الأحد ديسمبر 22, 2024

إبن خفيف الشيرازي  إمام فارس وشيخ الصوفية


ترجمته:
هو أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضبي الفارسي الشيرازي شيخ إقليم فارس ورأس الصوفية في زمانه، ولد من أم نيسابورية وأقام بمدينة شيراز. لم تذكر المصادر شيئًا عن وقت ولادته. وقد نقل ابن عساكر في “تبيين كذب المفتري” عن محمد بن حسين السلمي أنه قال: “محمد بن خفيف بن اسفكشاذ الضبي أبو عبد الله المقيم بشيراز. كانت أمه نيسابورية. هو اليوم شيخ المشايخ وتاريخ الزمان، لم يبق للقوم أقدم منه سنًا ولا أتم حالاً ووقتًا، صحب وريمًا والجريري وابن العباس بن عطاء ولقي الحسين بن منصور وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر متمسكًا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة وهو فقيه على مذهب الشافعي”.


علمه:
تفقّه على أبي العباس بن سريج وحدّث عن حماد بن مدرك وعن محمد بن جعفر التمار والحسين المحاملي وجماعة، وحدّث عنه أبو الفضل الخزاعي والحسن بن حفص الأندلسي وإبراهيم بن الخضر الشياح، والقاضي أبو بكر الباقلاني، ومحمد بن عبد الله بن باكويه. وكان رحل إلى إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري فلازمه فترة وأخذ عنه وكان من أعيان تلامذته.


ثناء العلماء عليه:
وروى ابن باكويه أن ابن خفيف نظر يومًا إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئًا فقال: ما هذا؟ قالوا: نكتب كذا وكذا، قال: اشتغلوا بتعلم شيء ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي والورق في حجر سراويلي وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني وقالوا لا يفلح، ثم احتاجوا إليَّ.

ومن ذلك قول الذهبي في “سير أعلام النبلاء”: “قد كان الشيخ قد جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، ومُتّع بطول العمر في الطاعة”.

ومن أجمل ما قيل فيه ما ذكره التاج السبكي في طبقاته من قوله: “الشيخ أبو عبد الله بن خفيف شيخ المشايخ وذو القدم الراسخ في العلم والدين، كان سيدًا جليلاً وإمامًا حفيلاً، يستمطر الغيث بدعائه، ويؤدب المصر بكلامه، من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر وممن اتفقوا على عظيم تمسكه بالكتاب والسنة، وكانت له أسفار وبدايات، وأحوال عاليات ورياضات، وصحب من أرباب الاحوال أحبارًا وأخيارًا، وشرب من منهل الطريق كأسات كبارًا، وسافر مشرقًا ومغربًا، وصابر النفس حتى انقادت له فأصبح مبنى الثناء عليها معربًا، صبر على الطاعة لا يعصيه فيه قلبه، واستمر على المراقبة شهيد عليه ربه، وجنب لا يدري القرار، ونفس لا تعرف المأوى إلا البيداء ولا المسكن إلا القفار”.

وقال فيه أيضًا: “بلغ ما لم يبلغه أحد من الخلق في العلم والجاه عند الخاص والعام، [أي في زمانه] وصار أوحد زمانه مقصودًا من الآفاق مفيدًا في كل نوع من العلوم مباركًا على من يقصده، رفيقًا بمريديه يبلغ كلامه مراده”.


زهده وتصوفه:
يقول التاج: “كان ابن خفيف من أولاد الامراء، فتزهد حتى قال: “كنت أذهب وأجمع الخرق من المزابل وأغسله وأصلح منه ما ألبسه”، ويروى عنه أنه قال: “ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة مع ما لي من القبول العظيم بين الخاص والعام”.

ومما يرويه ابن عساكر في “تبيين كذب المفتري” عنه قوله: “كنت في ابتدائي بقيت أربعين شهرًا أفطر كل ليلة بكف باقلاء، فمضيت يومًا واقتصدت فخرج من عرقي شبيه ماء اللحم وغشي علي فتحير الفصاد وقال: ما رأيت جسدًا بلا دم إلا هذا”.

في كتاب السير للذهبي قول ابن باكويه في ابن خفيف: “سمعت ابن خفيف يقول: كنت في بدايتي ربما أقرأ في ركعة واحدة عشرة ءالاف {قل هو الله أحد} وربما كنت أقرأ في ركعة القرءان كله”.

يقول الذهبي: “وروي عن ابن خفيف أمه كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يُحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك، قال: إذا سمعتم: حيَّ على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة”.


رحلته إلى أبي الحسن الاشعري:
رواها ضياء الدين الرازي أبو الإمام الفخر الرازي في كتابه “غاية المرام في علم الكلام”، والتاج السبكي في طبقاته عن ابن خفيف رضي الله عنه، وهي قصة كلها سجع بدأها بقوله: “دعاني أرب، ولوع ألب، وشوق غلب، وطلب يا له من طلب، أن أحرك نحو البصرة ركابي، في عنوان شبابي، لكثرة ما بلغني، على لسان البدوي والحضري، من فضائل شيخنا أبي الحسن الأشعري، لأستسعد بلقاء ذلك الوحيد، وأستفيد مما فتح الله تعالى عليه من ينابيع التوحيد…”. ويكمل ابن خفيف هذه القصة المسجوعة التي نوردها متصرفين فيها وذاكرين ما فيها بغير سجع، فيقول ما معناه: “وصلت إلى البصرة التي وجدتها على ما وصفت لي من الجمال والنظافة ورحابة صدور أهلها. وفيها أنا أدور وأبحث عمن يرشدني إلى الشيخ أبي الحسن، التقيت رجلاً بهي المنظر بين جماعة من أصحابه، فارتحت إليه وعزمت على أن أكلمه فسلمت عليه ورد علي السلام وكلّمني بأجزل الكلام وألطفه، فسألته عن الإمام الأشعري فقال لي: وماذا تريد منه، قلت: قد بلغني ذكره وعلمه فتقت لأن ألقاه وأستفيد من علمه، قال: عد إليّ غدًا باكرًا إلى هذا الموضع فأدلك عليه، فأتيت في اليوم التالي فلقيته في المكان عينه ينتظرني فسلّم عليّ ورددت عليه، ثم مضى وأنا أتبعه حتى دخل دارًا قد حضر فيها جماعة من الناس قد تسارعوا إلى الباب يستقبلونه بالترحاب والتعظيم، وقدموه إلى صدر المجلس ينتظرون حتى بدأ الشيخ يتكلم بلسان يفتق الشعور ويفلق الصخور، وألفاظ أرق من أديم الهواء وأعذب من زلال الماء، ومعانٍ ذات بيان، فكان إذا أوجز أعجز، وإذا أسهب أذهب، فلم يدع مشكلة إلا أزالها ولا فسادًا إلا أصلحه، وسط حيرة الحاضرين وتعجبهم من كلامه، عندها سألت بعض الحاضرين: من هذا الذي كان يتكلم بكلام لم أسمع مثله.

قال: هو الباز الاشهب ناصر الحق وقامع البدعة، إمام الامة وقوام الملة أبو الحسن الاشعري، فسرحت وأمعنت النظر في توسمه وتوقد جذوته، فإذا به يخرج من المجلس فتبعته فنظر إليّ وقال: يا فتى كيف وجدت أبا الحسن، فقلت:

ومسْجل مثل حد السيف منصلتٍ ***** تَزِلُّ عن غربه الألباب والفكرُ
طعنت بالحجة الغراء جيلهُم ***** ورمح غيرك منه العي والحضرُ

لا قام ضدك ولا قعد جدك، ولا فض فوك ولا لحقك من يقفوك، فوالذي سمك السماء وعلم ءادم الأسماء، لقد أبديت اليد البيضاء، وسكنت الضوضاء وكشفت الغماء، ولحنت الدهماء وقطعت الاحشاء وقمعت البدع والأهواء، بيد أنه قد بقي لي سؤال، فقال: اذكره، قلت: رأيت الأمر لم يجر على النظام، لأنك لم تفتتح كلامك بالدليل، فقال: إني في الابتداء لا أذكر الدليل ولا أشتغل بالتعليل، حتى إذا ذكر الخصم ضلالته وأفرد شبهته، أنص حينها على الجواب بالدليل والبرهان” ا.هـ.

قال ابن خفيف: “فتعلقت بأهدابه لخصائص ءادابه، ونافست في مصافاته لنفائس صفاته، ولبثت معه برهة أستفيد منه في كل يوم نزهة، وأدرأ عن نفسي للمعتزلة شبهة. ثم ألفيت مع علو درجته وتفاقم مرتبته، يقوم بتثقيف أوده من كَسْبِ يده، من اتخاذ تجارة العقاقير معيشة، والاكتفاء بها عيشة، اتقاء للشبهات وإبقاء على الشهوات، رضى بالكفاف وإيثارًا للعفاف” ا.هـ.


كرامته:
منها ما ذكره التاج السبكي في الطبقات، وهي أنه ناظر يومًا بعض البراهمة، فقال له البرهمي: إن كان دينك حقًا فتعال اصبر أنا وأنت على الطعام أربعين يومًا، فأجابه ابن خفيف فعجز البرهمي عن إكمال المدة المذكورة وأكملها ابن خفيف وهو طيب مسرور.

ومنها أيضًا عن الطبقات أن برهميًا ءاخر ناظره ثم دعاه إلى المكث معه تحت الماء مدة، فمات البرهمي قبل انتهاء المدة وصبر الشيخ إلى أن انتهت وخرج سالمًا لم يظهر علي تغير.


مؤلفاته:
وأما مصنفاته فكثيرة قال فيها التاج السبكي في طبقاته: “وصنف من الكتب ما لم يصنفه أحد، وعُمِّرَ حتى عمَّ نفعه”. ومن الكتب التي صنفها في مختلف العلوم الدينية كتاب “ءاداب المريدين” و”اختلاف الناس في الروح” و”جامع الإرشاد” و”الجمع والتفري” و”الفصول في الأصول” و”فضل التصوف” و”كتاب الاستدراج” و”الاستذكار” و”الإعانة” و”الاقتصاد” و”السماع” وكثير غيرها من بينها ديوان شعر له.


وفاته:
ذكر الصفدي في “الوافي” والذهبي في “سير أعلام النبلاء” وصاحب “كشف الظنون” أنه توفي سنة ثلاثمائة وإحدى وسبعين للهجرة.

وقال الذهبي: “يقال إنه عاش مائة سنة وأربعين سنين، وانتقل إلى رحمة الله تعالى في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. والأصح أنه عاش خمسًا وتسعين سنة، وازدحم الخلق على سريره وكان أمرًا عجيبًا. قيل إنهم صلوا عليه نحوًا من مئة مرة.