قال الألباني في مقدمة تعليقه على كتاب «بداية السول» ما نصّه([1]): «حبّ الله لا يُنال إلا باتباع نبيّه ، فاحرص إذًا على اتباع سنته كل الحرص، وأنفق في سبيل ذلك كل جهاد ونفس، ولا تغتر بما عليه بعض الضالين المغرورين من المتصوفة واللاهين الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا ونشيدًا ونغمًا، يزعمون أنهم بذلك يرضون محمدًا بما يسمونه بالأناشيد الدينية ويكثرون منها في أذكارهم واجتماعهم التي يعقدونها في بعض الأعياد البدعية، كعيد المولد ونحوه، فإنهم واللهِ لفي ضلال مبين، وعن الحق متنكبين، كيف لا وهم قد خلطوا الدين الحق باللهو الباطل، وقلدوا المغنيين الماجنين في موازينهم وأنغامهم الموسيقية، لا سيما وأنهم قد يضيفون إلى ذلك بعض الآلات الموسيقية أو التصفيق بالأكف لتتم المشابهة بين الفريقين» إلى أن قال: «وقد تنبه أخيرًا بعض الشباب المسلم إلى ما في تلك الأناشيد من المنكرات والانحرافات عن الشريعة الإسلامية فعدلوا عنها إلى أناشيد أخرى لا تخلو من حماس وقوة وتذكير بالبطولات الإسلامية، ولكنهم قد يلزمون فيها أيضًا بعض الألحان الموسيقية، وبعضهم قد يدخل إليها شيئًا من ءالات الطرب كالدف ونحوه، وقد سمعت بأذني من بعض التسجيلات شيئًا من ذلك وتكلمت معهم بما يوجبه الدين من النصح لهم وتذكيرهم بأن ذلك لا يجوز، لا سيما وأن الكثير منهم قد جعلوا الاستماع إليها هجيرهم وديدنهم، وشغلهم ذلك عن التفرغ لتلاوة القرءان أو الاستماع إليه، وهذا كله من مفاسد الانحراف عن السلف».اهـ.
الرَّدُّ:
لو كان الألباني يميّز بين الحق والباطل كما يزعم لَـمَا حرَّم الأناشيد الدينية مطلقًا من غير تفصيل بين الأناشيد التي فيها ما يخالف الشرع والأناشيد التي ليس فيها ما يخالف القرءان والحديث، ولكنه وقع في المحظور وعاث في الأرض فسادًا ينشر الكفر والضلال ويحارب أهلَ السُّنَّة والجماعة الأشاعرة والماتريدية، ولم يدخل في قلبه الحب الحقيقي للنبي ، فاستولى عليه الشيطان، ووسوس له بالباطل، وزيّن له سوء عمله، فاستجاب لوساوسه فحرَّم أولًا مدح رسول الله أفضل خلق الله وحبيب ربّ العالمين، ثم حرّم الأناشيد الدينية ولو كانت تحث على التقوى والزهد والعمل للآخرة ومدح النبيّ وغير ذلك مما هو موافق للشرع، أما تحريمه مدح النبي فقد مرّ سابقًا الرد عليه ودحض تخرصاته، وأما تحريمه الأناشيد الدينية ورمي المنشدين بالضلال وتحريم استعمال الدف عند الإنشاد فسأورد ما يكشف اللثام عن كلام الطَّغام (مَنْ لا معرفة له)، فأقول وبالله التوفيق:
روى ابن ماجه في سننه([2]) والطبراني في «المعجم الصغير»([3]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبي مرّ ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفّهنَّ ويتغنَّين ويقلن: [الرجز]
نحنُ جوارٍ من بني النّجَّارِ |
| يا حبّذا محمدٌ من جارِ |
فقال النبي : «الله يعلمُ إني لأحبُّكنَّ».
قال الحافظ البوصيري([4]): «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات».اهـ.
