اخْتِلافُ النَّاسِ فِي أَمْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَبَيَانُ أَنَّ عِيسَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/٣٥].
أَيْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ وَهِيَ أُمُّهُ مَرْيَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ وَلا يَؤُودُهُ وَيُتْعِبُهُ شَىْءٌ، بَلْ هُوَ يُوجِدُ مَا أَرَادَ وُجُودَهُ بِسُرْعَةٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ وُجُودَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ تَعَبٌ وَلا مَشَقَّةٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/37] أَيْ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّهُ ابْنُ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/156]، وَقَابَلَهُمْ ءَاخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ، وَقَالَ ءَاخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ ءَاخَرُونَ: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ.
وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَهَؤُلاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمَنْصُورُونَ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمَعْنَى «وَرُوحٌ مِنْهُ» أَنَّ الْمَسِيحَ رُوحٌ صَادِرَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَتَكْوِينًا وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَسِيحَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ أَصْلًا لِغَيْرِهِ وَلا هُوَ فَرْعٌ عَنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص]، وَدَلِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سُورَةَ الْجَاثِيَة/13] أَيْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَتَكْوِينًا وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَلا تَكُنْ مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/13]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان].