السبت سبتمبر 7, 2024

أقوال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
(ت 241هـ)

هذا الإمام أحمد رضي الله عنه يقول بتنزيه الله عن الجسمية وصفات المخلوقات، وهو الذي افتُري عليه كثيرًا وادّعى كثير من المجسّمة أنهم على مذهبه وهو منهم بريء، فمذهب الإمام أحمد ليس مذهب التجسيم بحال من الأحوال.

قال أبو الفضل عبد الواحد التميميّ الحنبلي(ت 410هـ)([1]): «وأنكر ـ أي الإمام أحمد ـ على مَن يقول بالجسم، وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على كلّ ذي طول وعرض وسَمْك وتركيب وصورة وتأليف، والله تعالى خارج عن ذلك كلّه، فلم يجُزْ أن يسمّى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبَطَلَ» اهـ.

قوله: «وأنكر على مَن يقول بالجسم» أي أنكر الإمام أحمد رضي الله عنه على مَن وصف الله بالجسم، فهذا تصريح من الإمام أحمد رضي الله عنه في تنـزيهه لله عن هذه الأشياء الستة لأنها من لوازم الجسمية، فنزّه الله تعالى عن الطُّول والعَرْض والسَّمْك والتركيب والصورة والتأليف، وهذا الذي قال به الأشاعرة والماتريدية وهم المتَّبعون للإمام أحمد وغيره من السلف الصالح في أصول المعتقد.

وأما قوله: «إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة» فمعناه أن أسماء الأشياء تُعرف إما من طريق اللغة وإما من الشرع، فهناك أشياء عُرفت أسماؤها من اللغة كالرجل والفرس، وأشياء عُرفت أسماؤها من طريق الشرع مثل الصلاة الشرعية وزكاة الفِطْر. والجسم في اللغة يُطلَق على ما له طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله لا يُوصَف بشىء من ذلك وإلّا لكان مشابهًا لخلقه، وذلك ضدّ قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، ثم لو كان الله جسمًا ذا طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف لاحتاج لمن خصَّصَه بذلك الطول وذلك العرض وذلك السَّمك وذلك التركيب وتلك الصورة، والمحتاج لا يصح في العقل أن يكون إلهًا، فمعنى الجسم لا يجوز وصف الله به شرعًا ولا عقلًا ولا لغة. ثم إن لفظ الجسم لم يرد في الشرع إطلاقه عليه سبحانه، ومن المقرَّر عند علماء الكلام أنه لا يُسمَّى الله تبارك وتعالى إلا بالوارد من نصّ قرءاني، أو نص حديثي ثابت، أو بإجماع كما ذكر ذلك إمام أهل السّنة أبو الحسن الأشعريّ رضي الله عنه([2]) وغيره «ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه ﷺ أو أجمعت عليه الأمة» اهـ. فبَطَل إطلاق الجسم على الله تعالى، بل نقل صاحب الخصال([3])   من الحنابلة عن الإمام أَحمد نفسه «تكفير مَن قال: الله جسم لا كالأجسام» كما ذكر ذلك المحدّث الأصوليّ بدر الدين الزركشيّ([4])، وقال بعد ذكر قول الإمام أحمد رضي الله عنه: «ونقل عن بعض الأشعرية أنه ـ يعني المجسّم ـ يفسّق وهذا النقل عن الأشعرية ليس بصحيح» اهـ.

وأما قول الإمام أحمد رضي الله عنه: «وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم» فيفهم من قوله: «وضعوا» أنَّ مدلول كلمة (الجسم) مما يُعرَفُ بالنقل، وقد بلغنا بطريقة الأئمة الأثبات من المتكلمين واللغويين أن هذا الاسم أي الجسم إنما يُطلق على ذي طول وعرض وسَمْك وتركيب وصورة وتأليف لأن اللغة العربية ليست شيئًا بالمواضعة إنما هي بالوحي، قال الله تعالى: وَعَلَّمَ ءادَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا {31} (البقرة)، فمعنى «أطلقوا» أو «وضعوا» نقلوا إلينا، ليس معناه اجتمعوا وقرّروا أن يطلقوا هذا الاسم (أي الجسم) على صاحب هذه الأشياء الستة، فمنَ الأنبياء عليهم السلام تعلَّم البشرُ اللغات.

وقول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: «والله تعالى خارج عن ذلك كلّه» أي كلّ هذا يستحيل على الله لأن الله لا يشبه شيئًا من خلقه،
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، ثم لو كان الله جسمًا كبيرًا أو صغيرًا، كثيفًا كالبشر والحجر أو لطيفًا كالنور والهواء لاحتاج لمن خصّصه بهذه الصورة والكيفية، والمحتاج لا يصحّ في العقل أن يكون إلهًا.

وقول الإمام أحمد: «فلم يجُزْ أن يسمّى جسمًا، لخروجه ـ أي الله ـ عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل» أي لم يأتِ في الشريعة إطلاق الجسم على الله، بل الذي جاء في الشريعة تنـزيه الله عن الجسم وعن صفات الجسم، ومَن أطلق ذلك ـ أي الجسم ـ على الله فكلامه باطل مخالف لعقيدة المسلمين، فيلزمه ترك هذا والرجوع إلى الإسلام بالنطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقال التميميّ أيضًا: «وكان يقول ـ أي الإمام أحمد رضي الله عنه ـ: إن لله تعالى يدين…» ثم قال: «ليستا بجارحتين وليستا بمركّبتين ولا جسم ولا جنس من الأجسام ولا من جنس المحدود والتركيب والأبعاض والجوارح ولا يُقاس على ذلك، ولا مرفق ولا عضد ولا في ما يقتضي ذلك من إطلاق قولهم يد إلا ما نطق القرآن به، أو صحّت عن رسول الله ﷺ السُنَّة فيه»([5]) اهـ. واليد إذا أضيفت إلى الله فلا يراد بها الجارحة التي للإنسان ونحوه، قال الحافظ البيهقيّ رحمه الله([6]): «وأن يده ليست بجارحة» اهـ. وقال أيضًا في كتابه الأسماء والصفات ما نصه([7]): «وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: ليس في ما يضاف إلى الله من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف، وقد روي: «وكِلْتا يديهِ يمينٌ»([8])، وليس معنى اليد عندنا الجارحة، إنما هو صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيّفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهو مذهب أهل السّنة والجماعة» اهـ. فتبيَّن بذلك أن إطلاق اليد على الله إنما هو على معنى الصفة لا على معنى الجارجة، ومن ثَمَّ قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه([9]): «ولكن يده صفته بلا كيف» اهـ.

وقال الإمام أحمد أيضًا([10]): «ولا يجوز أن يقال: استوى بمماسّة ولا بملاقاة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، والله لم يلحقه تغيُّرٌ ولا تبدُّلٌ، ولا يلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش» اهـ. وهو مأخوذ من قول الإمام عليّ رضي الله عنه([11]): «قد كان ـ الله ـ ولا مكان، وهو الآن على ما كان» اهـ. أي أن الله غنيّ عن العالمين، مستغنٍ عن كل ما سواه أزلًا وأبدًا، فلا يحتاج إلى مكان يقوم به أو شىء يحلّ به أو إلى جهة، فلو كان له مكان لكان له أمثال وأبعاد طول وعرض وعمق، ومن كان كذلك كان محدَثًا محتاجًا لمن حدَّه بهذا الطول وبهذا العرض وبهذا العمق، أما الله تعالى فهو موجود قبل المكان بلا مكان وهو الذي خلق المكان فلا يحتاج إليه.

وقال التميميّ([12]): «جملة اعتقاد أحمد رحمه الله في الذي كان يذهب إليه أنَّ الله واحد لا من عدد، لا يجوز عليه التجزُّؤ ولا القسمة» اهـ.

