الجمعة أبريل 19, 2024

أَهَميَّةُ عِلْمِ التَوْحِيْدِ:

يجبُ الاعتناءُ بمعرفةِ عقيدةِ الفرقةِ الناجيةِ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ الذينَ هُمُ السَّوادُ الأعظمُ، وهُمُ المعنيونَ بحديثِ سيِّدِنا رسولِ اللهِ : ((وَإِنَّ هذِهِ المِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ: ثنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ))([1]) ووردَ بلفظٍ آخرَ وفيه: ((كُلُّهُم فِيْ الْنَّارِ إلَّا السَّوَادُ الأَعْظَمُ))([2]) وأوردَهُ الترمذيُّ بلفظِ: ((مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي))([3]) وكلُّ هذه الرواياتِ بمعنًى، لأنَّ جمهورَ الأمَّةِ أيْ معظَمَهُم في أصولِ العقيدةِ لم يخرجُوا عمَّا كانَ عليهِ الرسولُ وأصحابُهُ.

وعلمُ التوحيدِ أصلُهُ كانَ موجودًا بينَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم متوفرًا بينهم، والكلامُ فيه بالرَدِّ على أهلِ البدعِ بَدَأَ في عصرِ الصحابَةِ رضوانُ اللهِ عليهِم، فقد ردَّ ابنُ عباسٍ وابنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهم على المعتزِلَةِ([4])، وقد قَطَعَ عليٌّ  الخوارجَ ([5]) بالحُجَّةِ، وقَطَعَ دَهْريًّا ([6]) وأقامَ الحجَّةَ على أربعينَ رجلًا من اليهودِ المجسمةِ([7]) بكلامٍ نفيسٍ مُطْنَبٍ؛ وقَطَعَ الحَبْرُ ابنُ عباسٍ  الخوارجَ بالحجَّةِ أيضًا([8])، ومِنَ التابعينَ ردَّ على الخوارجِ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ  وقَطَعَ أصحابَ شَوْذَب الخَارجِيِّ([9])، وألّفَ رسالةً في الردِّ على المعتزلةِ وهيَ رسالةٌ وجيزةٌ ([10])، وقطعَ ربيعةُ الرأيِ شيخُ الإمامِ مالكٍ غَيلانَ ابنَ مسلمٍ أبا مروان القدريَّ. وقطعَ إياسُ بنُ معاويةَ القاضي القدريةَ([11])، وكذلكَ اشتغلَ بهذا العلمِ الحسنُ البِصريُّ وهو من أكابرِ التابعينَ ([12]).

وقد ألَّفَ الإمامُ أبو حنيفةَ  الذي هو أحدُ أعلامِ الأئمةِ في وَسَطِ القرونِ الثلاثةِ الفاضِلةِ -أعني عصرَ السلفِ -كُتُبَهُ “الفقهَ الأكبرَ”، و”الرسالةَ”، و”الفقهَ الأبسطَ”، و”العالمَ والمتعلمَ” و”الوصيةَ” في علمِ التوحيدِ. وكذلك صنَّفَ الشافعيُّ  كتابَ “القياسِ” ردَّ فيه على مَنْ قالَ بقِدَمِ العالمِ مِنَ الملحدينَ، وكتابَ “الردِّ على البراهمةِ” وغيرَ ذلكَ. وكذلكَ مالكٌ  سُئِلَ عن مسائلَ في هذا العلمِ فأجابَ عنها بالطريقِ القويمِ وكذلكَ الإمامُ أحمدُ ([13])، وقد صنَّفَ سيِّدُ المحدّثينَ في زمانِهِ محمّدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ  المتوفَى سنةَ 256هـ كتابَ “خلقِ أفعالِ العبادِ” في الردِّ على المعتزلةِ، وصنّفَ المحدثُ نُعيمُ بنُ حمادٍ الخُزاعيُّ([14]) وهو من أقرانِ الإمامِ أحمدَ كتابًا في الردِّ على الجهميةِ وغيرِهم، وصنّفَ المحدّثُ محمّدُ بنُ أسلمَ الطُّوسِيُّ ([15]) وهو من أقرانِ الإمامِ أحمدَ أيضًا في الردِّ على الجهميةِ، وقد ردَّ على المعتزلةِ فأجادَ بالتأليفِ ثلاثةٌ مِنْ علماءِ السنّةِ من أقرانِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ : الحارثُ المحاسِبيُّ ([16])، والحسينُ الكَرابيسيُّ ([17])، وعبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كُلَّاب ([18]).

