تهجَّم الألباني على علماء الخلف وجَمع من علماء السلف لتأوُّلِهم ما تشابه من ءايات القرءان والحديث، فقال ما نصّه([1]): «ونحن نعتقد أن كثيرًا من المؤولة ليسوا زنادقة، لكن في الحقيقة أنهم يقولون قولة الزنادقة».اهـ. وقال([2]): «التأويل هو عين التعطيل».اهـ.
الرَّدُّ:
علماء السلف والخلف أوَّلوا، فالألباني ليس مع السلف ولا مع الخلف، فهذا كأنه اعتراف منه بالخروج من الملة، أليس أوّل هو وجماعته المشبهة قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْربُ فأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [سورة البقرة: 115] فظاهر هذه الآية يوهم أن الله محيط بالأرض، بحيث يكون المصلي متوجهًا إلى ذات الله، ولكن ليس هذا المعنى المراد منها، أليس أنت وجماعتك أولتم قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم : {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات: 99]؟ أليس إبراهيم كان في العراق وذهب إلى فلسطين؟ أليس أوَّلتم هذه الآية ولم تأخذوا بظاهرها الذي يوهم أن الله متحيز في أرض فلسطين؟ وأين الألباني وجماعته من حديث مسلم([3]): «ما تصدقَ أحدٌ بصدقةٍ من طيّبٍ ولا يَقبلُ اللهُ إلا الطيبَ([4])، إلا أخذَها الرحمـٰنُ بيمينِهِ([5]) وإن كانت تمرةً فتربو في كفِّ الرحمـٰنِ». أليس ظاهر هذا الحديث أن المتصدق إذا تصدق وقعت صدقته في يد الله؟ أليس أوَّلتم هذا؟ أم حملتموه على الظَّاهر فتكونون جعلتم يد الله تحت المتصدّق؟!
فإن قلتم: هذا الحديث والآيات التي ظواهرها أن الله في غير جهة فوق نؤولها، وأما الآيات التي ظواهرها أنه متحيز في جهة فوق فنعتقدها ولا نؤولها. يقول أهل السُّنَّة: هذا تحكُّم (أي: دعوى بلا دليل)؛ بل الدليل العقلي والنقلي يدلان على وجوب ترك حمل هذه الآيات وما كان على نحو هذا الحديث على ظواهرها، وإلا لتناقضت هذه الآيات مع قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11]، والقرءان منزه عن التناقض، والذي أوقعهم في هذا هو أنهم لا يؤمنون بوجود موجود ليس في جهة ومكان وليس حجمًا مخصوصًا، فمن أين صح لهم معرفة الله وهم على هذه الحال؟!
أما أهل السُّنَّة والجماعة فقد أوَّلوا هذه وهذه، ووفّقوا بين ءاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11]، وبين تلك الآيات، فإن الآيات والأحاديث منها ما هو محكم، ومنها ما هو متشابه، وقد ردّوا المتشابه بقسميه القسم الذي يدل ظاهره أن الله متحيز في جهة فوق، والقسم الذي يدل على أنه متحيز في جهة تحت، إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11].
وأما حديث([6]): «كان اللهُ ولم يكنْ شيءٌ غيرُه» فهو دال دلالة صريحة على أن الله موجود بلا مكان، لأن المكان غير الله. فتبيّن أن مذهب الألباني وجماعته التحكُّم، ومذهب أهل السُّنَّة الاعتدال وترك التعطيل؛ بل الألباني وجماعته عطّلوا قسمًا من الآيات والأحاديث وجعلوها وراء ظهورهم، كأنهم لم يسمعوها أو يروها.
فالحاصل: أن المتشابه من الكتاب والسُّنَّة قسمان قسم يوهم ظاهره أن الله في جهة فوق متحيز وأن له أعضاء وحركة وسكونًا، وقسم ظاهره أن الله متحيز في جهة تحت، فعَمَد أهل السُّنَّة إلى تأويل القسمين وردّهما إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص: 4] عملًا بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة ءال عمران: 7]، لما وصف سبحانه المحكمات بأنها أم الكتاب ردّ أهل السُّنَّة القسمين من المتشابه إلى المحكمات، وهنَّ أم الكتاب أي أصل الكتاب.
أما الألباني وطائفته المشبهة فقد حملوا قسمًا من المتشابه على الظاهر وألغوا القسم الآخر، فكأنهم جعلوا القسم الآخر مما لا يلتفت إليه، والقرءان كله حق وصحيح، ثم إنهم جعلوا لله أعضاء وحَدًّا ومقدارًا حملًا للآيات التي ظواهرها ذلك على الظاهر فجعلوا لله أمثالًا، وخالفوا قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [سورة الرعد: 8]، والعالم لطيفه وكثيفه له مقدار فجعلوا الخالق مثل خلقه، فالعرش له مقدار، أي: حد يعلمه الله والشمس لها مقدار، أي: حد يعلمه الله، والنور والظلام لهما مقدار يعلمه الله، وجعلوا لله مقدارًا فقالوا: الله بقدر العرش، وقال بعضهم: ليس بقدر العرش؛ بل بقدر بعض العرش، فأهل السُّنَّة المباينون لهم هم الأمة، هم مئات الملايين اليوم وهم الأشاعرة والماتريدية، وأما الألباني وطائفته المشبهة فهم شرذمة قليلة، فلا عبرة بمخالفتهم.
والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجهًا واحدًا، أو ما عُرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص: 4]، وقولِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [سورة مريم: 65].
وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أكثر من وجه، واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله تعالى: {الرَّحْمـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه: 5].