وفي كتاب مناقب أحمد للبيهقيّ: «قال: وأنبأنا الحاكم قال: حدّثنا أبو عمرو السمّاك قال: حدّثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت عمي أبا
عبد الله يعني الإمام أحمد يقول: احتجّوا عليَّ يومئذ ـ يعني يوم نُوْظِرَ في دار أمير المؤمنين ـ فقالوا: تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك؟ فقلت: إنما هو الثواب، قال تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} (الفجر) إنما تأتي قدرته، وإنما القرآن أمثال ومواعظ» اهـ.

وقال ابن كثير([13]): «قال البيهقي: هذا إسناد صحيح لا غبار عليه» اهـ.

وقال البيهقي أيضًا: «وفي كلام الإمام أحمد دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السُّنَّة انتقالًا من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته، فعبّر أي الله عن إظهاره إيّاها بمجيئه، وهذا الذي أجابهم به أبو عبد الله ـ أي الإمام أحمد ـ لا يهتدي إليه إلا الحذّاق من أهل العلم، المنـزّهون عن التشبيه» انتهى ما ذكره البيهقيّ في مناقب أحمد([14]).

وقال رضي الله عنه في آية الاستواء([15]): «استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر» اهـ.

وقال عليه رضوان الله أيضًا([16]): «مهما تصوّرت ببالك فالله بخلاف ذلك» اهـ. أي لا يشبه ذلك الذي تصوّرته ببالك.

[1] ) اعتقاد الإمام المبجّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أبو الفضل عبد الواحد التميميّ، 1/298.

     أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث، البغداديّ الحنبليّ ت 410هـ، رئيس الحنابلة، حدّث عن أبيه وعبد الله بن إسحاق الخراسانيّ وأبي بكر النجاد وأحمد بن كامل وعدة. وروى عنه الخطيب وعمر بن عبيد الله بن عمر المقرئ وجماعة. قال الخطيب: «كان صدوقًا، دفن إلى جنب قبر الإمام أحمد، وحدّثني أبي ـ وكان ممن مشى في جنازته ـ أنه صلى عليه نحو من خمسين ألفًا رحمه الله» اهـ. تاريخ بغداد، الخطيب البغداديّ، 11/14.

[2] ) مجرد مقالات الأشعري، ابن فورك، ص42.

 

[3] ) صاحب الخصال هو أبو محمد البغدادي كما رواه الزركشي في تشنيف المسامع، 4/684، وهو والد ابن أبي يعلى مؤلف كتاب طبقات الحنابلة، ويقول الابن في تعداد كتب أبيه «صاحب الخصال»، والوالد هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن أحمد بن الفراء.

 

[4] ) تشنيف المسامع، الزركشيّ، 4/684.

    محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله بدر الدين، ت 794هـ، عالم بفقه الشافعية والأصول. تركي الأصل، مصري المولد والوفاة. له تصانيف كثيرة في عدة فنون منها: «لقطة العجلان» في أصول الفقه، و«البحر المحيط» ثلاثة مجلدات في أصول الفقه. الأعلام، الزركلي، 6/60، 61. 

[5] ) اعتقاد الإمام المبجّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أبو الفضل عبد الواحد التميميّ، 1/294.

 

[6] ) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، البيهقيّ، 1/117.

 

[7] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص515.

 

[8] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الإمام العادل وعقوبة الجائر، 6/7.

 

[9] ) شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص67.

 

[10] ) اعتقاد الإمام المبجّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أبو الفضل عبد الواحد التميميّ، 1/297.

 

[11] ) الفرق بين الفرق، البغدادي، ص333.

 

[12] ) اعتقاد الإمام المبجّل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، أبو الفضل عبد الواحد التميميّ، 1/293.

 

[13] ) البداية والنهاية، ابن كثير، 10/361.

 

[14] ) تعليق الكوثريّ على السيف الصقيل، السبكيّ، ص 120، 121.

 

[15] ) دفع شبه من شبّه وتمرّد، الحصنيّ، ص17.

 

[16] ) العقيدة برواية أبي بكر الخلال، أحمد بن حنبل، 1/116.