ولما اشتدَّ الأمرُ على المسلمينَ مِنْ كَثرةِ أهلِ الباطلِ البِدعيِّينَ وإذاعتِهِم شُبَهَهُم بينَهم، اشتغَلَ الإمامُ الأشعريُّ([19]) ومَنْ أخذَ منهُ العلمَ وسارَ على دربِهِ مِنْ علماءِ المسلمينَ الذينَ صارَ يشارُ إليهمْ بالبنانِ في نُصْرَةِ مذهبِ أهلِ السنةِ، وكذلكَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ ([20]) فقد قاما بتدوينِ علمِ التوحيدِ بقواعدِهِ ومسائِلِه، فقرَّرَا عقائدَ أهلِ السنةِ وأوضحَاها إيضاحًا تامًّا معَ الردِّ على المخالفينَ مِنْ مُعتَزِلَةٍ ومشبِّهَةٍ وغيرِهِم، فصارَ كلُّ أهلِ السنةِ بعدَ هذينِ الإمامينِ يُنسَبُونَ إلى أحدِهما، فيُقالُ لبعضِ أهلِ السنةِ أشعريَّةٌ ولبعضٍ ماتريديَّةٌ، وكلا الفريقينِ من أهلِ السنةِ ليسَ بينهما اختلافٌ في أصولِ العقائدِ، إنما بينهما اختلافٌ في بعضِ فروعِ العقائدِ، وهذا لا يُعابانِ به، لأَنَّ مثلَ هذا حصلَ في الصّحَابةِ([21]).



([1]) سنن أبي داوود كتاب السنة باب شرح السنة.

 ([2]) مسند أبي يعلى حميد الطويل عن أنس بن مالك.

([3]) سنن الترمذي كتاب الإيمان عن رسول الله باب ما جاء في افتراق هذه الأمة.

([4]) في أيام الحسن البصري t حصل خلاف واصل بن عطاء في مسألة القدر وفي المنزلة بين المنزلتين (أي قولهم إن مرتكب الكبيرة من عصاة المسلمين لا هو مؤمن ولا كافر بل في منزلة بين المنزلتين لكنه مخلد في النار) وانضم إليه عمرو بن عبيد في مسألة القدر وفي المنزلة بين المنزلتين فطردهما الحسن من مجلسه فاعتزلا إلى سارية من سواري مسجد البصرة فقيل لهما ولأتباعهما “معتزلة” لاعتزالهم قول الأمة في دعواهما الفاسدة (أن الفاسق من أمة محمد لا مؤمن ولا كافر) وهم القدرية حيث إن واصل بن عطاء كفر في باب القدر بقوله بوجود خالقين لأعمال العباد سوى الله وكذلك افترقت المعتزلة عشرين فرقة.اهـ الفرق بين الفرق للبغدادي ص 97- 102.

 ([5]) وهم أول فرقة شذت عن معتقد أهل السنة والجماعة بعد وفاة النبي وظهرت هذه الفرقة بعد حادثة التحكيم والتي حصلت بين علي ومعاوية بن أبي سفيان وقد كفروا عليا ومن معه ومعاوية ومن معه والحكمين وكل من خالفهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب t في النهروان وفرَّق جمعهم وبقي منهم القليل ومنهم عبد الرحمن بن ملجم قاتلُ علي، وقد افترقوا بعد ذلك إلى عشرين فرقة كل فرقة تكفر الأخرى.اهـ الفرق بين الفرق ص 55.

([6])  الدهرية هم القائلون بأن العالم وجد صدفة أو بفعل الطبيعة وأنه ليس له خالق والعياذ بالله تعالى.اهـ  الفرق بين الفرق ص 104.

([7]) حليه الأولياء ج 1 ص 100.

 ([8]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر ج 14 ص 295.