فهؤلاء اجتمَعن على مدح النبيّ ولم يَجتمِعْن إلا على هذا الأمر المبارك، لأنهنَّ أحببنه عليه الصلاة والسلام وتعلقت قلوبهنَّ به، فلم يُنكر عليهنّ رسول الله بل أقرهنّ، ولم يقل لهنّ لا تُكْثرنَ مدحي. وفي الحديث أيضًا دليل على جواز استعمال الدّف في مثل هذه الأناشيد، وردٌّ على الألباني الذي حرمه لجهله بالحديث.
ويشهد على جواز استعمال الدف في الأناشيد المباحة الحديث الذي رواه أبو داود([5]) في سننه أنّ امرأة أتت النبيّ فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أنْ أضرب على رأسك([6]) بالدفّ، قال: «أوفي بنذرِك»، والحديث الذي رواه الترمذي([7]) وابن حبان([8]) وصححاه أنّ النبيّ لـمّا رجع المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرتُ إن ردّك الله سالـمًا أن أضرب بين يديك بالدّف وأتغنّى، فقال لها رسول الله : «إن كنتِ نذرتِ فاضربي».
تأمّل كيف أقرّها النبيّ على مدحها وغنائها وعلى جواز استعمال الدّف، واي فرق بين غنائها ومدحها وبين الأناشيد المباحة؟! فمن ادّعى ذلك فعليه البيان.
وأما تشبيه الألباني المنشدين الذين يصفقون بأكفهم طربًا بمدح النبيّ ونحو ذلك بالمغنين الماجنين فليس بصواب، لأن التصفيق بالأكف ليس شعارًا خاصًّا بهؤلاء المغنين حتى يقال إنه يحرم على المنشدين هذا الفعل، ويقال له: إن المغنين الماجنين يستعملون الدف، فهل تقول يحرم على المنشدين استعماله؟ فإن منعه يكون خالف الحديث، وإن لم يمنعه يكون ناقض كلامه واتبع هواه.
ويؤيد ذلك ما رواه أحمد([9]) وابن حبان([10]) وصححه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله ويرقصون ويقولون: محمد عبد صالح، فقال رسول الله : «ما يقولون؟»، قالوا: يقولون: محمد عبد صالح.
ولهذا الحديث شاهد صحيح صححه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([11]) وفيه: «ومن قولهم يومئذٍ أبا القاسم طيّبًا» رواه النسائي في «السنن الكبرى»([12]).
فهؤلاء الحبشة كانوا يرقصون من غير تثنّ ولا تكسر أمام النبي ويراهم ولا ينكر عليهم، ولم يقل لهم هذا تشبّه بفعل الماجنين، فإذا لم ينههم عن هذا الفعل، فهل يكون التصفيق تشبهًا بالمغنين الماجنين!
ونذكر أخيرًا قول تاج الدين السبكي في كتابه «معيد النّعم»([13]) ونصّه: «المثال الرابع والخمسون: المنشِد، وينبغي أن يذكر من الأشعار ما هو واضح اللفظ صحيح المعنى مشتملًا على مدائح سيّدنا ومولانا وحبيبنا محمد ، وعلى ذكر الله تعالى وءالاته وعظمته وخشية مقته وغضبه وذكر الموت وما بعده، وكل ذلك حسن، وأهمه مدح النبيّ ، فإنه الذي يفهم من إطلاق لفظ المنشد».اهـ.
وها هو الألباني بعد أن ذكر حديث الجارية التي سألت النبي أن تضرب بالدف إن رده الله سالـمًا من طريق الترمذي وأحمد وصححه قال في كتابه المسمّى «سلسلة الأحاديث الصحيحة»([14]): «وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس، لأن الضرب بالدف معصية في غير النكاح والعيد، والمعصية لا يجوز نذرها ولا الوفاء بها، والذي يبدو لي في ذلك أن نذرها لـمّا كان فرحًا منها بقدومه صالحًا سالـمًا منتصرًا اغتفر لها السبب الذي نذرته لإظهار فرحها خصوصية له دون الناس جميعًا، فلا يؤخذ منه جواز الدف في الأفراح كلها».اهـ.
