إثبات أنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء جائز، وأنه ليس شركًا كما تقول الوهابية
اعلم أنه لا دليل حقيقي يدل على عدم جواز التوسّل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة أو بعد وفاتِهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله لأنه ليس عبادةً لغير الله مجرّد النداء لحي أو ميت ولا مجرد التعظيم ولا مجرد الاستغاثة بغير الله ولا مجرد قصد قبر ولي للتـبرك ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس ولا مجرد صيغة الاستعانة بغير الله تعالى اي ليس ذلك شركًا لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين لأن العبادة عندهم الطاعةُ مع الخضوع.
وقال بعض: نهآية التذلل. وهذا الذي يستقيم لغةً وعُرفًا، وليس مجرّد التذلل عبادةً لغير الله وإلا لكفر كل من يتذلل للملوك والعُظماء. وقد ثبت أن مُعاذ بن جبل لما قدِم من الشام سجد لرسول الله، فقال الرسول: ما هذا، فقال: يا رسول الله إني رأيتُ أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم وأنت أولى بذلك، فقال: [لا تفعل لو كنتُ آمرُ أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة ان تسجد لزوجِها] فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول او غيره من الأولياء للتبرك فهم جهِلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون لأن المسلمين سلفًا وخلفًا لم يزالوا يزورون قبر النبي، وليس معنى الزيارة للتبرك ان الرسول يخلق لهم البركة بل المعنى أنهم يرجون ان يخلق الله لهم البركة يزيارتهم لقبره.
والدليل على ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن مالك الدار، وكان خازن عمر قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل الى قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يار سول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتي الرجل في المنام فقيل له: أقرئ عمر السلام وأخبره أنهم يُسقون، وقل له عليك الكيس الكيس فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال: يا رب ما ءالو إلا ما عجزتُ. وقد جاء في تفسير هذا الرجل أنه بلال بن الحرث المُزني فبطل دعوى ابن تيمية ان هذه الزيارة شركيه.
وقد قال الحافظ ولي الدين العراقي في حديث أبي هريرة ان موسى قال: رب أدنني من الأرض المقدسه رميةً بحجر وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: [واللهِ لو أني عنده لأريتكم قبره الى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر]: فيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتِها والقيام بحقّها اهـ.
وأخرج أحمد في المسند بإسنادٍ حسن كما قال الحافظ انّ الحرث بن حسان البكري، قال لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد. الحديث بطوله.
قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عباس ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: [إن لله ملائكةً في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقُط من روق الشجر فإذا أصاب أحدَكم عرجةٌ بأرض فلاةٍ فليناد أعينوا عباد الله] رواه الطبراني، وقال الحافظ الهيثمي: رجالُه ثقات.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): [حياتي خيرٌ لكم ومماتي خيرٌ لكم تُحدِثون ويُحدَثُ لكم ووفاتي خيرٌ لكم تُعرَض عليّ أعمالُكم فما رأيتُ من خيرٍ حمِدتُ اللهَ عليه وما رأيتُ من شرّ استغفرتُ لكم] رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير والصغير عن عثمان بن حنيف ان رجلاً كان يختلف الى عثمان بن عفان، فكان عثمان لا يلتفتُ إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، وقال: ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل: اللهُم إني أسألُك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك الى ربي في حاجتي لتُقضى لي ثم رُح حتى أروح معك. فانطلق الرجل ففعل ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على طنفسته، فقال: ما حاجتُك؟ فذكر له حاجته، فقضى له حاجته. وقال: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعةُ ثم خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال: جزاك الله خيرًا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفتُ إلي حتى كلمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره، فقال: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك. قال: يا رسول الله إنه شق علي ذهاب بصري وإنه ليس لي قائد. فقال له: ائت الميضأة فتوضأ وصلّ ركعتين ثم قال هؤلاء الكلمات، ففعل الرجل ما قال، فوالله ما تفرّقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني في معجمه: والحدث صحيح. ففيه دليل ان الأعمى توسّل بالنبي في غير حضرته بدليل قول عثمان بن حنيف: حتى دخل علينا الرجل، وفيه ان التوسّل بالنبي جائز في حالة حياته وبعد مماته فبطل قول ابن تيمية: لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط.
