الفرقد ورِقًا، أحد أئمة المسلمين علمًا وعملاً وأركان الملة فعلاً ومقولاً، إمام الأئمة ومجلي ظلمات الضلال المدلهمة، أحد مَنْ يقتدى به في السنة ويتوضح بكلامه طرق النار وطرق الجنة، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدم الطائفة الجامع بين أشتات العلوم” اهـ.

ومدحه عبد الغافر بن إسماعيل قائلاً: “الإمام مطلقًا، الفقيه المتكلم الاصولي المفسر الأديب النحوي الكاتب الشاعر لسان عصره وسيد وقته، وسر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدَّم الطائفة، ومقصود سالكي الطريقة وشعار الحقيقة وعين السعادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه ولا رأى الراءون مثله في كماله وبراعته، جمع بين علم الشريعة والحقيقة وشرح أحسن الشرح أصول الطريقة” اهـ.

وذكره أبو الحسن علي الباخرزي في “دمية القصر” وبالغ في الثناء عليه فقال: “الإمام زين الإسلام أبو القاسم جامع لأنواع المحاسن، ينقاد إليه صابها، ذلل المراسن فلو قُرع الصخر بسوط تحذيره لذاب… وله “فصل الخطاب في فضل النطق المستطاب”، ما هو في التكلم على مذهب الأشعري، كلمته للمستفيدين فوائد، وعتبات منبره للعارفين وسائد،وله شعر يتوج به رؤوس معاليه إذا خُتمت به أذناب أماليه”.

مؤلفاته:
لقد كان الإمام العالم الصوفي الشيخ أبو القاسم القشيري أحد الصوفية الصادقين المتحققين، فألف كتابه الذي سماه “الرسالة القشيرية”، وهي رسالة أراد فيها المؤلف تبيان حقيقة الصوفية، وأن عقيدتهم هي عقيدة توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة الخلق وكل ما فيه تنقيص في حقه تعالى.

ولم يكن الإمام القشيري أول من ألف في التصوف وبيان حال المتصوفين، فقد صنف الحافظ أبو نُعيم كتابه “حلية الأولياء وطبقات الأصفياء”، مريدًا بذلك أن يميز الصوفية المتحققين الصادقين من غيرهم، وذلك لأنه حصل في زمانه طعن في هؤلاء الصوفية، وادعى أناس التصوف وهم خلاف ما عليه الصوفية في المعتقد والقول والعمل، فبدأ بذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ليثبت أنهم من حيث الحقيقة زهاد صوفيون من السلف الصالح.

عُرف عن الشيخ أبي القاسم القشيري كثرة نصانيفه ولا سيما بعد وفة شيخه أبي علي الدقاق، فاخذ في التصنيف وصنف التفسير الكبير الذي سماه “التيسير في علم التفسير”، و”التحبير في التذكير” و”ءاداب الصوفية”، “الطائف الإشارات” وكتاب “المناجاة”، وكتاب “نحو القلوب الكبير”، و”أحكام السماع”، و”كتاب الأربعين في الحديث”، ومؤلفات كثيرة منها “الرسالة القشيرية” في علم التصوف التي نتوقف عندها فيما يلي:


الرسالة القشيرية:
بعد الحمد لله والصلاة على النبي يتوجه المؤلف في ابتداء رسالته إلى الصوفية الصادقين بقوله: “كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوزان القشيري إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.

أما بعد رضي الله عنكم فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وانبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره”.

كما بيّن الإمام القشيري السبب من تأليف الرسالة في مقدمته بقوله: “ثم اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة [الصوفية] انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم… وقلَّ الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة فعدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودنوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات… ولما أبى الوقت إلا استصعابًا وأكثر أهل العصر بهذه الديار لما زادوا إلا تماديًا فيما اعتادوه واغترارًا بما ارتادوه، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه، فعلقتُ هذه الرسالة إليكم أكرمكم الله وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في ءادابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم”.

وفيما يلي المقدمة يفرد الإمام القشيري الفصل الأول للحديث عن معتقد الطائفة الصوفية، هادفًا إلى التاكيد على أن اعتقاد أهل السنة هو اعتقادهم، إذ يقول في بداية هذا الفصل: “اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل”، ثم ينقل عن عدد منهم بعضًا من الكلام في التوحيد، فيروي عن أبي بكر الشبلي قوله: “الواحد المعروف قبل الحدّ وقبل الحروف”، ويعقب على كلامه قائلاً: “وهذا صريح من الشبلي أن القديم سبحانه لا حدّ لذاته ولا حروف لكلامه”.

كما يورد عن الجنيد قوله في معنى التوحيد: “هو إفراد الموَحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولن يولد بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”، وفي الرسالة أيضًا رواية عن أبي عثمان المغربي حيث يقول: “كنت أعتقد شيئًا من حديث الجهة، فلما قدمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة أني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا”، وعن الإمام جعفر الصادق قوله: “من زعم أن الله في شيء أو على شيء أو من شيء فقد أشرك، إذ لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا”.

لقد أراد الإمام القشيري في سرد أقوال هؤلاء الأئمة بيان معتقدهم في أصول الشريعة الذي هو تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه وعن المكان والجسمية والاعضاء وكل ما هو من صفات المخلوقات، ثم لخّص هذه المعتقدات بجملة أقوال منها قوله: “ليس يشبه شيئًا من المصنوعات ولا يشبهه شيء من المخلوقات، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان…”.

وتتضمن الرسالة بابًا ذكر فيه المؤلف مشايخ هذه الطريقة ورؤوسها أمثال إبراهيم بن أدهم وذي النون المصري والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والسري السقطي وأبي يزيد البسطامي وسهل بن عبد الله التستري والجنيد البغدادي وإبراهيم الخواص وابن خفيف الشيرازي، وطائفة كبيرة من الصوفية المتحققة، مع الإشارة إلى بعض من سيرهم وأخبارهم ومواعظهم وكلامهم في أصول الشريعة.

وفيما يلي هذا الباب يجعل المؤلف بابًا خاصًا فيه بعضًا من المصطلحات الصوفية المتعارفة بين أفراد هذه الطائفة كالحال والقبض والبسط والتواجد، والغَيْبة والحضور، والصحو والسكر والستر والتجلي والقرب والبعد وعلم اليقين وحق اليقين والمراقبة والحياء والفراسة والمحبة والشوق وغير ذلك من المصطلحات.

وبعد هذا الباب تأتي فصول عدة تتضمن مسائل تتصل بمسئلة التصوف كإثبات الكرامات للأولياء ومعنى الولي وهل يكون الولي معصومًا، وفيما ينبغي للمريد في التعامل مع مشايخه ومع المسلمين والفقراء وغير ذلك من الآداب والخصال التي يطلب من المريد التحلي بها بغية الرقي وسلوك طريق التصوف.


فتوى الإمام القشيري في الإمام الأشعري:
حدث في زمن الإمام القشيري فتنة عظيمة حيكت ضد الأشاعرة فكثر سبهم وسب الإمام أبي الحسن الأشعري، فاستُفتيَ الإمام عن عقيدة الاشعري فكتب كتابًا جاء فيه: “اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الاشعري كان إمامًا من أئمة أصحاب الحديث ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدع، وكان على المعتزلة والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة سيفًا مسلولاً. ومَنْ طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة. بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة. والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر. وكتبه عبد الكريم بن هوزان القشيري وكتبه تحته الخبازي، كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه، والشيخ أبو محمد الجويني الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف وبخط أبي الفتح الشاشي، وعلي بن أحمد الجويني وناصر العمري وأحمد بن محمد الأيوبي وأخيه علي، وأبي عثمان الصابوني وابنه أبي نصر بن أبي عثمان والشريف البكري ومحمد بن الحسن وأبي الحسن الملقابادي وقد حكى خطوطهم ابن عساكر. وكتب عبد الجبار الإسفراييني بالفارسية: هذا أبو الحسن كان إمامًا، ولما أنزل الله عز وجل قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة/54] أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى فقال: “هم قوم هذا”.

توفي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ونفعنا ببركاته سنة أربعمائة وخمس وستين للهجرة.