لقد حُفِظ الأنبياء وعُصِموا من الكفر قبل أن يوحى إليهم بالنبوة وبعد ذلك أيضًا، وأما قول سيدنا إبراهيم عليه السلام عن الكوكب حين رآه: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] فهو على تقدير الاستفهام الإنكاريّ فكأنه قال: أهذا ربي كما تزعمون؟ ثم لـمَّا غاب قال: {لَا أَحِبُّ الْأَفِلِينَ} [الأنعام: 76]، أي: لا يصلح أن يكون ربًّا فكيف تعتقدون ذلك؟ وعندما لم يفهموا مقصودَه؛ بل بقُوا على ما كانوا عليه قال حينما رأى القمر مثل ذلك، فعندما لم يجد بغيته أظهر أنه بريء من عبادته وأنه لا يصلح للربوبية، ثم لـمَّا ظهرت الشمس قال مثل ذلك فلم يرَ منهم بغيته فقال لهم: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 78]، أي: على زعمكم، أَيِسَ منهم – أي: ما عاد يرجو اهتداءهم – من عدم انتباههم وفَهمهم للمراد، أي: أن هذه الثلاثة لا تصلح للألوهية فتبرّأ مما هم عليه من الشرك، ثم لم يمكث فيهم بل ذهب إلى فلسطين فأقام هناك وتوفي فيها، وفي خلال ذلك ذهب إلى مكة بِسُرّيّته([1]) هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام وتركهما هناك بأمر الله تعالى. وأما إبراهيم ﷺ فقد كان يعلم قبل ذلك أن الربوبية لا تكون إلا لله بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51] قال القرطبيّ في تفسيره: «قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ} قال الفراء([2]): أي: أعطيناه هداه، {مِنْ قَبْلُ}، أي: من قبل النبوة»([3]).اهـ. أي: ألهمناه الصواب والحكمة والإيمان مِنْ قَبْلِ هذه المناظرة التي
جرت بينه وبين قومه المشركين.
وعصمة الأنبياء فضلٌ من الله ولطف بهم، ولكن على وجهٍ يبقى اختيارُهم بعد العصمة في الإقدام على الطاعة والامتناع عن المعصية، وإلى هذا القول مالَ إمام أهل السُّنَّة الشيخُ أبو منصور الماتريديّ([4]) رضي الله عنه، وهو القول السديد وعليه الاعتماد إذ لولا ذلك لكانوا مجبورين في أفعالهم، ومن كان مجبورًا على فعل الطاعة والامتناع عن المعصية لا يكون مأجورًا في فعله وتركه.
فإن قيل: إننا مأمورون بالاقتداء بهم، فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك.
فالجواب: أنهم عندما يقعون في الصغائر التي ليس فيها خسّة ولا دناءة نفس يُنَبَّهون فورًا ويتوبون قبل أن يقتديَ بهم أحد فزال المحذور.
[1])) «تَسرَّى: أَخَذَ سُرّيَّةً، أي: جارِيَةً، نَقلَهُ الجوهريُّ».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (س ر ي)، (38/273).
[2])) يحيـى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، مولى بني أسد (أبو بني منقر)، أبو زكرياء، المعروف بالفراء (ت207هـ)، إمام الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. كان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو. ولد بالكوفة سنة 114هـ، وانتقل إلى بغداد، وعهد إليه المأمون بتربية ابنيه فكان أكثر مقامه بها، فإذا جاء آخر السنة انصرف إلى الكوفة فأقام أربعين يومًا في أهله يوزع عليهم ما جمعه ويبرهم. وتوفي في طريق مكة. وكان مع تقدمه في اللغة فقيهًا متكلمًا عالـمًا بأيام العرب وأخبارها، من كتبه: (المقصور والممدود)، و(المعاني). الأعلام، الزركلي، (8/146).
[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (11/296).
[4])) محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريديّ (ت333هـ)، إمام أهل السُّنَّة. نسبته إلى «ماتريد» محلة بسمرقند. من كتبه: (التوحيد)، و(أوهام المعتزلة)، و(الردّ على القرامطة)، و(مآخذ الشرائع) في أصول الفقه، و(تأويلات أهل السُّنَّة)، و(شرح الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة)، مات رضي الله عنه بسمرقند. الأعلام. الزركلي، (7/19).