وأما توسل عمر بالعباس بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) فليس لأن الرسول قد مات بل كان لأجل رعآية حق قرابته من النبي (صلى الله عليه وسلم) بدليل قول العباس حين قدّمه عمر: اللهم إن القوم توجّهوا بي إليك لمكاني من نبيّك، فتبين بُطلان رأي ابن تيمية ومن تبِعه من منكري التوسل. روى هذا الاثر الزبير بن بكار.
ويستأنس له أيضًا بما رواه الحاكم في المستدرك ان عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يرى للعباس مثل ما يرى الولد لوالده فاقتدوا به في عمّه العباس واتخذوه وسيلةً الى الله. فهذا يوضح سبب توسّل عمر بالعباس.
فلا التفات بعد هذا الى دعوى بعض هؤلاء المشوشين ان الحديث المذكور في إسناده أبو جعفر وهو رجل مجهول، وليس كما زعموا بل أبو جعفر هذا هو أبو جعفر الخطميّ ثقةٌ وكذلك دعوى بعضهم وهو ناصر الدين الألباني ان مراد الطبراني بقوله: والحديث صحيح، القدر الأصلي وهو ما فعله الرجل الأعمى في حياة رسول الله فقط وليس مراده ما فعله الرجل أيام عثمان بن عفان بعد وفاة الرسول لأن علماء المصطلح قالوا: الحديث يطلق على المرفوع الى النبي وعلى الموقوف على الصحابة اي ان كلام الرسول يُسمى حديثًا وقول الصحابي يسمى حديثًا وليس لفظ الحديث مقصورًا على كلام النبي فقط، وهذا المُموه كلامه لا يوافق المقرر في علم المصطلح فلينظر من شاء في كتاب تدريب الراوي والإفصاح وغيرهما من كتب المصطلح.
أما حديث ابن عباس ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له: [إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله] فليس فيه دليل أيضًا على منع التوسّل بالأنبياء والأولياء لأن الحديث معناه ان الأولى بأن يُسأل ويُستعان به الله تعالى وليس معناه لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله. نظير ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم): [لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي]، فكما لا يُفهم من هذا الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن وإطعام غير التقي وإنما يُفهم منه ان الأولى في الصحبة المؤمن وأن الأولى بالإطعام هو التقي كذلك حديث ابن عباس لا يُفهم منه إلا الأولويه وأما التحريم فليس في هذا الحديث. ولا فرق بين التوسل والاستغاثة، فالتوسل يُسمى استغاثة كما جاء في حديث البخاري ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: [إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلُغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد (صلى الله عليه وسلم)] فسمى الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الطلب من آدم ان يشفع لهم الى ربهم استغاثة.
ثم الرسول سمّى المطر مُغيثًا فقد روى أبو داود وغيره بالإسناد الصحيح ان الرسول قال: [اللهم اسقنا غيثًا مُغيثًا مريئًا مريعًا نافعًا غير ضارّ عاجِلاً غير آجِل] فهذا الرسول سمّى المطر مُغيثًا لأنه يُنقذ من الشدّة بإذن الله، كذلك النبي والولي ينقِذ من الشدّة بإذن الله تعالى.
التبرّك بآثار النبي: اعلم انّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بآثار النبي (صلى الله عليه وسلم) في حياته وبعد مماته ولا زال المسلمون بعدهم الى يومنا هذا على ذلك، وجواز هذا الأمر يُعرف من فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) قسم شعره حين حلق في حجة الوداع وأظفاره. أما اقتسام الشعر فأخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس، ففي لفظ مسلم عنه قال: لما رمى (صلى الله عليه وسلم) الجمرة ونحر نُسُكَه وحلق ناول الحالق شقّه الأيمن فحلق ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلق. فحلق فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس. وفي رواية: فبدأ بالشق الايمن فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس. ثم قال بالأيسر فصنع مثل ذلك ثم قال: ههنا أبا طلحة فدفعه الى أبي طلحة. وفي رواية: أنه عليه الصلاة والسلام قال للحلاق: ها، وأشار بيده الى الجانب الأيمن قسّم شعره بين من يليه ثم أشار الى الحلاق الى الجانب الايسر فحلقه فأعطاه أم سليم، فمعنى الحديث أنه وزّع بنفسه بعضًا بين الناس الذين يلونه وأعطى بعضًا لأبي طلحة ليوزّعه في سائرهم وأعطى بعضًا أم سليم. ففيه التبرك بآثار الرسول، فقد قسم (صلى الله عليه وسلم) شعره ليتبركوا به وليستشعفوا الى الله بما هو منه ويتقربوا بذلك إليه، قسم بينهم ليكون بركةً باقية بينهم تذكِرةً لهم. ثم تبع الصحابة في خطتهم في التبرك بآثاره (صلى الله عليه وسلم) من أسعده الله. وتوارد ذلك الخلف عن السلف. وأما اقتسام الأظفار فأخرج الإمام أحمد في مُسنده ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قلّم أظفاره وقسّمها بين الناس. أما جبته (صلى الله عليه وسلم) فقد أخرج مسلم في الصحيح عن مولى أسماء بنت أبي بكر قال: أخرجت إلينا جُبّة طيالسية كسروانية لها لبنةُ دِيباج وفرجاها مكفوفان، وقالت: هذه جُبّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانت عند عائشة، فلما قُبِضت قبضتُها وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلبَسُها فنحنُ نغسلُها للمرضى نستشفي بها. وفي رواية: نغسِلُها للمريض منا.
وعن حنظلة بن حذيم قال: وفدتُ مع جدي حذيم الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لِحى وغيرهم وهذا أصغرُهم فأدناني رسول الله ومسح رأسي، وقال: بارك الله فيك، قال الذيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها، فيقول: بسم الله على موضع كفِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيمسحه فيذهب الورم. رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وأحمد في حديث طويل ورجال أحمد ثقات.
وعن ثابت قال: كنت إذا أتيت أنسًا يخبر بمكاني فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما وأقول بأبي هاتان اليدان اللتان مسّـتا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأقبل عينيه وأقول بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة.
وعن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجُلاً واضعًا وجهه على القبر
فقال: أتدري ما تصنع فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب،
فقال: نعم جئتُ رسول الله ولم آتِ الحجر سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله. رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط.
فائدة: ابن تيميه له كتاب يُسمى الوسيله يذكر فيه يقول: من كان سفره لأجل زيارة القبر هذا السفر محرّم، ويقول: من زار القبر طلبًا للبركه فهذا آثِم. وفي غير ذلك الكتاب يقول مثل ذلك. له ثلاثة رسائل مشهوره بالرسائل الثلاث واحده منها اسمُها التوحيد هذا من الكتب أول من يتعلّمها الذي يريد أخذ مذهبِهم. ابن عبد الوهاب قال مرّةً لإنسان: مشايخي ومشايخُك الى ستمائه سنه كلهم كفار، واحد منهم أيضًا له كتاب مشهور اسمه فتح المجيد يقول فيه: أهل مصر كفار لأنهم يزورون قبر الحسين، أهل الشام كفار لأنهم يزورون قبر مُحي الدين بن عربي، أهل اليمن كفار لأنهم يزورون قبر بن عَلوان، وكذلك غيرَهُم، يعني عنده الكل كفار إلا هم ومن تبِعَهم. الله يُريح المسلمين من فِتـنَتِهم.
قال المؤلف رحمه الله: فلا التفات بعد هذا الى دعوى منكري التوسّل والتبرك بآثاره الشريفه (صلى الله عليه وسلم). روى البيهقي وغيره بالإسناد ان خالد بن الوليد فقد قلنسوةً له يوم اليرموك فقال: اطلبوها. فلم يجدُوها، ثم طلبوها فوجدوها فإذا هي قلنسوة، فقال خالد: اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم الى ناصيته فجعلتُها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقتُ النصر.