ابن شاكر الكتبي يبين حال ابن تيمية
قال أبن شاكر الكتبي في عيون التواريخ )ص/179( مخطوط: “وفي سادس شعبان قدم البريدي من الديار المصرية وعلى يده مرسوم سلطاني باعتقال الشيخ تقي الدين بن تيمية، فحضر ناصر الدين مشد الأوقاف والأمير بدر الدين ابن الخطيب الحاجب إلى عند الشيخ تقي الدين وأخبروه بصورة الحال، فقال في هذا خير كثير، وأحضروا له مركوبًا، فركب معهم إلى قلعة دمشق فأخليت له دار يُجرى إليها الماء وكان من جملة المرسوم أن يكون معه ولد أو أخ أو خادم يخدمه وأن تُجرى عليهم كفايتهم، فاختار أخوه زين الدين عبد الرحمن المقام معه لخدمته. وكان السبب في ذلك أنه أفتى فتيا وذكر فيها: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد – الحديث المشهور – وأن زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تشد إليها الرحال كقبر إبراهيم الخليل وقبر محمد النبي صلى الله عليه وسلم، واتّفق أن شمس الدين بن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقي في الحرم على منبر وعظ، وفي أثناء وعظه ذكر هذه المسئلة وقال: ها أنا من ههنا أرجع ولا أزور الخليل، وجاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذَكَرَ المسئلة بعينها حتى إنه قال: ولا يُزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجده، فقاموا عليه الناس فحماه منهم والي البلد وكتبوا أهل القدس ونابلس إلى دمشق بصورة ما وقع من المذكور وما صدر منه، فطلبه القاضي المالكي فتودد وصعد إلى الصالحية إلى قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، وتاب وأسلم على يده فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه، ولم يعزره لأجل الشيخ تقي الدين بن تيمية، فحينئذ قامت الفقهاء الشافعية والمالكية وكتبوا فتيا في الشيخ تقي الدين بن تيمية لكونه أول من تكلّم في هذه المسئلة فكتب عليها الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين نحو أربعين سطرًا بأشياء كثيرة يقولها ويفتي بها، وءاخر القول أفتي بتكفيره
ووافقه شهاب الدين ابن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك الصدر المالكي وغيرهم، وحفلت الفتيا إلى نائب السلطنة فأراد أن يعقد لهم مجلسًا ويجمع الفقهاء والعلماء فرأى أن الأمر يتسع الكلام فيه، ولا بد من إعلام السلطان فأخذ الفتيا وجعلها في المطالعة وسيّرها إلى السلطان فجمع لها القضاة ولم يحضر المالكي فإنه كان مريضًا، فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة فقال: القائل بهذه المقالة ضال مضل مبتدع ووافقه الحنفي والحنبلي، فقال السلطان لقاضي القضاة بدر الدين: ما ترى في أمره، فقال: يُحبس، وقال السلطان وكذا كان في نفسي أن أفعل به، وكتب الكتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة وقرءوه على السدة قرأه بدر الدين بن الأعزازي الموقع وبلّغه ابن النجيبي المؤذن ومضمونه بعد البسملة أدام الله نعمته نوضح لعلمه الكريم وزود مكانته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها من أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرار المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكـم به القضاة وأكابر العلماء، وعقدنا لهذا السبب مجلسًا بين أيدينا ورسمنا بقراءة الفتيا على القضاة والعلماء فذكروا جميعًا أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ ومردود عليه، وحكموا بزجره وحبسه وطول سجنه ومنعه من الفتيا مطلقًا، وكتبوا خطوطهم بذلك بين أيدينا على ظاهر الفتيا المجهز بنسخة ما كتبه ابن تيمية، وقد جهزناه إلى الجناب العالي طي هذه المكاتبة ليقف على ما كتب فيه القضاة الأربعة ويتقدم باعتقال المذكور في قلعة دمشق المحروسة، ومنعه من الفتيا مطلقًا، ومنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه ويُرتب له كل يوم ما يقوم بكفايته وينزل عنده من يختار لخدمته مثل قرابة ولد أو أخ أو من يجري مجراهم فيحيط علمه بهذا الأمر ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة العلماء في السجن المذكور وطول حبسه، فانه كل وقت يحدث للناس شيئًا منكرًا يشغل خواطرهم به ومنع ذلك وسد الذريعة منه أولى فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره فيه
وإذا اعتمد الجناب العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية فيتقدم بمنع من يسلك مسالكه ويفتي بهذه الفتاوي ويعمل بها في أمر الطلاق أو هذه الفتيا المستجدة. وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله، فإن كان من مشايخ العلماء فيُعزر تعزير مثله وان كان من الشباب المنتسبين الذين يقصدون الظهور أيضًا كما يقصده ابن تيمية فيؤدبهم ويردعهم ويعتمد في أموره ما تحسم به مواد أمثالهم ليستقيم أحوال الناس ويمشي على السداد، ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله تعالى من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه إليه أحد، فالجناب العالي يراعي هذه الأمور التي عرفناها فإن بها تسد الذرائع فيها أولى من الرخصة فيه. وقد عجلنا لهذا الجواب وبقية فصوله مكاتبته الواردة صحبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وكتب في سابع عشري رجب الفرد سنة ست وعشرين وسبعمائة صورة المنقول بخط القضاة الأربعة بالقاهرة المحروسة على ظهر الفتيا:
الحمد لله، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال من قوله إن زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، وما ذكره من نحو ذلك وانه لا يرخص في السفر لزيارة الأنبياء فهو باطل مردود عليه، وقد نقل جماعة من العلماء الكبار أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة وسنة مجمع عليها، وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه المقالة والفتاوي الغريبة ويُحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره ليتحفظ الناس عن الاقتداء به، كتب محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي وكذلك يقول محمد بن الحريري الأنصاري الحنفي لكن يحبس الآن جزمًا مطلقًا كتب المذكور، كذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي، كذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي إن ثبت عليه ذلك فيبالغ في زجره حسبما تندفع هذه المفسدة وغيرها من المفاسد.
