الخميس نوفمبر 21, 2024

الدَّرْسُ الثَّانِى وَالْخَمْسُونَ

إِتْبَاعُ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ

 

     الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ وَسَلامُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

     أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ رُوِّينَا فِى كِتَابِ الآدَابِ لِلإِمَامِ الْبَيْهَقِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَدِيثِ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا بِالْحَسَنَةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمِنَ الْحَسَنَاتِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ هِىَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ اهـ.

     هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِىَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً أَىْ مَعْصِيَةً مِنَ الْمَعَاصِى وَأَتْبَعَهَا بِحَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَمْحُو بِتِلْكَ الْحَسَنَةِ تِلْكَ السَّيِّئَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَاتِ أَحْيَانًا يَمْحُو اللَّهُ بِهَا اللَّمَمَ [أَىْ إِذَا قُبِلَتْ] وَاللَّمَمُ هُوَ الصَّغَائِرُ، وَقَدْ يَمْحُو اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَسَنَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ مِنَ الْكَبَائِرِ مَا شَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ﷺ قَالَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ اهـ أَىْ بِنِصْفِ حَبَّةِ تَمْرٍ، بِنِصْفِهَا قَدْ يُعْتِقُ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ مِنَ النَّارِ، لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ عَامًّا لَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً تُمْحَى عَنْهُ كَبِيرَةٌ لَكِنْ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ، اللَّهُ تَعَالَى يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ كَبِيرَةً فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْحَسَنَةَ كَائِنَةً مَا كَانَتْ تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ إِنَّمَا هَذَا شَىْءٌ يَحْصُلُ بِعَمَلِ بَعْضِ الْحَسَنَاتِ يَغْفِرُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ. لَيْسَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ تُغْفَرُ لَهُ بَعْضُ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ. وَفِى هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هِىَ أَكْبَرُ الْحَسَنَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا هِىَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ هُنَا صَارَتْ أَفْضَلَ الْحَسَنَاتِ. ثُمَّ جَاءَ فِى حَدِيثٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَحَبُّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَر اهـ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الأَرْبَعُ هِىَ أَحَبُّ مَا يَقُولُهُ الإِنْسَانُ أَىْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الأَرْبَعَ هُنَّ أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَأَفْضَلُهُنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ فِى سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ بَدَأَ بِالتَّسْبِيحِ وَلَكِنْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بَلْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هِىَ الْفُضْلَى.

     فَيَنْبَغِى لِكُلِّ مَنِ ارْتَكَبَ سَيِّئَةً أَنْ يُتْبِعَهَا حَسَنَةً، وَالْحَسَنَاتُ بِفَضْلِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ التَّسْبِيحُ حَسَنَةٌ وَالتَّحْمِيدُ كَذَلِكَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كَذَلِكَ وَالْحَسَنَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ كَذَلِكَ فَإِذَا تَصَدَّقَ الْمُسْلِمُ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا مَا شَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ فَلا يَحْتَقِرِ الْمُؤْمِنُ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ لا يَقُلْ لَيْسَ لَهَا أَجْرٌ كَبِيرٌ بَلْ يَعْمَلُهَا رَجَاءَ فَضْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا شَاءَ يُعْتِقُ عَبْدًا كَانَ ارْتَكَبَ كَبَائِرَ مِنَ النَّارِ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، لِذَلِكَ يَنْبَغِى أَلَّا يَحْتَقِرَ الْمُؤْمِنُ أَيَّةَ حَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى وَرَدَ فِى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنَّهُنَّ كَفَّارَّاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ فَهَذَا مَوْضُوعٌ خَاصٌّ، لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لا يَمْحُو بِشَىْءٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ شَيْئًا مِنَ الْكَبَائِرِ بَلِ اللَّهُ يَمْحُو بَعْضَ الْكَبَائِرِ بِبَعْضِ الْحَسَنَاتِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ مَنْ قَالَ عَقِبَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَعَقِبَ صَلاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَنَّ اللَّهَ يَمْحُو عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ أَىْ مَعَاصٍ مُوبِقَاتٍ أَىْ مِنَ الْكَبَائِرِ.

     بَابُ فَضْلِ اللَّهِ وَاسِعٌ لَكِنِ الإِنْسَانُ لا يَعْلَمُ فِى أَىِّ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ تُمْحَى لَهُ بَعْضُ الْكَبَائِرِ لِذَلِكَ يَنْبَغِى أَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَعَاصِى جَمِيعِهَا كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحِمَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ جَعَلَ الْحَسَنَةَ الْوَاحِدَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، الْحَسَنَةُ الْوَاحِدَةُ تَقُومُ بِإِزَاءِ عَشْرٍ مِنَ الْمَعَاصِى مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ.

