الجمعة أبريل 11, 2025

الدرس الثالث والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم

اغتنم خمسًا قبل خمسٍ

درسٌ ألقاهُ المحدثُ الصوفيّ الفقيهُ الشيخ عبدُ الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله في السابع والعشرين من رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة المباركة الموافق لواحد من شهر شباط سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة وألف ر في سويسرة وهو في بيان حديث اغتنم خمسًا قبل خمس. قال الشيخ رحمه الله رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين صلاة الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.

أما بعد فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: اغتنم خمسًا قبل خمس اغتنِم حياتَكَ قبل موتِكَ وصحتكَ قبل سَقَمِك وغِناكَ قبل فقرك وفراغك قبل شُغلِك وشبابَك قبل هرمِك([i]) اهـ حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره.

أكثر الناس غافلون عن العمل بهذه الوصية النبوية التي في هذا الحديث والعاملون بها قليلٌ في عباد الله جدًّا وذلك لأن الإنسانَ إذا مات فاتَهُ العملُ الذي كان مكلفًا به وينال به الثوابَ فيندم في الآخرةِ حين لا ينفعه الندم أما ما دامَ في الحياةِ فإنه إذا ندمَ يرجعُ إلى الصواب فيكتسبُ لآخرته الحسناتِ وتكونُ له ذُخرًا في الآخرةِ.

كذلك الإنسانُ إذا لم يكتسبْ ما ينفعُهُ في ءاخرَتِهِ في حالِ صحتهِ يَعجِزُ إن مرض عن تحقيق أعمالٍ من الحسناتِ لو عملها في حال صحته كان قدَّمَ خيرًا كبيرًا لآخرته.

كذلك الإنسانُ إذا لم يكتسب في حال شبابه أي في حال قوته وتمكُّنه من اكتسابِ الأعمالِ الصالحةِ فأخَّرَ ذلكَ إلى هَرَمِهِ فإنه يعجز عن كثير من الأعمال الصالحة التي لو كان اكتسبَها في حال شبابه اكتسب خيرًا كبيرًا.

كذلك الإنسانُ إذا لم يكتسب في حال غِناه الحسناتِ بالمال الذي في يده من المال الحلال إذا لم يكتسب لآخرته ما يكون ذُخرًا له في الآخرة يبوء بالندم وحينها لا يستطيع أن يحقّقَ تلك الأشياء التي فاتته بسبب ما عرض له.

كذلك الإنسانُ إذا لم يكتسب الحسناتِ الأعمالَ الصالحةَ في حال فراغهِ فإنه يعجز عن تحقيق ذلك واكتسابهِ عندما يصير مشغولاً فطُوبى لمن عمل بهذا الحديث.

ثم الأمرُ الذي هو أفضلُ الأعمال في هذه الحياة الدنيا أن يثبت الإنسانُ على الإسلام. المسلم الذي عرف الله ورسوله كما يجب إذا ثبت على الإسلام إلى الممات فإنه لا بدَّ أن يدخلَ جنةَ اللهِ دارَ النعيمِ الـمُقيمِ الذي لا انقطاعَ له فالمسلمُ مهما كانت حالتُهُ بعد أن يدخل الجنةَ يكون لشدةِ اطمئنانِ نفسهِ وعِظَم نعيمِه يكونُ كأنه لم يمرَّ به بأسٌ في الدنيا قطّ لو كان من أشد الناس بؤسًا في الدنيا من فقر ومرض وغير ذلك. الله تبارك وتعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وإذا رأيْتَ ثَمَّ رأيتَ نَعيمًا ومُلْكًا كبيرًا([ii]). هناك كل مسلم يعيش كأنه مَلِكٌ ليست عيشتُهُ هناك على انفراد مع أزواجه فقط بل يكون حولَه موكبٌ من الخدم يوجد في الجنةِ الولدان هؤلاء خلْقٌ خلَقَهُمُ الله ليس من إنس ولا جنّ ولا ملائكة كأنهم لؤلؤٌ منثورٌ هؤلاء اللهُ تبارك وتعالى يعطي أقلَّ أهل الجنةِ منزلةً عشرةَ ءالافٍ كلُّ واحد منهم في إحدى يدَيه صحيفة من ذهب وفي الأخرى صحيفة من فضة قائمون بخدمته يعيشون على هذه الحالةِ من الشَّبيبةِ أبدَ الآبدين. هذا معنى أنه يرى المؤمن في الآخرةِ مُلْكًا كبيرًا.

ثم هذا النعيم لا يحصل إلا لمن عرف اللهَ كما يجبُ لا يحصل ذلك لمجرد قول لا إله إلا الله محمّد رسول الله لأنَّ من الناسِ من يشبِّهونَ اللهَ بخلقه، بعض الناس يظنون أن الله بصورة إنسان بصورة شيخٍ كبيرٍ ومن الناس من يعتقدون أنه كُتلةٌ نورانيةٌ ومن الناس من يظنون أنهُ شيءٌ ضخمٌ بقدرِ العرشِ أو أوسعَ منه ومن الناس من يُثبِتُونَ له الحركةَ والسكونَ كشأنِ البشرِ ومع ذلك يقولون لا إله إلا الله وكلُّ هؤلاء ما عرفوه إنما يعرفُ اللهَ من يعتقدُ أنه موجودٌ لا يشبهُ شيئًا، يجزم في نفسه أنَّ كلَّ ما يتصوره القلبُ فالله بخلاف ذلك، لا يُشبه العالم الكثيفَ كالإنسان والجمادِ والنّيراتِ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ لأنه خالقُ هذا كلّه فلو كان يشبهُ شيئًا منها ما استطاعَ أن يخلقه. وهؤلاء الذين ذكرناهم ووصفناهم أنهم يعتقدون أن الله على شكل من الأشكال يظنون بأنفسهم أنهم مؤمنون مسلمون حتى إن بعضَهم مع كِبَرِ سِنِّهِ لما سمع مِنْ بعض العلماء أن الله تعالى لا يشبه شيئًا لا يشبه النور لا يشبه الظلام قال أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمنين يرون الله يوم القيامة كما يرون القمرَ ليلةَ البدر قلت له أنت توهمتَ ذلك إنما كلام الرسول أن المؤمنين لما يرونه لا يشكُّونَ أنه هو الله كما أن من يرى القمرَ ليلة البدر وليس هناك غمام لا يشكُّ أن هذا هو القمرُ قلت له هذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليس معناه أن الله بشكل القمر، هذا الرجل أوقعه في هذا الوهم عدمُ تعلُّمه من أهل المعرفة عقيدةَ أهلِ الحق أنَّ الله موجودٌ لا كالموجودات غيرُ متحيز في جهة ولا مكان ولا في جميع الجهات والأماكن لأنه كان قبلَ الزمانِ والمكانِ قبل أن يخلق الزمانَ والعرشَ وما سواه كان موجودًا بلا مكان ثم بعد أن خلق العرشَ وغيرَه من الأماكن لم يتحيّزْ في مكان، العرش ليس بالنسبة إلى ذات الله تعالى أقربَ منَ الأرض السفلى، لا العرشُ قريبُ من الله بالمسافة ولا أسفلُ العالـمِ بعيدٌ من الله بالمسافة. بعضُ الناس يتوهمون أن الله في جهة العلو لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يدعو يجعل بطون كفيه إلى السماء هؤلاء يقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما استسقَى أي طلبَ من الله المطرَ أشارَ بظهورِ كفيه إلى السماء وهذا يُبيِّنُ لنا أن رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء ليس معناه أن الله متحيزٌ في جهةِ الفوق لأنه لو كان الأمرُ كذلك كان عند طلب المطرِ أيضًا يرفع بطون كفَّيه إلى السماء وهذا

الحديثُ رواه مسلم([iii])، ما فيه خلاف في صحته. ثم إنه عليه الصلاة والسلام كان في التشهد لما يصلُ إلى كلمة إلا الله كان يرفع مُسَبِّحَتَهُ ويحنيها وهذا صحيح أيضًا رواه أبو داود في السنن([iv]) والبيهقيّ([v]) وغيرهما فالرسولُ عليه الصلاة والسلام بيَّنَ لنا أنَّ ما يتوهمه بعض الناس من أن الله متجيزٌ في جهة فوق فاسدٌ. هي الجهات الست هي باعتبار قامة الإنسان لأن الإنسانَ اللهُ تعالى خلقهُ بشكل له رِجلٌ ورأسٌ وجانبان وأمامٌ وخَلْفٌ فهذه الجهاتُ الستُّ هي تُتَصَوَّرُ مِنْ وَضْعِ قامةِ الإنسانِ فما يتجهُ إليه رأس الإنسان يُقال له فوق وما يلي رجلَيه يقال له تحت وما يلي أحدَ جانِبَيه يُقال له يمين وما يلي الجانب الآخر يقال له يسار وما يلي ظهره يُقال له خلف وما يلي وجهَهُ يُقال له أمام، اللهُ الذي خلق الإنسان على هذا الشكل مستحيلٌ أن يكون له جهةُ أسفلَ وجهةُ فوقٍ وجهةُ يمينٍ وجهةُ يسارٍ، هي من سخافةِ العقل هذه العقيدةُ أن الله متحيِّزٌ في الجهة العُليا فالعقل الصحيح يشهد بأن الله تبارك وتعالى موجودٌ بلا جهة ولا مكان ولا شكلٍ ولا هيئةٍ ولا لون.

وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذَ مَضْجَعَهُ يقول: اللَّهُمَّ فالقَ الحَبّ والنوى ومُنزِلَ التوراة والإنجيل والفرقانِ أعوذُ بكَ من شرّ كلِّ ذي شرّ أنت ءاخذٌ بناصيتِهِ اللهمَّ أنتَ الأولُ فليسَ قبلَكَ شيءٌ وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ وأنت الظاهرُ فليسَ فوقَكَ شيء وأنت الباطنُ فليسَ دونَكَ شيءٌ اقضِ عنّا الدَّينَ وأغنِنا من الفقر([vi]) اهـ هذا الحديث فيه دليلٌ على أن الله موجودٌ بلا مكان لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام قال فليس فوقكَ شيءٌ ثم قال فليس دونك شيء فإذًا موجودٌ بلا مكان ليس متحيِّزًا في جهةِ الفوقِ وليس متحيزًا في جهةِ التحت، هكذا قال البيهقيُّ فيه دليلٌ أن الله موجودٌ بلا مكان. هذه عقيدةُ أهل الحقّ منَ السلفِ والخلف السلف الذين كانوا ضمنَ الثلاثمائةِ سنةٍ هجريةٍ والخَلَف مَنْ جاء بعدهم هؤلاء كلُّهم الذين اتبعوا الصحابة في العقيدة بما فيهم من أئمة المذاهب الأربعة هذا اعتقادهم أن الله موجودٌ بلا مكان، والآياتُ والأحاديث التي ظواهرُها يُوهِمُ أنَّ للهِ مكانًا لا يُفسِّرونَها على ظواهرها، اللهُ تعالى له حكمةٌ في إنزالِ هذه الآياتِ في القرءان وإيحائه إلى سيدنا محمّد بتلك الأحاديث التي ظواهرُها تُوهِمُ أن الله له مكان وله هيئة وذلك امتحانٌ لعبادِهِ لأنَّ العبادَ منهم مَنْ لا يُفسِّرُ تلكَ الآياتِ وتلكَ الأحاديثِ على ظواهرها فهؤلاء يكونون منَ الـمُفلحينَ عند الله تعالى ومنهم مَنْ يحملها على ظواهرها فيكونون من الهالِكين.

واليومَ اندسَّ فيما بين الناس أناسٌ يُشبِّهُونَ الله بخلقهِ ويفسرون تلك الآيات وتلك الأحاديث على ظواهرها فيوقعون الناسَ في تشبيه اللهِ بخلقِهِ هؤلاء يُسمَّون الوهابية وهم يُسمُّونَ أنفسَهم السلفيةَ يوهمون الناسَ أنهم على مذهب أهل المئات الثلاث من الهجرة. السلف ما كانوا يحملون تلك الآياتِ والأحاديث على ظواهرها كما يفعلُ هؤلاءِ وقد حصل لهم في هذا الزمن رواجٌ لأنَّ كثيرًا منَ الناس ينشأون اليومَ من غير أن يتلقَّوا علمَ الدين ولا سيما العقيدة كما يجبُ من أهل المعرفةِ الذين تلقَّوا ممن قبلَهم. مِنْ هؤلاء دكتور تخرَّجَ منذ بضع سنين كان في الحجازِ هذا من هذه الطائفةِ، في رسالةٍ عملها قال الله تعالى له قدَمٌ يحطُّها يوم القيامة في جهنم ولا يتألم هو ولا يتعذب في النار لا تُؤذيه كما أن ملائكة العذاب الذين يشتغلون فيها لا يتعذبون. هو على زعمه دكتور فإذا كان هذا حالُ رأسٍ من رؤوسهم فكيف الأذناب.

انظروا إلى كذب هؤلاء يدَّعون أنهم سلفيةٌ والسلفُ قد نزهوا الله تبارك وتعالى عن هذه الأشياء.

الإمام زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنهم قال إن الله لا يَمَسّ ولا يُمسّ اهـ لأن الشيء الذي يَمَسُّ أو يُمَسُّ له حدٌّ وكل شيءٍ له حدٌّ فهو يحتاجُ إلى مَنْ حدَّهُ بذلك الحدّ والمحدودُ مخلوقٌ لا محالةَ لا يكونُ إلهًا قديمًا.

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

والله تعالى أعلم.

[i])) رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق.

[ii])) سورة الإنسان/الآية 20.

[iii])) رواه مسلم في صحيحه باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء.

[iv])) رواه أبو داود في سننه باب الإشارة في التشهد.

[v])) رواه البيهقي في السنن باب كيفية الإشارة بالمسبحة.

[vi])) رواه مسلم في صحيحه باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع ورواه أبو داود في سننه باب ما يقال عند النوم.