إِثْبَاتُ أَنَّ الأَسْبَابَ الْعَادِيَّة لا تُؤَثِّرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ
ذَكَرَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عِيسَى ابْنَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى الطَّهْمَانِيَّ الْمَرْوَرُّوذِيَّ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ إِذَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي بَرِيَّتِه، فَيَزِيدُ الإِسْلامَ بِهَا عِزًّا وَقُوَّةً وَيُؤَيِّدُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَيُنْشِئُ أَعْلامَ النُّبُوَّةِ وَيُوضِحُ دِلالَةَ الرِّسَالَةِ وَيُوثِقُ عُرَى الإِسْلامِ، وَيُثْبِتُ حَقَائِقَ الإِيـمَانِ مَنًّا مِنْهُ [أَيْ فَضْلًا مِنْهُ] عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَزِيَادَةً فِي الْبُرْهَانِ لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِي طَاعَتِهِ [أَيْ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ تَرَكُوا طَاعَتَهُ] وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ [أَيْ تَرَكَ دِينَ اللَّهِ] لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [أَيْ حَتَّى يَهْلِكَ الْهَالِكُونَ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ حَتَّى يُؤْمِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالدَّلِيلِ، يَكُونُ صَارَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ] فَلَهُ الْحَمْدُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذُو الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ [أَيِ الْقَوِيَّةِ، مَعْنَاهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ] وَالْعِزِّ الْقَاهِرِ [أَيْ لَهُ عِزٌّ قَاهِرٌ، عِزٌّ يَغْلِبُ أَعْدَاءَهُ، اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ، مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلا يُغْلَبُ] وَالطَّوْلِ الْبَاهِرِ [أَيِ الْفَضْلِ الْقَوِيِّ، وَالطَّوْلُ بِفَتْحِ الطَّاءِ، اللَّهُ تَعَالَى ذُو الطَّوْلِ أَيْ ذُو الْفَضْلِ، وَالْبَاهِرُ مَعْنَاهُ الْقَوِيُّ]، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ الْهُدَى وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَإِنَّ مِمَّا أَدْرَكْنَا عِيَانًا وَشَاهَدْنَاهُ فِي زَمَانِنَا وَأَحَطْنَا عِلْمًا بِهِ [أَيْ تَحَقَّقْنَا مِنْهُ] فَزَادَنَا يَقِينًا فِي دِينِنَا وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا وَدَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادَ مِنْ فَضِيلَةِ الشُّهَدَاءِ [مَعْنَاهُ يُحَبِّبُ إِلَى النَّاسِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وَبَلَّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ إِذْ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾. [الْمَعْنَى أَنَّ مِمَّا يَزِيدُ بِالشَّهَادَةِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ أَيْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بَعْدَ أَنْ يُقْتَلُوا لِأَنَّ أَجْسَادَهُمْ تَحْيَا فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ أَثَرَ الرُّوحِ يَعُودُ إِلَيْهَا] [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان]، إِنِّي وَرَدْتُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسِبْ [هَزَارَاسِبْ لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ] وَهِيَ فِي غَرْبِيِّ وَادِي جَيْحُونَ وَمِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ [أَيْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَاصِمَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ نِصْفُ يَوْمٍ] وَخُبِّرْتُ أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَةً كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِي مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِيَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ طَاهِرٍ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [أَبُو الْعَبَّاسِ بنُ طَاهِرٍ كَانَ حَاكِمًا فِي خُرُاسَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَبَّاسِيِّينَ. الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ كَانَ حَاكِمًا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ] ثُمَّ مَرَرْتُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ [يَعْنِي بَعْدَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ] فَرَأَيْتُهَا وَحَدَّثَتْنِي بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا لِحَدَاثَةِ سِنِّي [يَعْنِي مَا تَتَبَّعْتُ خَبَرَهَا، إِنَّمَا هِيَ حَدَّثَتْنِي لَكِنْ أَنَا لَمْ أَبْحَثُ مَعَهَا فِي أَمْرِهَا] ثُمَّ إِنِّي عُدْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ فِي ءَاخِرِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتُهَا بَاقِيَةً وَوَجَدْتُ حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا [يَعْنِي بَعْدَ أَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنْ سَمَاعِ خَبَرِهَا مَرَّ هَذَا الشَّيْخُ الطَّهْمَانِيُّ فَوَجَدَ خَبَرَهَا مُسْتَفِيضًا أَيْ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ مُنْتَشِرًا مَشْهُورًا، أَيْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ]. وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مَدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ [أَيِ الْمُسَافِرُونَ يَمُرُّونَ بِهَا] وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ يَنْزِلُهَا إِذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتُهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا [أَيِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيَسْمَعُونَ خَبَرَهَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْهَا وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ] فَلا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا وَلا امْرَأَةً وَلا غُلامًا إِلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا [مَعْنَاهُ أَهْلُ الْبَلَدِ يَعْرِفُونَهَا، الذُّكُورُ وَالإِنَاثُ يَعْرِفُونَهَا وَيَدُلُّونَ عَلَيْهَا] فَلَمَّا وَافَيْتُ النَّاحِيَةَ طَلَبْتُهَا فَوَجَدْتُهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ فَمَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا [يَعْنِي لَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهَا مُسَافِرَةٌ إِلَى مَسَافَةِ عِدَّةِ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ الْوَاحِدُ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا أَيْ مَسَافَةُ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ مَشْيًا مَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا] مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فَأَدْرَكْتُهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِي مِشْيَةً قَوِيَّةً فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ نَصَفٌ [مَعْنَاهُ عُمْرُهَا مُتَوَسِّطٌ أَيْ نَحْوُ الثَّلاثِينَ] جَيِّدَةُ الْقَامَةِ حَسَنَةُ الثَّدِيَّةِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ [يَعْنِي لَبِيبَة] فَسَايَرَتْنِي [مَعْنَاهُ سَارَتْ مَعِي] وَأَنَا رَاكِبٌ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا مَرْكَبًا فَلَمْ تَرْكَبْهُ [مَعْنَاهُ هُوَ رَاكِبٌ وَهِيَ مَاشِيَةٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا مَرْكَبًا أَيْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَلَمْ تَقْبَلْ] وَأَقْبَلَتْ تَمْشِي مَعِي بِقُوَّةٍ [أَيْ مَشْيُهَا كَانَ مِشْيَةَ إِنْسَانٍ قَوِيَّةٍ].
وَكَانَ حَضَرَ مَجْلِسِي قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِين وَفِيهِمْ فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ حَمْدَوَيْه الْحَارِثِيَّ [أَيْ كَانَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ عَالِمٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدَوَيْه] وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى بنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ [مُوسَى بنُ هَارُونَ كَانَ أَخَذَ عَنْ هَذَا الْفَقِيهِ عِلْمَ الْحَدِيثِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمِ الْحَدِيثِ] وَكَهْلٌ لَهُ عِبَادَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَشَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ، وَكَانَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ [أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُوَظَّفًا يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الشَّكَاوَى] فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إِنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا، قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ: أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ [أَيْ مُنْذُ الصِّغَرِ] وَنَشَأْتُ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِي خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْتُ بَالِي لَهَا وَشَغَلْتُ نَفْسِيَ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إِلَّا سَتْرًا وَعَفَافًا [أَيْ مَا رَأَيْتُ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا حَسَنًا] وَلَمْ أَعْثُرْ لَهَا عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَاهَا وَلا حِيلَةٍ فِي التَّلْبِيسِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِي خُوَارِزْمَ مِنَ الْعُمَّالِ [أَيِ الْحُكَّامِ] كَانُوا فِيمَا خَلا يَسْتَحْضِرُونَهَا وَيَحْصُرُونَهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالأَكْثَرَ فِي بَيْتٍ يُغْلِقُونَ عَلَيْهَا [يَعْنِي يَحْبِسُونَهَا فِي مَكَانٍ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ] ويُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاعِيهَا [أَيْ يُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاقِبُ هَلْ يَأْخُذُ لَهَا أَحَدٌ طَعَامًا وَشَرَابًا] فَلا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ، وَلا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا [أَيْ يُحْسِنُونَ إِلَيْهَا] وَيَكْسُونَهَا [أَيْ يُعْطُونَهَا اللِّبَاسَ] وَيُخْلُونَ سَبِيلَهَا [أَيْ يَتْرُكُونَهَا] فَلَمَّا تَوَاطَأَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا قَصَصْتُهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَسَأَلْتُهَا عَنِ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعَاشُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا [أَيْ كَانَ يُحَصِّلُ مَصْرُوفَ يَوْمٍ ثُمَّ مَصْرُوفَ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ] لا فَضْلَ فِي كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أَوْلادٍ، وَجَاءَ الأَقْطَعُ مَلِكُ الْكُفَّارِ إِلَى الْقَرْيَةِ فَعَبَرَ الْوَادِيَ عِنْدَ جُمُودِهِ إِلَيْنَا فِي زُهَاءِ ثَلاثَةِ ءَالافِ فَارِسٍ [أَيْ فِي قَدْرِ ثَلاثَةِ ءَالافِ مُقَاتِلٍ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ النَّهْرُ جَمَدَ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ فِي الشِّتَاءِ يَصِيرُ جَامِدًا مِثْلَ الأَرْضِ يُمْشَى عَلَيْهِ] وَأَهْلُ خُوَارِزْمَ يَدْعُونَهُ كَسْرَى، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالأَقْطَعُ هَذَا كَانَ كَافِرًا غَاشِمًا [أَيْ شَدِيدَ الظُّلْمِ] شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ [أَيْ يَكْرَهُ الْمُسْلِمِينَ جِدًّا] قَدْ أَثَّرَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ [أَيْ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلِي جِهَةَ الْكُفَّاِر] وَأَلَحَّ عَلَى أَهْلِ خُوَارِزْمَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْغَارَاتِ وَكَانَ وُلاةُ خُرَاسَانَ يَتَأَلَّفُونَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الأَعَاجِمِ لِيَكُفُّوا غَارَاتِهِمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَيَحْقِنُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ [أَيْ كَانُوا يُصَادِقُونَهُ حَتَّى لا يَعْمَلَ هُجُومًا فَيَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ، لِيَحْفَظُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ] فَيَبْعَثُونَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَمْوَالٍ وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ [أَيْ كَانُوا يُعْطُونَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ حَتَّى يَكُفُّوا شَرَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ] وَإِنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلا أَدْرِي لِمَ ذَاكَ، هَلِ اسْتَبْطَأَ الْمَبَارَّ عَنْ وَقْتِهَا أَمِ اسْتَقَلَّ مَا بُعِثَ إِلَيْهِ فِي جَنْبِ مَا بُعِثَ إِلَى نُظَرَائِهِ مِنَ الْمُلُوكِ [مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ إِمَّا لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْهُ مَا كَانُوا فِي الأَوَّلِ يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ أَوِ اسْتَقَلَّ فَقَالَ: كَيْفَ أَعْطَوْنِي هَذَا الْقَدْرَ الْقَلِيلَ، لِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِمْ] فَأَقْبَلَ فِي جُنُودِهِ وَاسْتَعْرَضَ الطُّرُقَ [أَيْ مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْمُرُورِ] فَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ فَعَجَزَ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَنْهَضَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ [أَيْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ]: طَاهِرَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بنِ مَالِكٍ، وَيَعْقُوبَ بنَ مَنْصُورِ بنِ طَلْحَةَ، وَمِيكَالَ مَوْلَى طَاهِرٍ، وَهَارُونَ الْعَارِضَ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِي أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِي رُبْعٍ، فَحَمَوِا الْحَرِيمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ وَادِي جَيْحُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي أَعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيَانِ [أَيْ يُتْلِفُ الزَّرْعَ] كَثِيرُ الآفَاقِ [أَيْ كَثِيرُ النَّوَاحِي] وَإِذَا امْتَدَّ كَانَ عَرْضُهُ نَحْوًا مِنْ فَرْسَخٍ وَإِذَا جَمَدَ انْطَبَقَ فَلَمْ يُوصَلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى يُحْفَرَ فِيهِ كَمَا تُحْفَرُ الآبَارُ فِي الصُّخُورِ وَقَدْ رَأَيْتُ كِثَفَ الْجَمَدِ عَشَرَةَ أَشْبَارٍ، وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ شِبْرًا وَإِذَا هُوَ انْطَبَقَ صَارَ الْجَمَدُ جِسْرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَسِيرُ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَالْعَجَلُ [أَيِ الْحُمُولُ] وَالْقَوَافِلُ فَيَنْتَظِمُ مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنِ، وَرُبَّمَا دَامَ الْجَمَدُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَلَّ الْبَرْدُ فِي عَامٍ بَقِيَ سَبْعِينَ يَوْمًا إِلَى نَحْوِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَعَبَرَ الْكَافِرُ فِي خَيْلِهِ إِلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ وَصَحِبُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَضَرُّوا بِهِمْ فَحُصِرَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَمَنَعَهُمُ الْعَامِلُ [أَيِ الْحَاكِمُ] دُونَ أَنْ تَتَوَافَى عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ وَتَتَلاحَقَ الْمُتَطَوِّعَةُ، فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ فَتَقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنَ السِّلاحِ [مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَاءِ هَذَا الْكَافِرِ، ثُمَّ بَعْضُ الشَّبَابِ تَحَمَّسُوا فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ لِضَرْبِهِ].