([9]) هو بسطام اليشكري المعروف بشوذب ثائر جبار خرج في أيام عمر بن عبد العزيز بمكان قريب من الكوفة وكان أصحابه ثمانين رجلا، وفي زمن يزيد بن عبد الملك جهز مسلمة بن عبد الملك جيشا فيه عشرة آلاف مقاتل بقيادة سعيد بن عمرو الحرشي فأحاطوا بشوذب ثم قتلوه سنة مائة وواحد. اهـ الأعلام للزركلي ج 2 ص 51.

  ([10])تاريخ الأمم والملوك المعروف بتاريخ الطبري للإمام الطبري ج 6 ص 556.

 ([11]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمزي ج 2 ص 367.

 ([12]) سير أعلام النبلاء للذهبي ج 5 ص 456.

([13])كما يظهر ذلك جليا في رده على المعنزلة في أثناء حبس المعتصم له.اهـ حلية الأولياء لأبي نعيم ج 9 ص 204.

([14]) نُعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي، أبو عبد الله المروزي، نزيل مصر، صدوق، فقيه عارف بالفرائض، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين على الصحيح.اهـ تقريب التهذيب لابن حجر ج 2 ص 249.

([15]) الإمام محمد بن أسلم الطوسي الزاهد صاحب المسند وكان يشبه في وقته بابن المبارك، رحل وسمع الحديث وروى عنه ابن خزيمة وقال: لم تر عيناي مثله، مات سنة 242هـ.اهـ شذرات الذهب لابن العماد ج 3 ص 193.

 ([16])الحارث بن أسد أبو عبد اللـه المحاسبي، أحد من اجتمع له الزهد والمعرفة بعلم الظاهر والباطن، حدث عن يزيد ابن هارون، وروى عنه أبو العباس بن مسروق الطوسي. وله كتب كثيرة في الزهد والرد على المخالفين من المعتزلة والرافضة وغيرهما، وكتبه كثيرة الفوائد توفي سنة 250هـ اهـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 8 ص 202.

 ([17]) الحسين بن علي الكرابيسي الفقيه، سمع إسحاق الأزرق ومعن بن عيسى، وشبابة، وطبقتهم. وعنه عبيد بن محمد البزار، ومحمد بن علي، وله تصانيف وتوفي في سنة ست وخمسين ومائتين.اهـ لسان الميزان لابن حجر ج 2 ص 371.

  ([18])رأس المتكلمين بالبصرة، عبدالله بن سعيد بن كلاب القطان صاحب التصانيف في الرد على المعتزلة، وكان يلقب كلابا لأنه كان يجر الخصم إلى نفسه ببيانه. وكان حيا قبل 240هـ.اهـ سير أعلام النبلاء للذهبي ج 9 ص 431.

([19]) هو الإمام علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري وهو من ذرية أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله ﷺ ولد بالبصرة سنة مائتين وثلاثين وتوفي ببغداد سنة ثلاثمائة وأربع وعشرين وكان عجيبا في الذكاء وقوة الفهم وتبحره في العلم وكان في بداية أمره قد درس الاعتزال على الجبائي ثم ترك مذهبهم الفاسد ووطن نفسه لنصرة مذهب أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين حتى صار منارة لطلاب العلم من شتى البلاد وغدا أهل السنة يتبعونه ويناضلون بأقواله. اهـ انظر تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري لابن عساكر  ص 35 ص 38.

([20])  هو الإمام محمد بن محمد الماتريدي ولد بعد النصف الأخير من القرن الثالث، وكان على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ودرس الفقه والقرآن الكريم وعلوم أهل السنة والجماعة وبرز في نصرة مذهب أهل السنة في بلاد ما وراء النهر حتى كثر طلابه في تلك البلاد وصار هو والإمام أبو الحسن الأشعري إمامي أهل السنة والجماعة توفي سنة ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين .اهـ انظر الجواهر المضية في طبقات الحنفية لعبد القادر القرشي ص 360 361.

([21]) كاختلاف بعض الصحابة في مسئلة رؤية النبي ربَّه بقلبه في الإسراء والمعراج فبعضهم نفى هذا وبعضهم أثبته، انظر ص 126   من هذا الكتاب.