وأما قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} [سورة ءال عمران: 7] يحتمل أن يكون ابتداءً، ويحتمل أن يكون معطوفًا على لفظ الجلالة، فعلى الأول: المراد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو ذلك، فإنه لا يعلم متى وقوع ذلك أحد إلا الله؛ وعلى الثاني: المراد بالمتشابه ما لم تتضح دلالته من الآيات أو يحتمل أوجهًا عديدة من حيث اللغة مع الحاجة إلى إعمال الفكر ليحمل على الوجه المطابق كآية {الرَّحْمـٰن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه: 5]؛ فعلى هذا القول يكون الراسخون في العلم داخلين في الاستثناء، ويؤيد هذا ما رواه مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أنا ممن يعلم تأويله»([7]).اهـ.
قال القشيري في «التذكرة الشرقية»([8]): «وأما قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} [سورة ءال عمران: 7] إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبي عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها؟ فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله تعالى ولهذا قال: {هَلْ يَنظرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [سورة الأعراف: 53]، أي: هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائل أن يقول: في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات؟ وأن النبي ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى؟ ودعا الخلق إلى عِلْم ما لا يعْلَمُ، أليس الله يقول: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [سورة الشعراء: 195] فإذًا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [سورة الشعراء: 195] إذ لم يكن معلومًا عندهم، وإلا فأين هذا البيان؛ وإذا كان بلغة العرب فكيف يُدَّعَى أنه مما لا تعلمه العربُ لَـمَّا كان ذلك الشيء عربيًّا، فما قولٌ في مقالٍ مآله إلى تكذيب الرب سبحانه؟!
ثم كان النبي يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شيء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، لكان للقوم أن يقولوا: بيّن لنا أوَّلًا من تدعونا إليه وما الذي تقول، فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غيرُ مُتأَتٍّ ونسبة النبي إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول: «استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقَدَم صفة ذاتية لا يعقل معناها» تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل؛ وقد وضح الحق لذي عينين.
وليت شعري هذا الذي ينكر التأويل يَطَّرِدُ هذا الإنكار في كل شيء وفي كل ءاية أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى؟ فإن امتنع من التأويل أصلًا فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من ءاية وخبر [متشابهان] إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام – إلا ما كان نحو قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام: 101] – لأن ثَمَّ أشياء لا بدَّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيها إلا الملاحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع. وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه، فهذا مصير منه إلى أنَّ ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم؛ وسرُّ الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يُدَلّسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل المحقق: هذا كلام لا بد من استبيان([9])، قولكم: «نجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه» تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر الساق في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [سورة القلم: 42] هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر؟ ألست قد تركتَ الظاهر وعلمت تقدس الربّ تعالى عما يوهم الظاهر؟ فكيف يكون أخذًا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلًا، فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدَر، وهذا محال.
وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد [قُرِئَ] {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعلْمِ} [سورة ءال عمران: 7] فكأنه قال: والراسخون في العلم أيضًا يعلمونه ويقولون ءامنا به. فإن الإيمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: «أنا من الراسخين في العلم»».اهـ.
فتبيّن أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل، وهو محجوج بقوله لابن عباس: «اللَّهُمَّ علِّمْه الحكمةَ وتأويلَ الكتابِ»([10]).
هذا وقد شدّد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي في كتابه «المجالس» النكيرَ والتشنيع على من يمنع التأويل ووسَّع القول في ذلك، فمما ورد فيه([11]): «وكيف يمكن أن يقال: إن السلف ما استعملوا التأويل، وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين أنه قدّم له ابن عباس رضي الله عنهما وَضوءه فقال: «مَن فعلَ هذا؟» فقال: قلت: أنا يا رسول الله، فقال: «اللَّهُمَّ فقِّهْه في الدينِ وعلِّمْه التأويلَ»، فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه، فلا بدَّ أن تقول: أراد الدعاء له لا دعاءً عليه، ولو كان التأويل محظورًا لكان هذا دعاءً عليه لا له. ثم أقول: لا يخلو إما أن تقول: إن دعاء الرسول ليس مستجابًا فليس بصحيح، وإن قلت إنه مستجاب فقد تركت مذهبك وبَطَل قولك: إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل، وكيف والله يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ} [سورة ءال عمران: 7] وقال: {الٓـــــــمٓ} [سورة البقرة: 1] أنا الله أعلم، و{كٓهيعٓصٓ} [سورة مريم: 1] الكاف من كافي، والهاء من هادي، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، إلى غير ذلك من المتشابه».اهـ.
[1]() الألباني، فتاوى الألباني (ص522، 523).
[2]() الألباني، فتاوى الألباني (ص522، 523).
[3]() أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (3/85).
[4]() أي: الحلال (النووي، شرح صحيح مسلم، 7/98).
[5]() قال النووي: «قال المازري: قد ذكرنا استحالة الجارحة على الله ، وأن هذا الحديث وشبهه إنما عبّر على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا، فكنّى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف، وعن تضعيف أجرها بالتربية».اهـ. (النووي، شرح صحيح مسلم، 7/98).
[6]() تقدم تخريجه.
[7]() السيوطي، الدر المنثور (2/152)، ابن الجوزي، زاد المسير (1/354).
[8]() محمد مرتضى الزبيدي، إتحاف السادة المتقين (2/110).
[9]() كذا في الأصل، ووجه الكلام لا بد من استبيانه.
[10]() أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، فضل ابن عباس رضي الله عنهما (1/58).
[11]() ابن الجوزي، كتاب المجالس (ص13).