الرَّدُّ:
لو كان الضرب بالدف في غير النكاح والعيد معصية لا تجوز لَـمَا أباح لها استعماله بل كان نهاها، وزعمه أن هذا من خصوصيات النبي يدفعه قول الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([15]): «إن الأصل في أفعاله التأسي به حتى تثبت الخصوصية»، وبقوله([16]): «الخصوصية لا تثبت إلا بدليل».اهـ. وأين الدليل على ذلك؟!
ثم ماذا يقول في حديث ابن ماجه الذي ذكرته سابقًا، وهو أنه مرَّ بجوارٍ يمدحنه وأقرهن على ذلك؟!
ويدل إباحته في غير النكاح والعيد قول ابن حجر الهيتمي الشافعي في «فتح الجواد»([17]): «ويُباح الدف وإن كان فيه نحو جلاجل لرجل وامرأة ولو بلا سبب».اهـ. وقول الغزالي في «أحياء علوم الدين»([18]): «العارض الثاني في الآلة بأن تكون من شعار أهل الشرب أو المخنثين، وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة، وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدّف وإن كان فيه الجلاجل».اهـ.
وقال البُهوتي الحنبلي في كتابه «شرح منتهى الإرادات»([19]) ممزوجًا بالمتن: «(ويسن إعلان نكاح و) يسن (ضرب عليه بدف مباح… و) يسن ضرب بدف مباح (في ختان وقدوم غائب ونحوها) كولادة وإملاك قياسًا على النكاح».اهـ. وقال في كتابه «كشاف القناع»([20]) ممزوجًا بالمتن: «(ويستحب ضرب الدف) الذي لا حلق فيه ولا صنوج (في الإملاك) بكسر الهمزة، أي: التزويج».اهـ. وقال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»([21]): «وقال أحمد رحمه الله: لا بأس بالدف في العرس والختان».اهـ.
وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته على «الدر المختار»([22]): عند شرح: «جاز ضرب الدف في العرس» «لما في «البحر» عن «المعراج» أنه مباح في النكاح وما في معناه من حادث سرور».اهـ.
فالحاصل: أنّ الألباني خالف حديث رسول الله بل جعل الحديث تابعًا لرأيه فحرَّم الحلال، وتأول حديث الجارية بما لم يقله أحد قبله لينصر بدعته، فإلى الله المشتكى.
[1])) العز بن عبد السلام، بداية السول في تفضيل الرسول ، تعليق الألباني (ص9، 10).
[2])) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب: الغناء والدف (1/612).
[3])) الطبراني، المعجم الصغير (1/63).
[4])) البوصيري، مصباح الزجاج في زوائد ابن ماجه (1/334).
[5])) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأيمان والنذور، باب: ما يؤمر به من وفاء النذر (3/235).
[6])) أي: أمامك.
[7])) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب: في مناقب عمر بن الخطاب (5/620).
[8])) صحيح ابن حبان، كتاب النذور، باب: ذكر الخير الدال على إباحة قضاء الناذر نذره إلا لم يكن بمحرّم عليه (الإحسان، 6/196 – 201).
[9])) مسند أحمد (3/152).
[10])) أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الحظر والإباحة، باب: اللعب واللهو (الإحسان، 7/545).
[11])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (2/444).
[12])) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب عشرة النساء، باب: إباحة الرَّجل لزوجته النظر إلى اللعب (5/307).
[13])) تاج الدين السبكي، معيد النّعم (ص86).
[14])) الألباني، الكتاب المسمّى سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/142).
[15])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (3/547).
[16])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (4/62).
[17])) ابن حجر الهيتمي، فتح الجواد (2/406).
[18])) الغزالي، إحياء علوم الدين (مع شرحه إتحاف السادة المتقين لمرتضى الزبيدي) (6/502).
[19])) البهوتي، شرح منتهى الإرادات (3/92).
[20])) البهوتي، كشاف القناع (5/22).
[21])) ابن قدامة، المغني (7/434).
[22])) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار (5/482).