إبراهيم الحربي عَلَم في التواضع والزهد
ترجمته:
هو الشيخ الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام والمسلمين وقدوة العلماء العاملين رأس أهل الزهد في زمانه، الجهبذ النحرير والحجة الكبير إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة وأصله من مرو بلد الإمام أحمد أمه تغلبية من تغلب. وسمي بالحربي نسبة إلى الحربية وهي حي من أحياء بغداد مان قد صحب قومًا فيها فنسب إليها، قال ياقوت في “معجم الأدباء”: وقيل لم سميت إبراهيم الحربي قال: صحبت قومًا من الحربية فسموني الحربي بذلك.
جملة من مناقبه:
كان إبراهيم الحربي رضي الله عنه واسع الكرم عفيف النفس جم التواضع عظيم الورع جبلاً يمشي على قدمين، أحد أئمة المؤمنين العاملين.
وحدث عنه أبو عثمان الرازي فقال: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة ءالاف درهم من عند المعتضد يسأله عن أمير المؤمنين أن يفرق ذلك على الناس فرده، ثم عاد فقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك، فقال له: عافاك الله قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك.
وفي كتاب “سير أعلام النبلاء” عن المخلص عن أبيه قال: إن المعتضد بعث إلى إبراهيم الحربي بمال فرده عليه قال: ردها إلى من أخذتها منه وهو محتاجٌ إلى فلس. وذكر أنه لم يكن عنده سوى ثوب واحد فقط.
وعن القاسم بن بكير قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية ثم لعقة بنٍ [بكسر الباء وهي الطبقة من الشحم] أو باقة فجل.
ومما جاء في فضائله رضي الله عنه وحسن سيرته عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سألت الدارقطني عن إبراهيم الحربي فقال: كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه.
وناهيك به قدرًا أن يُقاس بأحمد بن حنبل وهو من هو علمًا وورعًا وزهدًا وقيامًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ذُكر أن قومًا فضلوا الحربي على أحمد بن حنبل فبلغه ذلك فأنكر الحربي عليهم، وفي ذلك إشارة إلى تواضع الرجل وعظيم محبته وتقديره لأهل العلم المعتبرين.
ومن جميل خصائصه وحسن فضائله ما روى عنه أبو الفضل عبيد الله الزهري عن أبيه عبد الرحمن عن إبراهيم الحربي قال: ما أنشدت بيتًا قط إلا قرأت بعده {قل هو الله أحد} ثلاثًا.
وفي السير أن أبا إسحاق الحربي لما دخل على إسماعيل القاضي بادر أبو عمر محمد بن يوسف القاضي إلى نعله فأخذها فمسحها من الغبار فدعا له وقال: أعزل الله في الدنيا والآخرة، فلما توفي أبو عمر رؤي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك قال: أعزني الله في الدنيا والآخرة بدعوة الرجل الصالح.
وعن محمد بن أيوب العكبري قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول:
“ما تروحتُ ولا رُوِّحْتُ ولا أكلت من شيء في يوم مرتين، وقال: ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت به أحدًا، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين إن جاءتني بها أمي أو أختي وإلا بقيت جائعًا إلى الليلة الثانية، وأفنيت ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة إن جاءتني امرأتي وبناتي به وإلا بقيت جائعًا والآن ءاكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة وقام إفطاري في رمضان هذا بدرهم ودانقين ونصف.
يظهر لنا وبوضوح مدى الحالة التي وصل إليها الرجل من الزهد في المأكل والمشرب والملبس شأنه في ذلك شأن العبّاد الزاهدين والعلماء العاملين الذين صفت نفوسهم فسلكوا طريق المصطفى وكانت الدنيا منهم على القفا.
ثناء العلماء عليه:
كان إبراهيم الحربي رضي الله عنه إمامًا مبرزًا من أعيان السلف وعلى خطاهم ومسلكهم سليم الاعتقاد موحدًا منزهًا يعتقد في الله ما يليق به مجتنبًا البدع، سيفًا من سيوف الحق حربًا على المعتزلة وغيرهم من فئات الانحراف، رأسًا في الزهد إمامًا في العلم، بحرًا من بحور المعرفة له دراية واسعة في الفقه والحديث، بصيرًا بالأحكام حافظًا للأثر حجة في اللغة والأدب حتى غدا بالإضافة إلى ما جمع من علوم الشريعة علمًا من أعلام الأدب، وقد ترجم له ياقوت في “معجم الأدباء” عادا إياه من رؤوس اهل الأدب وقريض الشعر.
وكان قد طلب العلم فسمع من هوذه بن خليفة وعفان بن مسلم وعمر بن حفص واحمد بن حنبل وأحمد بن شبيب وغيرهم كثير، وحدث عنه خلق كثير منهم سليمان بن إسحاق الجلاب وأبو عمرو بن السماك وءاخرون، وقد أقر له معاصروه بالتبحر في العلم والمعرفة حتى جاء من جملة ثناء العلماء عليه عن الحافظ أبي بكر الخطيب في تاريخ بغداد قال: كان إمامًا في العلم رأسًا في الزهد عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، حافظًا للحديث مميزًا لعلله، قيمًا بالأدب جمّاعة للغة صنف غريب الحديث وكتبًا كثيرة.
وفي معجم الأدباء لياقوت قال: حدث عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي يقول لي: امضِ إلى إبراهيم الحربي يلق عليك الفرائض [علم المواريث] قال: ولما مات سعيد بن أحمد بن حنبل جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله فقام إليه عبد الله فقال: تقوم إليَّ قال: لم لا أقوم إليك والله لو رءاك أبي لقام إليك، وعن أبي الحسن الدارقطني أنه قال: إبراهيم الحربي ثقة وكان إمامًا يُقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه.
جملة من مصنفاته:
قال أبو الحسن الدارقطني: الحربي إمام مصنف عالم. وقال: بارعٌ في كل لم صدوق.
ولما كان الحربي قد حظي بمرتبة عالية من مراتب العلم والاجتهاد، وكان قد صنف في أغراض العلم، كان من البديهي أن تأتي كتبه صورة معبرة عن غزارة إدراكه وحسن ديباجته وجميل نظمه وسبكه إن في الفقه أو الحديث أو في أنواع الشعر وأغراض الأدب واللغة. وللحربي مصنفات عديدة نذكر منها هلى سبيل المثال:
“كتاب سجود القرءان”، “كتاب الهدايا والسنة فيها”، “كتاب مناسك الحج”، “مسانيد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم”، حيث أفرد لكل منهم مسندًا خاصًا بالإضافة إلى مسانيد أخرى منها “مسند أبو عمر” و”مسند عبد الله بن عمرو” و”مسند السائب” و”مسند المسور بن مخرمة” و”مسند الفقه والحديث والأدب” مما يشهد له بالفهم والتفوق. وما ذكرنا من مصنفاته أو مناقبه إلا نزرًا قليلاً وغيضًا من فيض.
وفاته:
توفي إبراهيم الحربي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين من ذي الحجة ودفن بداره في بغداد بشارع الأنبار. قال في “سير أعلام النبلاء”: مات إبراهيم الحربي ببغداد في داره يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين ومائتين. وقال المسعودي: كانت وفاة الحربي المحدث الفقيه في الجانب الغربي وله نيفٌ وثمانون سنة وكان صدوقًا عالمًا فصيحًا جوادًا عفيفًا زاهدًا عابدًا ناسكًا، وكان مع ذلك ضاحك السن ظريف الطبع، وقال: ولم يكن معه تكبر ولا تجبر قال: وكان الشيخ البغدادي في وقته ظريفهم وزاهدهم وناسكهم.
اللهم ارحم إبراهيم الحربي واجمعنا به في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.