السبت سبتمبر 7, 2024

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ،

وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

اعْلَمْ أَنَّهُ لا دَلِيلَ حَقِيقِيٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِيٍّ لِلتَّبَرُّكِ، وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ، وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ.

قَالَ الأَزْهَرِيُّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ: الْعِبَادَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، وَقَالَ مِثْلَهُ الْفَرَّاءُ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَالَ بَعْضٌ: نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ شَارِحِ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيِّ خَاتِمَةِ اللُّغَوِيِّينَ، وَهَذَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا.

وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ: »مَا هَذَا «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ [الْبِطْرِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ] وَأَسَاقِفَتِهِمْ [عُلَمَاءُ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُمْ أَسَاقِفَةٌ] وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: »لا تَفْعَلْ، لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا«، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ، وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِيِّ مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ.

فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ [وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ لِهَذَا الْمَدَّعِي: لا كَلامَ لَكَ بَعْدَ تَصْحِيحِ أَهْلِ الْحِفْظِ أَنْتَ لَيْسَ لَكَ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَقٌّ. عَلَى أَنَّ التَّصْحِيحَ وَالتَّضْعِيفَ خَاصٌّ بِالْحَافِظِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَكَ أَنَّكَ بَعِيدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُعْدَ الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ. وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّوَجُّهَ وَالتَّجَوُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ شِفَاءُ السَّقَامِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي إِنْكَارِهِ سُنِّيَّةَ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَتَحْرِيمِهِ قَصْرَ الصَّلاةِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ] قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ [أَيْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ، تِسْعَةَ أَشْهُرٍ انْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ] فِي زَمَانِ عُمَرَ [أَيْ فِي خِلافَتِهِ] فَجَاءَ رَجُلٌ [أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ] إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا [مَعْنَاهُ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا] فَأُتِيَ الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ [أَيْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُكَلِّمُهُ] فَقِيلَ لَهُ: أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ [أَيْ سَلِّمْ لِي عَلَيْهِ] وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ [أَيْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ، ثُمَّ سَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الأَعْشَابِ وَسَمِنَتِ الْمَوَاشِي حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ]، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ [أَيْ عَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ بِالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ الأُمَّةِ]. فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ [أَيْ لا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ، أَيْ سَأَفْعَلُ مَا فِي وُسْعِي لِخِدْمَةِ الأُمَّةِ]. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ. فَهَذَا الصَّحَابِيُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُوسَى قَالَ: »رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ«، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: »وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ«: فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا اهـ. وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ حَدَّثَنِي سَالِمُ التَّلِّ قَالَ: »مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ، وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِيِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قُلْ لِي شَيْئًا، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ، فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ، فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ: يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا، فَقَالَ: تَكُونُ غَيْرُ هَذِهِ، فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِي أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ« انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ: الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: »إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ«، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ«، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ – أَيْ يَتَرَدَّدُ – إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى لِي، ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ – أَيْ سَجَّادَتِهِ – فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُلٍّ مِنْ »مُعْجَمَيْهِ«: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ، مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ: »حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ«، وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ جَائِزٌ فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ: لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ.

وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي فِيهِ: اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي«، فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ، بَلِ التَّبَرُّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ                          ثِمَالَ الْيَتَامَى [أَيْ غِيَاثَهُمْ] عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

   أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا تَوَسُّلُ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ، بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ عُمَرُ: »اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ [أَيْ لِمَكَانَتِي عِنْدَهُ]«، فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ. رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: »أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ، فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ«، فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ.

فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخِطْمِيُّ ثِقَةٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِيِّ بِقَوْلِهِ: »وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ« الْقَدْرُ الأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا: الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ، أَيْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ يُسَمَّى حَدِيثًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِيِّ فَقَطْ فِي اصْطِلاحِهِمْ، وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِي وَالإِفْصَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ، فَإِنَّ الأَلْبَانِيَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: »إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ« فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ. نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ«، فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَإِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِيِّ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِي الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِيُّ، كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: »إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ« الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً.

ثُمَّ الرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: »اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ«، فَالرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ وَالْوَلِيُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.