(ذَكَرَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ فِى تَارِيخِ نَيْسَابُورَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ عِيسَى بنَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى الطَّهْمَانِىَّ الْمَرْوَزِىَّ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ إِذَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ) أَىِ الْعَلامَاتِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الإِسْلامِ (وَالْعِبَرِ) أَىْ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ أَىْ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ قُوَّةُ عَقِيدَةِ الإِيمَانِ (فِي بَرِيَّتِهِ) أَىْ خَلْقِهِ (فَيَزِيدُ الإِسْلامَ بِهَا عِزًّا وَقُوَّةً وَيُؤَيِّدُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَيَنْشُرُ أَعْلامَ) أَىْ دَلائِلَ (النُّبُوَّةِ وَيُوضِحُ دِلالَةَ الرِّسَالَةِ وَيُوثِقُ عُرَى الإِسْلامِ) وَالْعُرَى مَعْنَاهُ الْحَبْلُ عِنْدَمَا يَكُونُ فِى وَسَطِهِ عُقَدٌ (وَيُثْبِتُ حَقَائِقَ الإِيمَانِ مَنًّا) أَىْ فَضْلًا (مِنْهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَزِيَادَةً فِى الْبُرْهَانِ بِهِمْ وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِى طَاعَتِهِ وَأَلْحَدَ فِى دِينِهِ) أَىْ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ تَرَكُوا طَاعَتَهُ بِتَرْكِ الإِيمَانِ بِهِ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أَىْ حَتَّى يَهْلِكَ الْهَالِكُونَ عَنْ بَيِّنَةٍ أَىْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أَىْ حَتَّى يُؤْمِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالدَّلِيلِ يَكُونُ صَارَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ (فَلَهُ الْحَمْدُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذُو الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ) أَىِ الْقَوِيَّةِ مَعْنَاهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ (وَالْعِزِّ الْقَاهِرِ) أَىْ لَهُ عِزٌّ قَاهِرٌ عِزٌّ يَغْلِبُ أَعْدَاءَهُ، اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ مَعْنَاهُ الَّذِى يَغْلِبُ وَلا يُغْلَبُ (وَالطَّوْلِ الْبَاهِرِ) أَىِ الْفَضْلِ الْقَوِىِّ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ الْهُدَى وَعَلَيْهِ وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَإِنَّ مِمَّا أَدْرَكْنَا عِيَانًا وَشَاهَدْنَاهُ فِى زَمَانِنَا وَأَحَطْنَا عِلْمًا بِهِ) أَىْ تَحَقَّقْنَا مِنْهُ (فَزَادَنَا يَقِينًا فِى دِينِنَا وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا وَدَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ مِنْ فَضِيلَةِ الشُّهَدَاءِ) مَعْنَاهُ يُحَبِّبُ إِلَى النَّاسِ الشَّهَادَةَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ (وَبَلَّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ إِذْ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾) الْمَعْنَى أَنَّ مِمَّا يَزِيدُ بِالشَّهَادَةِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِى تُثْبِتُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ أَىْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بَعْدَ أَنْ يُقْتَلُوا لِأَنَّ أَجْسَادَهُمْ تَحْيَا فِى الْقَبْرِ لِأَنَّ أَثَرَ الرُّوحِ يَعُودُ إِلَيْهَا (أَنِّى وَرَدْتُ فِى سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسْبَ) قَالَ يَاقُوتُ فِى مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ مَعْنَاهَا بالْفَارِسِيَّةِ أَلْفُ فَرَسٍ (وَهِىَ فِى غَرْبِىِّ وَادِى جَيْحُونَ وَمِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ) أَىْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَاصِمَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ نِصْفُ يَوْمٍ (وَخُبِّرْتُ أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَا كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِى مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِىَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِى الْعَبَّاسِ بنِ طَاهِرٍ وَالِى خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّىَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) وَأَبُو الْعَبَّاسِ بنُ طَاهِرٍ كَانَ حَاكِمًا فِى خُرُاسَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَبَّاسِيِّينَ. الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِىُّ كَانَ حَاكِمًا فِى ذَلِكَ الزَّمَنِ (ثُمَّ مَرَرْتُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ) يَعْنِى بَعْدَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ (فَرَأَيْتُهَا وَحَدَّثَتْنِى بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا) يَعْنِى مَا تَتَبَّعْتُ خَبَرَهَا إِنَّمَا هِىَ حَدَّثَتْنِى لَكِنْ أَنَا لَمْ أَبْحَثُ مَعَهَا فِى أَمْرِهَا (لِحَدَاثَةِ سِنِّى ثُمَّ إِنِّى عُدْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ فِى ءَاخِرِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتُهَا بَاقِيَةً وَوَجَدْتُ حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا) يَعْنِى بَعْدَ أَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنْ سَمَاعِ خَبَرِهَا مَرَّ هَذَا الشَّيْخُ الطَّهْمَانِىُّ فَوَجَدَ خَبَرَهَا مُسْتَفِيضًا أَىْ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ مُنْتَشِرًا مَشْهُورًا أَىْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ (وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مَدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ) أَىِ الْمُسَافِرُونَ يَمُرُّونَ بِهَا (وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ نَزَلَهَا إِذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتُهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا) أَىِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيَسْمَعُونَ خَبَرَهَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْهَا وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ (فَلا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا وَلا امْرَأَةً وَلا غُلامًا إِلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا) مَعْنَاهُ أَهْلُ الْبَلَدِ يَعْرِفُونَهَا الذُّكُورُ وَالإِنَاثُ يَعْرِفُونَهَا وَيَدُلُّونَ عَلَيْهَا (فَلَمَّا وَافَيْتُ النَّاحِيَةَ طَلَبْتُهَا فَوَجَدْتُهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ فَمَضَيْتُ فِى أَثَرِهَا) يَعْنِى لَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهَا مُسَافِرَةٌ إِلَى مَسَافَةِ عِدَّةِ فَرَاسِخَ مَضَيْتُ فِى أَثَرِهَا وَالْفَرْسَخُ الْوَاحِدُ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا أَىْ مَسَافَةُ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ مَشْيًا تَقْرِيبًا (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فَأَدْرَكْتُهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِى مِشْيَةً قَوِيَّةً فَإِذَا هِىَ امْرَأَةٌ نَصَفٌ) مَعْنَاهُ عُمْرُهَا مُتَوَسِّطٌ أَىْ نَحْوُ الثَّلاثِينَ (جَيِّدَةُ الْقَامَةِ حَسَنَةُ الْبَدَنِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ) يَعْنِى لَبِيبَة (فَسَايَرَتْنِى) مَعْنَاهُ سَارَتْ مَعِى (وَأَنَا رَاكِبٌ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا مَرْكَبًا فَلَمْ تَرْكَبْهُ) مَعْنَاهُ هُوَ رَاكِبٌ وَهِىَ مَاشِيَةٌ فَعَرَضَ عَلَيْهَا مَرْكَبًا أَىْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَلَمْ تَقْبَلْ (وَأَقْبَلَتْ تَمْشِى مَعِى بِقُوَّةٍ) أَىْ مَشْيُهَا كَانَ مِشْيَةَ إِنْسَانٍ قَوِىٍّ (وَحَضَرَ مَجْلِسِى قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِينَ وَفِيهِمْ فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ حَمْدَوَيْه الْحَارِثِىَّ) أَىْ كَانَ فِى هَذَا الْمَجْلِسِ عَالِمٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدَوَيْه (وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى ابْنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ) وَمُوسَى بنُ هَارُونَ كَانَ أَخَذَ عَنْ هَذَا الْفَقِيهِ عِلْمَ الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمِ الْحَدِيثِ ([وَهُوَ] كَهْلٌ لَهُ عِبَادَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَشَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ وَكَانَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ) أَىْ أَنَّهُ كَانَ مُوَظَّفًا يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الشَّكَاوَى (فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إِنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا، قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ) أَىْ مُنْذُ الصِّغَرِ (وَنَشَأْتُ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِى خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْتُ بَالِى لَهَا وَشَغَلْتُ نَفْسِىَ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إِلَّا سَتْرًا وَعَفَافًا) أَىْ مَا رَأَيْتُ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا حَسَنًا (وَلَمْ أَعْثُرْ لَهَا عَلَى كَذِبٍ فِى دَعْوَاهَا وَلا حِيلَةٍ فِى التَّلْبِيسِ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِى خُوَارِزْمَ مِنَ الْعُمَّالِ) أَىِ الْحُكَّامِ (كَانُوا فِيمَا خَلا يَسْتَحْضِرُونَهَا وَيَحْصُرُونَهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالأَكْثَرَ فِى بَيْتٍ يُغْلِقُونَهُ عَلَيْهَا) يَعْنِى يَحْبِسُونَهَا فِى مَكَانٍ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ (وَيُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاعِيهَا) أَىْ يُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاقِبُ هَلْ يَأْخُذُ لَهَا أَحَدٌ طَعَامًا وَشَرَابًا (فَلا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ وَلا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا) أَىْ يُحْسِنُونَ إِلَيْهَا (وَيَكْسُونَهَا) أَىْ يُعْطُونَهَا اللِّبَاسَ (وَيُخْلُونَ سَبِيلَهَا) أَىْ يَتْرُكُونَهَا (فَلَمَّا تَوَاطَأَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا اسْتَقْصَصْتُهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَسَأَلْتُهَا عَنِ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعِيشَتُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا) أَىْ كَانَ يُحَصِّلُ مَصْرُوفَ يَوْمٍ ثُمَّ مَصْرُوفَ الْيَوْمِ الَّذِى بَعْدَهُ كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ (لا فَضْلَ فِى كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أَوْلادٍ وَجَاءَ الأَقْطَعُ مَلِكُ التُّرْكِ) وَكَانَ هَؤُلاءِ كُفَّارًا فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ (إِلَى الْقَرْيَةِ فَعَبَرَ الْوَادِىَ عِنْدَ جُمُودِهِ إِلَيْنَا فِى زُهَاءِ ثَلاثَةِ ءَالافِ فَارِسٍ) أَىْ فِى قَدْرِ ثَلاثَةِ ءَالافِ مُقَاتِلٍ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ النَّهْرُ جَمَدَ فِى الشِّتَاءِ لِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ فِى الشِّتَاءِ يَصِيرُ جَامِدًا مِثْلَ الأَرْضِ يُمْشَى عَلَيْهِ (وَأَهْلُ خُوَارِزْمَ يَدْعُونَهُ كَسْرَى. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَالأَقْطَعُ هَذَا كَانَ كَافِرًا عَاتِيًا) أَىْ مُتَكَبِّرًا شَدِيدَ الظُّلْمِ (شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ) أَىْ يَكْرَهُ الْمُسْلِمِينَ جِدًّا (قَدْ أَثَّرَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ) أَىْ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاضِعِ الَّتِى تَلِى جِهَةَ الْكُفَّاِر (وَأَلَحَّ عَلَى أَهْلِ خُوَارِزْمَ بِالسَّبْىِ وَالْقَتْلِ وَالْغَارَاتِ وَكَانَ وُلاةُ خُرَاسَانَ يَتَأَلَّفُونَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الأَعَاجِمِ لِيَكُفُّوا غَارَاتِهِمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَيَحْقِنُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ) أَىْ كَانُوا يُصَادِقُونَهُ حَتَّى لا يَعْمَلَ هُجُومًا فَيَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ لِيَحْفَظُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ (فَيَبْعَثُونَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَمْوَالٍ وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ) أَىْ كَانُوا يُعْطُونَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ حَتَّى يَكُفُّوا شَرَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ (وَإِنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ فِى بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى السُّلْطَانِ وَلا أَدْرِى لِمَ ذَاكَ أَسْتَبْطَأَ الْمَبَارَّ عَنْ وَقْتِهَا أَمِ اسْتَقَلَّ مَا بُعِثَ إِلَيْهِ فِى جَنْبِ مَا بُعِثَ إِلَى نُظَرَائِهِ مِنَ الْمُلُوكِ) مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ إِمَّا لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْهُ مَا كَانُوا فِى الأَوَّلِ يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ أَوِ اسْتَقَلَّ فَقَالَ كَيْفَ أَعْطَوْنِى هَذَا الْقَدْرَ الْقَلِيلَ لِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِمْ (فَأَقْبَلَ فِى جُنُودِهِ وَاسْتَعْرَضَ الطُّرُقَ) أَىْ مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْمُرُورِ (فَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ فَعَجَزَ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ وَبَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَنْهَضَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ) أَىْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ (طَاهِرَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بنِ مُدْرِكَ وَيَعْقُوبَ بنَ مَنْصُورِ ابْنِ طَلْحَةَ وَمِيكَالَ مَوْلَى طَاهِرٍ وَهَارُونَ الْعَيَّاضَ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِى أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِى رُبْعٍ فَحَمَوِا الْحَرِيـمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّ وَادِى جَيْحُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى أَعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيَانِ كَثِيرُ الآفَاتِ) أَىْ يُتْلِفُ الزَّرْعَ (وَإِذَا امْتَدَّ كَانَ عَرْضُهُ نَحْوًا مِنْ فَرْسَخٍ وَإِذَا جَمَدَ انْطَبَقَ فَلَمْ يُوصَلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى يُحْفَرَ فِيهِ كَمَا تُحْفَرُ الآبَارُ فِى الصُّخُورِ وَقَدْ رَأَيْتُ كِثَفَ الْجَمَدِ عَشَرَةَ أَشْبَارٍ وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ شِبْرًا وَإِذَا هُوَ انْطَبَقَ صَارَ الْجَمَدُ جِسْرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَسِيرُ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَالْعَجَلُ) أَىِ الْحُمُولُ (وَالْقَوَافِلُ فَيَنْظِمُ مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنِ وَرُبَّمَا دَامَ الْجَمَدُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَإِذَا قَلَّ الْبَرْدُ فِى عَامٍ بَقِىَ سَبْعِينَ يَوْمًا إِلَى نَحْوِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَتِ الْمَرْأَةُ فَعَبَرَ الْكَافِرُ فِى خَيْلِهِ إِلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ وَصَبَّحُوا الْمُسْلِمِينَ) أَىْ هَاجَمُوهُمْ صَبَاحًا (وَأَضَرُّوا بِهِمْ فَحُصِرَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَمَنَعَهُمُ الْعَامِلُ) أَىِ الْحَاكِمُ (دُونَ أَنْ تَتَوَافَى عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ وَتَتَلاحَقَ الْمُتَطَوِّعَةُ فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ فَتَقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنَ السِّلاحِ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَاءِ هَذَا الْكَافِرِ ثُمَّ بَعْضُ الشَّبَابِ تَحَمَّسُوا فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ لِضَرْبِهِ (وَحَمَلُوا عَلَى الْكَفَرَةِ فَتَهَارَجَ الْكَفَرَةُ) أَىْ تَظَاهَرُوا بِالْخَوْفِ (وَاسْتَجَرُّوهُمْ مِنْ بَيْنِ الأَبْنِيَةِ وَالْحِيطَانِ فَلَمَّا أَصْحَرُوا كَرَّ التُّرْكُ عَلَيْهِمْ) مَعْنَاهُ لَمَّا صَارُوا فِى الصَّحْرَاءِ أَىْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ كَرَّ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ التُّرْكِ لَمْ يُسْلِمُوا فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِى مِثْلِ الْحَرَجَةِ) أَىْ كَالشَّجَرَةِ تَكُونُ بَيْنَ الأَشْجَارِ لا تَصِلُ إِلَيْهَا الآكِلَةُ الَّتِى تَرْعَى (فَتَحَصَّنُوا وَاتَّخَذُوا دَارَةً يُحَارِبُونَ مِنْ وَرَائِهَا وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتِ الْمَعُونَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتِ الأَوْتَارُ وَالْقِسِىُّ) وَالأَوْتَارُ جَمْعُ وَتَرٍ مَعْرُوفٍ يَكُونُ لِلْقَوْسِ وَالْقِسِىُّ جَمْعُ قَوْسٍ (وَأَدْرَكَهُمُ التَّعَبُ وَمَسَّهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ مُعْظَمُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ) مَعْنَاهُ مَاتَ أَكْثَرُهُمْ وَالآخَرُونَ أُثْخِنُوا مَعْنَاهُ أَصَابَهُمْ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَمُوتُوا (وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ) أَىْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ (تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ) أَىْ هَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ (قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَرُفِعَتِ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ) أَىْ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ (سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْجُرْجَانِيَّةِ وَهِىَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِى قَاصِيَةِ خُوَارِزْمَ) أَىْ فِى أَطْرَافِهَا (وَكَانَ مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ بِهَا فِى عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِى الطَّلَبِ) أَىْ أَسْرَعَ (هَيْبَةً لِلأَمِيرِ أَبِى الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَكَضَ إِلَى هَزَارَاسْبَ فِى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ) يَعْنِى أَنَّ فَرَاسِخَ فَرَاسِخِهِمْ تَزِيدُ عَلَى فَرَاسِخِ تِلْكَ الْبِلادِ (وَغَدَا التُّرْكُ لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ) أَىِ الْجَمَاعَةِ (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ ارْتَفَعَتْ لَهُمُ الأَعْلامُ السُّودُ وَسَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ فَأَفْرَجُوا عَنِ الْقَوْمِ) مَعْنَاهُ الْكُفَّارُ هَرَبُوا لَمَّا رَأَوِا الْجَيْشَ الإِسْلامِىَّ قَادِمًا (وَوَافَى مِيكَالُ) أَىْ حَضَرَ مِيكَالُ (مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى وَحَمَلَ الْجَرْحَى) أَىْ دَفَنَ الْقَتْلَى الَّذِينَ مَاتُوا وَالْجَرْحَى حَمَلَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِى كَانُوا فِيهِ إِلَى مَكَانِ الْمُدَاوَاةِ (قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَأُدْخِلَ الْحِصْنَ عَلَيْنَا عَشِيَّةَ ذَلِكَ زُهَاءُ أَرْبَعِمِائَةِ جَنَازَةٍ فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ إِلَّا حُمِلَ إِلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتِ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ. قَالَتْ وَوُضِعَ زَوْجِى بَيْنَ يَدَىَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِى مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ) أَىِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ وَالْبُكَاءِ (عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِى الأَوْلادِ وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ. قَالَتْ فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِى وَالْجِيرَانُ يُسْعِدْنَنِى عَلَى الْبُكَاءِ) أَىْ يُسَاعِدْنَنِى عَلَى الْحُزْنِ أَىْ يُوَاسُونَهَا (وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لا يَعْقِلُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا) أَىْ لا يُدْرِكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ (يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِى مَا أُعْطِيهِمْ فَضِقْتُ صَدْرًا بِأَمْرِى ثُمَّ إِنِّى سَمِعْتُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْتُ إِلَى الصَّلاةِ) أَىْ قُمْتُ إِلَى الصَّلاةِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهَا وَهَذِهِ عَلامَةٌ عَلَى أَنَّهَا تَقِيَّةٌ (فَصَلَّيْتُ مَا قَضَى لِى رَبِّى ثُمَّ سَجَدْتُ أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِى فَذَهَبَ بِىَ النَّوْمُ فِى سُجُودِى فَرَأَيْتُ فِى مَنَامِى كَأَنِّى فِى أَرْضٍ خَشْنَاءَ ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِى فَنَادَانِى رَجُلٌ إِلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّةُ قُلْتُ أَطْلُبُ زَوْجِى فَقَالَ خُذِى ذَاتَ الْيَمِينِ قَالَتْ فَأَخَذْتُ ذَاتَ الْيَمِينِ فَرُفِعَ لِى أَرْضٌ سَهْلَةٌ) أَىْ رَأَيْتُ أَرْضًا سَهْلَةً (طَيِّبَةُ الرَّىِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا) أَىْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا (وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِغَيْرِ أَخَادِيدَ) أَىْ لَيْسَتْ فِى وِهَادٍ عَمِيقَةٍ إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْمَاءُ بِسُهُولَةٍ (لَيْسَ لَهَا حَافَاتٌ فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا) مَعْنَاهُ يَجْلِسُونَ فِى دَوَائِرَ (عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْتُ أَتَخَلَّلُهُمْ وَأَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ) أَىْ أَتَأَمَّلُهَا (أَبْغِى زَوْجِى لِكَىْ يَنْظُرَنِى فَنَادَانِى يَا رَحْمَةُ يَا رَحْمَةُ فَيَمَّمْتُ الصَّوْتَ) أَىْ تَبِعْتُ وَقَصَدْتُ صَوْتَهُ (فَإِذَا بِهِ فِى مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رُفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إِنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمَ أَفَتَأْذَنُونَ لِى أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ فَأَذِنُوا لَهُ فَنَاوَلَنِى كِسْرَةَ) أَىْ قِطْعَةَ (خُبْزٍ قَالَتْ وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لا أَدْرِى كَيْفَ يُخْبَزُ هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ) أَىْ طَرَوَاتُهُ أَشَدُّ مِنْ طَرَاوَةِ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ (فَأَكَلْتُهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِى جَوْفِى قَالَ اذْهَبِى كَفَاكِ اللَّهُ مَؤُونَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيْتِ فِى الدُّنْيَا فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِى شَبْعَى رَيَّا لا أَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهُمَا مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِى هَذَا وَلا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَتَنَحَّى وَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ فَسَأَلْتُهَا أَتَتَغَذَّى بِشَىْءٍ أَوْ تَشْرَبُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ فَقَالَتْ لا، فَسَأَلْتُهَا هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى كَمَا يَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ قَالَتْ لا عَهْدَ لِى بِالأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قُلْتُ وَالْحَيْضُ أَظُنُّهَا قَالَتِ انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطُّعْمِ) أَىِ الطَّعَامِ (قُلْتُ هَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ قَالَتْ أَمَا تَسْتَحِى مِنِّى تَسْأَلُنِى عَنْ مِثْلِ هَذَا قُلْتُ إِنِّى لَعَلِّى أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْكِ وَلا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِىَ قَالَتْ لا أَحْتَاجُ قُلْتُ فَتَنَامِينَ قَالَتْ نَعَمْ أَطْيَبَ نَوْمٍ قُلْتُ فَمَا تَرَيْنَ فِى مَنَامِكِ قَالَتْ مِثْلَمَا تَرَوْنَ قُلْتُ فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا فِى نَفْسِكِ قَالَتْ مَا أَحْسَسْتُ بِجُوعٍ مُنْذُ طَعِمْتُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْتُ لَهَا مَا تَصْنَعِينَ بِهَا قَالَتْ أَكْتَسِى وَأَكْسُو وَلَدِى قُلْتُ فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ يُدْرِكُكِ كَلَل اللُّغُوبِ وَالإِعْيَاءِ) أَىِ التَّعَبِ (إِذَا مَشَيْتِ قَالَتْ نَعَمْ أَلَسْتُ مِنَ الْبَشَرِ قُلْتُ فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلاةِ قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ لِمَ قَالَتْ أَمَرَنِى الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ قُلْتُ إِنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ »لا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ» وَذَكَرَتْ لِى أَنَّ بَطْنَهَا لاصِقٌ بِظَهْرِهَا فَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ) أَىْ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَة (فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ وَإِذَا قَدِ اتَّخَذَتْ كِيسًا فَضَمَّتِ الْقُطْنَ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَىْ لا يَنْقَصِفَ ظَهْرُهَا إِذَا مَشَتْ ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إِلَى هَزَارَاسْبَ بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثِ فَتَحْضُرُنِى فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا فَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ وَعَرَضْتُ كَلامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَقِيهِ فَقَالَ أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ مُنْذُ نَشَأْتُ فَلا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ. انْتَهَى) قَالَ الذَّهَبِىُّ فِى السِّيَرِ وَهَذِهِ حِكَايَةٌ صَحِيحَةٌ فَسُبْحَانَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.
(فَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أَنْ لا تَلازُمَ عَقْلِىٌّ بَيْنَ فُقْدَانِ الأَكْلِ وَبَيْنَ الْمَرَضِ وَذَهَابِ الصِّحَّةِ وَانْهِدَامِ الْبُنْيَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ تَتَخَلَّفَ مَفْعُولاتُهَا) لِأَنَّهُ لا تَلازُمَ عَقْلِىٌّ بَيْنَ الأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ إِنَّمَا هِىَ أَسْبَابٌ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهَا الْمُسَبَّبَاتِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الأَكْلِ الشِّبَعَ وَعِنْدَ الشُّرْبِ الرِّىَّ وَقَدْ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالرِّىَّ عِنْدَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَدْ يَحْصُلُ ضَرَرٌ بِخَلْقِ اللَّهِ بِتَرْكِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَدْ لا يَحْصُلُ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَرَكَتِ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَمْ تَنْضَرَّ وَأَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا تَرَكُوا الأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ خَمْسَةَ أَوْ سِتَّةَ أَيَّامٍ يَمُوتُونَ مِنَ الْجُوعِ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ شَيْئًا الأَكْلُ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَتَرْكُ الأَكْلِ لا يَخْلُقُ الضَّرَرَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى يَخْلُقُ الشِّبَعَ عِنْدَ الأَكْلِ وَيَخْلُقُ الضَّرَرَ عِنْدَ تَرْكِ الأَكْلِ إِنْ شَاءَ. وَكَذَلِكَ النَّارُ إِذَا مَسَّتْ شَيْئًا يَخْلُقُ اللَّهُ الإِحْرَاقَ عِنْدَ مُمَاسَّةِ ذَلِكَ الشَّىْءِ لِلنَّارِ وَقَدْ لا يَخْلُقُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ فَهَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَمَاهُ قَوْمُهُ فِى النَّارِ الْعَظِيمَةِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ وَإِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْقَيْدَ الَّذِى قَيَّدُوهُ بِهِ وَكَانَتِ النَّارُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلامًا. كُلُّ هَذَا فِيهِ دَلائِلُ عَلَى أَنَّ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ مُسَبَّبَاتِهَا (وَأَنَّ الأَشْيَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَ)هَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِى حَصَلَتْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ فِيهَا دِلالَةٌ عَلَى (أَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ) أَىْ فِى مُدَّةِ الْقَبْرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، الشَّهِيدُ فِيهِ حَيَاةٌ رُوحُهُ الَّتِى فِى الْجَنَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَيُحِسُّ بِلَذَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِى يَأْكُلُهُ الرُّوحُ فِى الْجَنَّةِ يَصِلُ إِلَيْهِ فَيَظَلُّ فِيهِ دَمٌ لَوْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ جُرِحَ يَطْلَعُ مِنْهُ دَمٌ (فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ).