الدَّرْسُ الْخَامِسُ وَالثَّلاثُونَ
أَقْسَامُ الْمُعَذَّبِينَ فِى النَّارِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمُلْكِ ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْكَهْفِ ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾.
إِنَّ الإِسْلامَ هُوَ الدِّينُ الَّذِى رَضِيَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ هَذَا الدِّينَ الْحَنِيفَ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِى هِىَ دَارُ السَّلامِ جَزَاءً لَهُمْ وَتَرْغِيبًا، وَتَوَعَّدَ مَنْ كَفَرَ بِهِ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا جَزَاءً لَهُمْ وَتَرْهِيبًا.
رَوَى الْبُخَارِىُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِىءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْت وَيَا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْت فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ اهـ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ]. وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ يُؤْخَذُ مِنَ الآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَمْرَانِ الأَوَّلُ أَنَّ النَّارَ قَدْ خُلِقَتْ وَأُعِدَّتْ وَسُعِّرَتْ وَالثَّانِى أَنَّ الْكُفَّارَ أَهْلَ النَّارِ خَالِدُونَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِلَى أَبَدِ الآبَادِ فَلا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَلْ هِىَ مَقَرُّهُمْ وَمُسْتَقَرُّهُمْ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا وَذَلِكَ جَزَاءٌ لَهُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ.
وَالْكَافِرُ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَهُوَ فِى الْبَرْزَخِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ غَافِرٍ ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ يُعَذَّبُ وَهُوَ فِى الْبَرْزَخِ بِنَظَرِهِ لِمَقْعَدِهِ مِنَ النَّارِ مَرَّةً فِى الصَّبَاحِ وَمَرَّةً فِى الْمَسَاءِ وَهُوَ يُعَذَّبُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُسَاقُ إِلَى النَّارِ، قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ وَنَارُ جَهَنَّمَ هِىَ أَعْظَمُ نَارٍ خَلَقَهَا اللَّهُ، فَأَقْوَى نَارٍ فِى الدُّنْيَا هِىَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ الرَّسُولُ ﷺ نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ اهـ رَوَاهُ الْحَاكِمُ [فِى الْمُسْتَدْرَكِ].
وَرُوِىَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ قَالَ إِذَا أُلْقِىَ الرَّجُلُ فِى النَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنْتَهَى حَتَّى يَبْلُغَ قَعْرَهَا ثُمَّ تَجِيشُ بِهِ جَهَنَّمُ فَتَرْفَعُهُ إِلَى أَعْلَى جَهَنَّمَ وَمَا عَلَى عِظَامِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ فَتَضْرِبُهُ الْمَلائِكَةُ بِالْمَقَامِعِ فَيَهْوِى بِهَا إِلَى قَعْرِهَا فَلا يَزَالُ كَذَلِكَ اهـ أَوْ كَمَا قَالَ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِىُّ [فِى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ].
وَقَالَ كَعْبُ الأَحْبَارِ وَالَّذِى نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ لَوْ كُنْتَ بِالْمَشْرِقِ وَالنَّارُ بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ كُشِفَ عَنْهَا لَخَرَجَ دِمَاغُكَ مِنْ مَنْخِرَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا، يَا قَوْمُ هَلْ بِهَذَا قَرَارٌ أَمْ لَكُمْ عَلَى هَذَا صَبْرٌ، يَا قَوْمُ طَاعَةُ اللَّهِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ فَأَطِيعُوهُ اهـ [ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِىُّ فِى التَّذْكِرَةِ].
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ أَهْلِ النَّارِ يَكُونُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَفِى النَّارِ يَكُونُ جَسَدُ الْكَافِرِ أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنْ جَسَدِهِ وَهُوَ فِى الدُّنْيَا فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ ضِرْسُ الْكَافِرِ أَوْ نَابُ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلاثٍ اهـ [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَكَمَا أَنَّ فِى الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ كَذَلِكَ إِنَّ فِى النَّارِ دَرَكَاتٍ وَيُقَالُ أَيْضًا دَرَجَاتٌ وَذَلِكَ حَسَبَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ وَالْمُنَافِقُونَ هُمْ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَهَذَا الْمَكَانُ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ لا يَصِلُهُ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَقَعْرُ جَهَنَّمَ مَسَافَةُ سَبْعِينَ عَامًا فِى النُّزُولِ، قَالَ ﷺ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا اهـ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ [في السُّنَنِ] وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَظُنُّ فِيهَا سُوءًا وَهِىَ فِى الْحَقِيقَةِ تَسْتَوْجِبُ نُزُولَهُ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ الَّذِى هُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ.
أَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ فَبَعْضُهُمْ يَقَعُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَالْبَعْضُ الآخَرُ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُمْ فَيُنْجِيهِمْ مِنْهَا كَتَارِكِ الصَّلاةِ الَّذِى تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِى سُورَةِ الْمَاعُون ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ وَهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ صَلاتَهُمْ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلاةِ الأُخْرَى بِغَيْرِ عُذْرٍ. قَالَ ﷺ فِى وَعِيدِ تَارِكِ الصَّلاةِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ اهـ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ [فِى مُسْنَدِهِ] فَتَارِكُ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ فِى النَّارِ بِعَدْلِ اللَّهِ فَإِذَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ بِمَعَاصِيهِ فَإِنَّهُ لا يَخْلُدُ فِيهَا بَلْ إِنَّهُ يَتَعَذَّبُ فِيهَا لِفَتْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُهُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِى يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَكُونُونَ فِى النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا ثُمَّ يُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَقُولُونَ مَا نَرَى مَا كُنْتُمْ تُخَالِفُونَا فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ نَفَعَكُمْ فَلا يَبْقَى مُوَحِّدٌ إِلَّا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [سُورَةَ الْحِجْرِ/2] [رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مَحْرُومُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ فِى الدُّنْيَا شَمَلَتِ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَلَكِنَّهَا فِى الآخِرَةِ خَاصَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا الشِّرْكَ وَمَاتُوا مُؤْمِنِينَ.
فَاحْرِصْ أَخِى الْمُسْلِمَ دَائِمًا عَلَى أَدَاءِ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَعَلَى اجْتِنَابِ مَا نَهَاكَ اللَّهُ عَنْهُ وَلا تَسْتَنْزِلْ غَضَبَ اللَّهِ وَسَخَطَهُ وَاجْعَلْ هَوَاكَ تَبَعًا لِشَرْعِ اللَّهِ وَاعْمَلْ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ الْكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّازِعَاتِ ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى﴾.
اللَّهُمَّ ءَاتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا.
وَسُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.