فَلَمَّا أَصْحَرُوا كَرَّ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ [مَعْنَاهُ لَمَّا صَارُوا فِي الصَّحْرَاءِ أَيْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّة كَرَّ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ] وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [أَيْ فِي مِثْلِ الْغَابَةِ] فَتَحَصَّنُوا وَاتَّخَذُوا دَارَةً يُحَارِبُونَ مِنْ وَرَائِهَا وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتِ الْمَعُونَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتِ الأَوْتَارُ وَالْقِسِيُّ [الأَوْتَارُ جَمْعُ وَتَرٍ وَهُوَ مَا لِلْقَوْسِ، وَالْقِسِيُّ جَمْعُ قَوْسٍ] وَأَدْرَكَهُمُ التَّعَبُ وَمَسَّهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ مُعْظَمُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ [مَعْنَاهُ مَاتَ أَكْثَرُهُمْ وَالآخَرُونَ أُثْخِنُوا مَعْنَاهُ أَصَابَهُمْ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَمُوتُوا].
وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ [أَيْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ] تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ [أَيْ هَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ] قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَرُفِعَتِ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْجُرْجَانِيَّةِ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قَاصِيَةِ خُوَارِزْمَ [أَيْ فِي أَطْرَافِهَا]، وَكَانَ مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ بِهَا فِي عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِي الطَّلَبِ هَيْبَةً لِلأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَكَضَ إِلَى هَزَارَاسْبْ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ [يَعْنِي عِنْدَهُمْ فِي عَادَتِهِمْ فَرَاسِخُهُمْ تَزِيدُ عَلَى فَرَاسِخِ تِلْكَ الْبِلادِ].
وَغَدَا الْكَافِرُ لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ [أَيِ الْجَمَاعَةِ] فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ ارْتَفَعَتْ لَهُمُ الأَعْلامُ السُّودُ وَسَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ فَأَفْرَجُوا عَنِ الْقَوْمِ [مَعْنَاهُ الْكُفَّارُ هَرَبُوا لَمَّا رَأَوِا الْجَيْشَ الإِسْلامِيَّ قَادِمًا]، وَوَافَى مِيكَالُ [أَيْ حَضَرَ مِيكَالُ] مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى وَحَمَلَ الْجَرْحَى [أَيْ دَفَنَ الْقَتْلَى الَّذِينَ مَاتُوا، وَالْجَرْحَى حَمَلَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ إِلَى مَكَانِ الْمُدَاوَاةِ].
قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَأُدْخِلَ الْحِصْنَ عَلَيْنَا عَشِيَّةَ ذَلِكَ زُهَاءُ أَرْبَعِمِائَةِ جِنَازَةٍ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ إِلَّا حُمِلَ إِلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتِ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ.
قَالَتْ: وَوُضِعَ زَوْجِي بَيْنَ يَدَيَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِي مِنَ الْجَزْعِ وَالْهَلَعِ [أَيِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ وَالْبُكَاءِ] عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الأَوْلادِ، وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ.