ولمّا كان يوم الجمعة رابع عشري شعبان قعد قاضي القضاة جلال الدين بعد الصلاة بالمدرسة العادلية وأحضر جماعة من جماعة الشيخ تقي الدين بن تيمية كانوا معتقلين في حبس الشرع فادعي على عماد الدين بن كثير صهر المزي أنه قال إن التوراة والإنجيل ما بدّلت وإنها بحالها كما أنزلت وشهدوا عليه وثبت ذلك في وجهه فعزر بالدّرّة في المجلس وأخرج وطيف به ونودي عليه هذا جزاء من قال إن التوراة والإنجيل ما بُدّلت وبعد ذلك أطلقوه، وأحضر عبد الله الإسكندري وادعي عليه أنه قال عن مؤذني الجامع هؤلاء كفروا وانهم كفار بسبب أنهم يقولون في المنارة ألا يا رسول الله أنت وسيلتي وشىء ءاخر من هذا الجنس فذكر أنه أعترف بذلك وغيره عند قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، وأسلم على يده وقبل توبته وحقن دمه وأبقى عليه جهاته وزوجته، فسيروا إلى الحنبلي يسألونه عن ذلك وأحضر بعد ذلك الصلاح الكتبي الداراني وادعي عليه أنه قال لا فرق بين حجارة طهارة جيرون وحجارة صخرة بيت المقدس فأنكر ذلك فقامت عليه البينة، وأحضر ابن قيم الجوزية الذي عمل الفتنة من أصلها وادعي عليه بما قال في المجلسين اللذين عملهما بالقدس الشريف ونابلس فأنكر ذلك وكان قد سافر جماعة من أهل دمشق كلهم فقهاء وعدول من جملتهم مُدَرّس الطرخانية وحضروا مجلس نابلس فشهدوا عليه بما قال وثبت ذلك فعزره قاضي القضاة عبد الله الإسكندري على حمار غير مقلوب ومعه صلاح الداراني وشخص ءاخر كان قد أساء الأدب عند دار الحديث وقال: كل من قال عن الشيخ تقي الدين شىء فهو كذب وأريد أن أضربه بمداتي فشهدوا عليه وضربوهم جميعًا بالدرة في قفيهم، وبعد ذلك أعيدوا إلى الحبس فلما كان يوم الثلاثاء ءاخر النهار حضروا المالكية وأخذوا ابن قيم الجوزية إلى حبسهم وأحضروه يوم الأربعاء إلى قاضي القضاة شرف الدين المالكي وادعوا عليه فما كان له جواب إلا أن قال إن قاضي القضاة الحنبلي حكم بحقن دمي وتوبتي، فأعيد إلى الحبس وتركوه إلى حيث يحضر الحنبلي إلى البلد وسألوه كيف كان الحكم وسُيّر الحنبلي وغيره إلى قاضي القضاة جلال الدين يشفعون في المذكور أن لا يكون الحكم إلا عنده، فأحضره في سابع وعشري الشهر وعزروه عنده في العادلية بالدّرّة وأُركب حمارًا وطيف به البلد وراحوا به إلى الصالحية، وءاخر النهار ردوه إلى الحبس وأعلموا نائب السلطنة بما فعلوه فسيّر مشد الأوقاف تسلم المذكور من قاضي القضاة جلال الدين وصعد به إلى القلعة وحبسه بها مقيدًا وأطلقوا الباقي وسكنت الفتنة”. اهـ