     ثُمَّ إِنَّ السَّيِّئَاتِ الَّتِى هِىَ صَغَائِرُ وَتُعَدُّ لَمَمًا كَثِيرَةٌ، مِنْهَا الْكَذْبَةُ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِمُسْلِمٍ وَلَيْسَ فِيهَا تَحْلِيلُ حَرَامٍ وَلا تَحْرِيمُ حَلالٍ هَذِهِ الْكَذْبَةُ تُعَدُّ مِنَ الصَّغَائِرِ.

     أَمَّا الْكَبَائِرُ فَهِىَ فِى الْعَدِّ بِاعْتِبَارِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِى بَيَانِ الْكَبِيرَةِ هِىَ قَرِيبَةٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ غَيْرُ ذَلِكَ فِى أَسَانِيدِهَا ضَعْفٌ تَدُلُّ أَنَّ هُنَاكَ زِيَادَةً عَلَى الثَّلاثِينَ، وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الأُصُولِ كَتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِىِّ عَدَّ خَمْسَةً وَثَلاثِينَ، وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ هِىَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ، مَا جَزَمَ بِأَنَّهَا سَبْعُونَ بَلْ قَالَ هِىَ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ.

     ثُمَّ مِنَ الصَّغَائِرِ أَنْ تَتَعَطَّرَ الْمَرْأَةُ وَتَخْرُجَ بِنِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ. رَوَيْنَا فِى صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مُتَعَطِّرَةً فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِىَ زَانِيَةٌ اهـ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَهِىَ زَانِيَةٌ أَىْ تُشْبِهُ الزَّانِيَةَ أَىْ هَذَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا. مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ وَالْبَطْشُ أَىِ الإِمْسَاكُ بِالْيَدِ وَالْمَشْىُ بِنِيَّةِ الْحُصُولِ عَلَى تَلَذُّذٍ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ الْمُحَادَثَةُ الَّتِى يُقْصَدُ بِهَا التَّلَذُّذُ الْمُحَرَّمُ كُلُّ هَذَا مُقَدِّمَاتُ الزِّنَا. لَكِنْ فَرْقٌ بَعِيدٌ بَيْنَ الزِّنَا الْحَقِيقِىِّ الَّذِى يُوجِبُ الْحَدَّ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ. أَمَّا الَّتِى تَخْرُجُ مُتَعَطِّرَةً أَوْ مُتَزَيِّنَةً لا لِقَصْدِ التَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ. إِذَا تَعَطَّرَتْ أَوْ تَزَيَّنَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لا بِنِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلرِّجَالِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ لا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْحَرَامِ وَمَنْ يُحَرِّمُهُ فَهُوَ غَالِطٌ خَالَفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا اهـ مَا قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مُتَعَطِّرَةً فَهِىَ زَانِيَةٌ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالَ فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا اهـ وَلا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَدَّى الْحَدَّ الَّذِى جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ.

     هَذَا أَىْ حُكْمُ الْكَرَاهَةِ الْمَذْكُورُ ءَانِفًا فِى غَيْرِ سَفَرِ الْحَجِّ أَمَّا فِى سَفَرِ الْحَجِّ فَقَدْ صَحَّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّخُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ لِلإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ فَلا يَنْهَانَا اهـ [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى] مِنْ هُنَا قَالَ الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيُّونَ إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ وَالأُنْثَى التَّطَيُّبُ لِلإِحْرَامِ أَىْ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَىْ هُوَ سُنَّةٌ. فَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ مُتَعَطِّرَةً عَلَى الإِطْلاقِ شَطَطٌ أَىْ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ وَلا يُقَلَّدُ قَائِلُهُ.

     ثُمَّ إِنَّ هُنَاكَ حَدِيثًا ءَاخَرَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ فِى مُصَنَّفِهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعِنْدِى أَسْمَاءُ فَقَالَ مَا كَانَ يَنْبَغِى لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَطَيَّبَ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ اهـ مَحَلُّ الدَّلِيلِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ مَا كَانَ يَنْبَغِى مَا قَالَ حَرَامٌ عَلَيْكِ كَيْفَ خَرَجْتِ مِنَ الْبَيْتِ وَجِئْتِ إِلَيْنَا وَأَنْتِ مُتَطَيِّبَةٌ، مَا عَنَّفَهَا. هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ. لَكِنْ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مُتَطَيِّبَةً أَوْ مُتَزَيِّنَةً إِلَى السُّوقِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ نَحْوِهِمَا أَىْ أَمَامَ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ مَكْرُوهٌ لَكِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يَسْتَثْنِى سَفَرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِى ذَكَرْنَاهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَالْبَيْهَقِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

     ثُمَّ الْفُقَهَاءُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ كَاشِفَةً وَجْهَهَا. هَذَا ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِىُّ كَانَ فِى مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْعَاشِرِ الْهِجْرِىِّ لَهُ كِتَابٌ اسْمُهُ حَاشِيَةُ الإِيضَاحِ يَقُولُ فِيهِ يَجُوزُ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ إِلَى الشَّوَارِعِ كَاشِفَةً الْوَجْهَ.

     بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا وَجْهُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ عَوْرَةً لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ كَاشِفَةً الْوَجْهَ هَذَا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ مِنْ كَلامِ أَصْحَابِ أَبِى حَنِيفَةَ وَلا أَصْحَابِهِمْ وَلا أَصْحَابِ أَصْحَابِهِمْ إِنَّمَا هَذَا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَهُ خَمْسُمِائَةِ أَوْ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَمِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ كَاشِفَةً الْوَجْهَ وَالْعُمْدَةُ عَلَى مَا قَالَهُ هَؤُلاءِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ مَعَ كَشْفِ الْوَجْهِ. كُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْبِلادِ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ لا تَخْرُجَ الْمَرْأَةُ كَاشِفَةً وَجْهَهَا فَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ اعْتَبَرُوهُ كَبِيرَةً. هَذَا مِنْ تَأْثِيرِ الْعَادَةِ. حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْغُلُوِّ فِى حَلَبَ قَالَ لِجَمَاعَتِهِ حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُبْرِزَ وَجْهَهَا دَاخِلَ بَيْتِهَا مَعَ وُجُودِ زَوْجِهَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَجْنَبِىٌّ ءَاخَرُ، هَذَا غُلُوٌّ، لَوْ قِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا الْقَوْلَ لا يَجِدُ دَلِيلًا لَكِنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ تُحِبُّ الْغُلُوَّ، وَالرَّسُولُ ﷺ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ، لا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ الشَّرْعِىَّ، لا إِفْرَاطَ وَلا تَفْرِيط. هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ قَصْدًا وَسَطًا لَيْسَ فِيهِ إِفْرَاطٌ وَلا تَفْرِيطٌ أَىْ تَنْقِيصٌ. اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى الْحَالِ الْوَسَطِ لا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلا تَفْرِيط، لا نُحَرِّمُ حَلالًا وَلا نُحِلُّ حَرَامًا، وَلا عِبْرَةَ بِالْعَادَاتِ بَلِ الْعِبْرَةُ بِالشَّرْعِ. نَعَمْ أَفْضَلُ لِلْمَرْأَةِ وَأَحْسَنُ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا إِذَا خَرَجَتْ أَمَامَ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ كَمَا كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ السَّلَفِ وَقَدْ كَانَتْ نِسَاءُ الأَنْصَارِ يُغَطِّينَ عَيْنًا وَيَكْشِفْنَ عَيْنًا إِذَا خَرَجْنَ.

     ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ فَقَالَ مَا فِيهِ حِفْظٌ مِنَ الْهَلاكِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِلنِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّى رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ تَكْفُرْنَ اهـ قَالَتْ بَعْضُ النِّسَاءِ الْحَاضِرَاتِ مُسْتَفْسِرَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ تَكْفُرْنَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ، قَالَ يُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ اهـ [رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ] يُكْثِرْنَ اللَّعْنَ مَعْنَاهُ يَكْثُرُ مِنَ النِّسَاءِ لَعْنُ مَنْ لا يَجُوزُ لَعْنُهُ، يَغْلِبُ عَلَى عَادَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَلْعَنَّ إِذَا غَضِبْنَ مِنْ وَلَدٍ، كَذَلِكَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ أَىِ الزَّوْجَ أَىْ يَجْحَدْنَ جَمِيلَ الزَّوْجِ أَىْ إِحْسَانَ الزَّوْجِ وَلا سِيَّمَا إِذَا غَضِبْنَ، هَذِهِ حَالَةُ النِّسَاءِ الْغَالِبَةُ عَلَيْهِنَّ، أَمَّا التَّقِيَّاتُ الصَّالِحَاتُ فَهُنَّ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ مَنْشَأُ هَذَا اللَّعْنِ وَكُفْرَانِ الْعَشِيرِ فِى الْغَالِبِ الْغَضَبُ فَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا عِنْدَ الْغَضَبِ فَلا تَتَجَاوَزَ بِلِسَانِهَا إِلَى مَعَاصِى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ لَعْنِ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ وَإِيذَاءِ الزَّوْجِ بِإِنْكَارِ جَمِيلِهِ. أَكْبَرُ سَبَبٍ لِذَلِكَ اللَّعْنِ وَالْكُفْرَانِ هُوَ الْغَضَبُ وَالرَّسُولُ ﷺ أَوْصَى أُمَّتَهُ بِتَرْكِ الْغَضَبِ أَىِ الْغَضَبِ لِحَظِّ النَّفْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَحْمُودًا.

     ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ عَلَى النِّسَاءِ نَوْعًا مِنَ اللِّبَاسِ أَوْ لَوْنًا إِنَّمَا الْفَرْضُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَسْتُرْنَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ بِمَا يَمْنَعُ إِدْرَاكَ لَوْنِ جِلْدِهَا فَإِنْ سَتَرَتْ بِالأَحْمَرِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَلْوَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلا يُشْتَرَطُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى الأَبْيَضِ أَوِ الأَسْوَدِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِبَاسُهَا يَصِفُ لَوْنَ جِلْدِهَا فَكَأَنَّهَا غَيْرُ لابِسَةٍ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.