قَالَتْ: فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِي وَالْجِيرَانُ يُسْعِدْنَنِي عَلَى الْبُكَاءِ [أَيْ يُسَاعِدْنَنِي عَلَى الْحُزْنِ]، وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لا يَعْقِلُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا [أَيْ لا يُدْرِكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ] يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِي فَضِقْتُ صَدْرًا بِأَمْرِي ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْتُ إِلَى الصَّلاةِ [أَيْ قُمْتُ إِلَى الصَّلاةِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهَا] فَصَلَّيْتُ مَا قَضَى لِي رَبِّي ثُمَّ سَجَدْتُ أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِي فَذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ فِي سُجُودِي فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي أَرْضٍ حَسْنَاءَ ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِي، فَنَادَانِي رَجُلٌ: إِلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّةُ؟ قُلْتُ: أَطْلُبُ زَوْجِي، فَقَالَ: خُذِي ذَاتَ الْيَمِينِ، فَرُفِعَ لِي أَرْضٌ سَهْلَةٌ [أَيْ رَأَيْتُ أَرْضًا سَهْلَةً] طَيِّبَةُ الرَّيِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا [أَيْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا] وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِغَيْرِ أَخَادِيدَ [أَيْ لَيْسَتْ فِي وِهَادٍ عَمِيقَةٍ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْمَاءُ بِسُهُولَةٍ] لَيْسَ لَهَا حَافَّاتٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا [مَعْنَاهُ يَجْلِسُونَ فِي دَوَائِرَ] عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْتُ أَتَخَلَّلُهُمْ وَأَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ [أَيْ أَتَأَمَّلُهَا] لِأَلْقَى زَوْجِي لَكِنَّهُ هُوَ يَنْظُرُنِي، فَنَادَانِي: يَا رَحْمَةُ! فَيَمَّمْتُ الصَّوْتَ [أَيْ تَبِعْتُ وَقَصَدْتُ صَوْتَهُ] فَإِذَا بِهِ فِي مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رُفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمَ أَفَتَأْذَنُونَ لِي أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ؟ فَأَذِنُوا لَهُ، فَنَاوَلَنِي كِسْرَةَ خُبْزٍ [أَيْ قِطْعَةَ خُبْزٍ]. قَالَتْ: وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لا أَدْرِي كَيْفَ يَخْبَزُ، هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ [أَيْ طَرَوَاتُهُ أَشَدُّ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ]، فَأَكَلْتُهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِي قَالَ: اذْهَبِي كَفَاكِ اللَّهُ مَؤُونَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيْتِ فِي الدُّنْيَا، فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي شَبْعَى رَيَّا لا أَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهَا مُنْذُ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا وَلا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَتَنَحَّى وَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ، فَسَأَلْتُهَا: أَتَتَغَذَّى بِشَىْءٍ أَوْ تَشْرَبُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ؟ فَقَالَتْ: لا، فَسَأَلْتُهَا: هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى كَمَا يَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ؟ قَالَتْ: لا عَهْدَ لِي بِالأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، قُلْتُ: وَالْحَيْضُ؟ أَظُنُّهَا قَالَتْ: انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطُّعْمِ [أَيِ الطَّعَامِ]، قُلْتُ: هَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ قَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي تَسْأَلُنِي عَنْ مِثْلِ هَذَا، قُلْتُ: إِنِّي لَعَلِّي أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْكِ وَلا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِيَ، قَالَتْ: لا أَحْتَاجُ، قُلْتُ: فَتَنَامِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَطْيَبَ نَوْمٍ، قُلْتُ: فَمَا تَرَيْنَ فِي مَنَامِكِ؟ قَالَتْ: مِثْلَمَا تَرَوْنَ، قُلْتُ: فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا؟ قَالَتْ: مَا أَحْسَسْتُ بِجُوعٍ مُنْذُ طَعِمْتُ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْتُ لَهَا: مَا تَصْنَعِينَ بِهَا، قَالَتْ: أَكْتَسِي وَأَكْسُو وَلَدِي، قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: يُدْرِكُكِ اللُّغُوبُ [أَيِ التَّعَبُ] إِذَا مَشَيْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَلَسْتُ مِنَ الْبَشَرِ، قُلْتُ: فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلاةِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَمَرَنِي الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ: »لا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ»، وَذَكَرَتْ لِي أَنَّ بَطْنَهَا لاصِقٌ بِظَهْرِهَا، فَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ (أَيْ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَة) فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ وَإِذَا قَدِ اتَّخَذَتْ كِيسًا فَضَمَّتِ الْقُطْنَ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَيْ لا يَنْقَصِفَ ظَهْرُهَا إِذَا مَشَتْ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إِلَى هَزَارَاسْبْ بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثِ فَتَحْضُرُنِي فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا فَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ، وَعَرَضْتُ كَلامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَقِيهِ، فَقَالَ: أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ مُنْذُ نَشَأْتُ فَلا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ. انْتَهَى.
فَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أَنْ لا تَلازُمَ عَقْلِيٌّ بَيْنَ فِقْدَانِ الأَكْلِ وَبَيْنَ الْمَرَضِ وَذَهَابِ الصِّحَّةِ وَانْهِدَامِ الْبُنْيَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ تَتَخَلَّفَ مَفْعُولاتُهَا وَأَنَّ الأَشْيَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.
الإشعارات