ها هو الألباني يصرح باعتقاد ليس له سلف فيه إلا الكرامية والمشبهة، وهما فرقتان من الفرق الضالة التي انحرفت عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، فيقول في كتابه المسمّى «مختصر العلو»([1]) بأن الله متكلم بصوت وحرف، ونص عبارته: «لأن الحنابلة يعتقدون أن القرءان بحرف وصوت، كما بينته هناك وهو الحق، خلافًا للأشاعرة وغيرهم».اهـ.
ثم نقل الألباني في شرحه على الطحاوية([2]) عن ابن أبي العز المجسم، ما نصّه: «وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسُّنَّة».اهـ.
الرَّدُّ:
ما هذا الكلام إلا امتداد لعقيدة التشبيه التي يحملها الألباني وينسبها بغير وجه حق إلى أئمة الحديث وإلى أهل السُّنَّة والجماعة، وهم بريئون من هذه العقيدة الكفرية، شأنه في ذلك شأن متبوعه أحمد ابن تيمية الحراني.
لا يستطيع الألباني ولا أحد من الوهابية أن يثبتوا نقلًا صحيحًا عن أحد من أئمة الحديث والسُّنَّة المعتبرين في ما نسبوه إليهم زورًا، فإن عقيدة السلف كما قال الإمام أبو حنيفة في «الفقه الأكبر»([3]) عن كلام الله: «ويتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات والحروف، والله تعالى يتكلم بلا ءالة ولا حروف».اهـ.
وقال العز بن عبد السلام([4]) ما نصّه: «فالله متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت، ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادًا في الألواح والأوراق شكلًا ترمقه العيون والأحداق، كما زعم أهل الحشو والنفاق؛ بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور من أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على كلامه كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته»، إلى أن قال: «فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شيء من ألفاظ العباد أو رسم من أشكال المداد».اهـ. وهذا هو عين الرد على الألباني وجماعته الوهابية المجسمة، لأنهم قالوا: إن الله يتكلم بالحروف التي يتكلم بها البشر، أي: على زعمهم عندما قال الله في القرءان الكريم: {كٓهيعٓصٓ} [سورة مريم: 1] فالله عندهم متكلم بالكاف والهاء والياء والعين والصاد، وهذا عين كلام البشر فما جوابهم عن ذلك؟!
وفي كتاب «نجم المهتدي ورجم المعتدي» للفخر بن المعلم القرشي المزيد من الفتاوى التي تبطل عقيدة هؤلاء المشبهة، فمن أراد مزيد التأكد فليرجع إليه([5]).
وعلى هذا علماء الإسلام كالحافظ البيهقي الأشعري وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من الشافعية، وأبي المعين النسفي والقونوي وغيرهما من الحنفية، والقاضي عياض اليحصبي والمفسّر محمد القرطبي من المالكية، والحافظ ابن الجوزي وغيره من فضلاء الحنابلة.
فَليُعلم أن هؤلاء المشبهة يعتقدون ويصرحون في كتبهم أن الله متكلم بكلام هو حروف وأصوات متعددة يحدث في ذاته ثم ينقطع، ثم يحدث ثم ينقطع، والعياذ بالله تعالى، وهذا ضلال مبين مخالف لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11]. أما أهل السُّنَّة قاطبة فيعتقدون أن كلام الله الذي هو صفة ذاته ليس حرفًا وصوتًا ولغةً، فالله تعالى موجودٌ متكلم سميع بصير قادر عالم قبل وجود الخلق، فهو موصوف بصفة الكلام قبل وجود الحرف والصوت واللغات.
واعلم أن القرءان الكريم له إطلاقان: يطلق ويراد به صفة الله القائمة بذاته، أي: الثابتة له، فهو على هذا المعنى ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً وليس بمبتدإ ولا مختتم، فالحروف متعاقبة، فحين يقول القارئ: «بسم الله الرحمـٰن الرحيم» نطق القارئ بالباء ثم السين وهكذا، ولا شك أن هذا الناطق مخلوق كما أن نطقه بالحروف المتعاقبة مخلوق أيضًا، ولا يجوز ذلك على الله.
ويطلق القرءان ويراد به اللفظ المنزل على سيدنا محمد ، فهذا اللفظ المكتوب في المصاحف المقروء بالألسنة، المحفوظ في الصدور، الذي هو باللغة العربية، لا يشك عاقل أنه مخلوق، ومع ذلك فهو ليس من تأليف مَلَك ولا بشر. ومن الدليل على أن اللفظ المنزل مخلوق قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سورة التكوير: 19]، أي: أن هذا القرءان لمقروء رسول كريم هو جبريل ، ولا يجوز أن تكون قراءة جبريل أزلية، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [سورة التوبة: 6] يدل على أن كلام الله يطلق ويراد به اللفظ المنزل المخلوق، لأن الكافر في الدنيا لا يسمع كلام الله الذي هو الصفة القائمة بذات الله.
ولا يطلق القول بأن القرءان مخلوق، ولو مع إرادة اللفظ المنزل، حتى لا يُتوهم من ذلك أن كلام الله الذي هو صفة ذاته مخلوق؛ بل يقال في مقام التعليم: القرءان إن أريد به اللفظ المنزل فهو مخلوق، وإن أريد به الكلام الذاتي فهو أزلي ليس بحرف ولا صوت. ومن أصرح الأدلة على أن كلام الله بمعنى الصفة القائمة بذات الله ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة قوله : «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمُه ربُّه ليس بينَه وبينَه ترجمانٌ» رواه البخاري([6])، فالله تعالى هو يحاسب جميع الخلق بنفسه فيُسمع الكافر والمؤمن كلامه الذاتي، فيفهم العباد منه السؤال عن نياتهم وأفعالهم وأقوالهم، والله قال في القرءان الكريم: {ثُمَّ رُدّوا إِلَى اللَّـهِ مَولاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحاسِبينَ} [سورة الأنعام: 62]، فلو كان حساب الله تعالى لعباده بتكليمه لهم بحرف وصوت ولغة لأخذ الحساب وقتًا طويلًا وَلَمَا كان الله أسرع الحاسبين كما قال؛ بل كان أبطأ الحاسبين؛ لأن الخلق كثير، وإبليس وحده عاش ءالافًا من السنين، والله أعلم كم سيعيش بعد، ويأجوج ومأجوج الكفار ورد في الحديث أن كل البشر بالنسبة لهم كواحد من ألف، فلو كان حساب هؤلاء بالسؤال بالحرف والصوت لكان حساب العباد يحتاج لوقت طويل، والله يفرغ من حساب العباد في لحظة قصيرة في جزء من موقف من مواقف القيامة الخمسين، فتبيّن للعاقل أن كلام الله الذي هو صفة ذاته ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة.
[1]() الألباني، الكتاب المسمّى مختصر العلو (ص7 و156 و285).
[2]() العقيدة الطحاوية، شرح وتعليق الألباني (ص25).
[3]() ملا علي القاري، شرح الفقه الأكبر (ص58).
[4]() تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى (8/519).
[5]() ابن المعلم القرشي، نجم المهتدي، ورجم المعتدي (ص559)، مخطوط.
[6]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إلَى رَبِّهَا نَاظِرةٌ} (6/2709).