الخميس نوفمبر 21, 2024

الدرس السابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أعمالنا أعلام الثواب والعقاب

درسٌ ألقاه المحدث الفقيه الأصوليّ الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى في بيروت وهو في بيان أن أعمالَنا أعلامُ الثواب والعقاب وفي بعض مخالفات ابن تيمية للإمام أحمد. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل والثناء الحسن صلوات الله البَرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وسلامهُ عليهم أجمعين.

أما بعد فقد رُوّينا بالإسناد المتصل في كتاب القدر للبيهقي رحمه الله تعالى من طريق الشريف العثمانيّ قال سمعتُ الإمام أبا الطيب سهل بن محمّد يقول أعمالنا أعلام الثواب والعقاب اهـ هذا الإمام سهل بن محمّد أبو الطيب ذكرَ الحاكمُ في مستدركه أنه هو مجدد القرن الرابع بعد أن ذكر أنَّ مجدد القرن الأول عمر بن عبد العزيز لأنه كان على رأس المائة الأولى ومجدد القرن لا بد أن يكون حيًّا على رأس المائة وذكر أنَّ مجدد القرن الثاني كان الإمام الشافعيَّ محمدَ بنَ إدريس وأن مجدد القرن الثالث الإمامُ الفقيه الشافعيُّ بنُ سُرَيج رضي الله عن الجميع ثم قال في الإمام أبي الطيب سهل بن محمّد بن سليمان:

والرابع المشهور سهلُ محمّد

 

أضحى إمامًا عند كل مُوَحّدِ اهـ.

كان سهلُ بن محمّد رضي الله عنه من الأشعرية، الأشعريةُ هم والماتريدية أهل السنة والجماعة فلا يتجاوز الحقُّ في المعتقدات هاتين الفرقتين لأن هذين الإمامين الأشعريَّ والماتريديَّ اعتنيا بتلخيص ما كان عليه السلف من المعتقد كما أنَّ كثيرًا من الأعلام في الحديث والفقه والتقوى والورع كانوا من الأشاعرة يعرف ذلك من يعرف الحقيقة ومن يجهلها جهل ذلك.

المشبهةُ يعادون الأشعريةَ قديمًا وحديثًا لأن مشربهم بعيد عن مشرب الأشعرية، الأشعريةُ ينزّهونَ اللهَ عن مشابهة الخلق بأيّ وجهٍ من الوجوه أما المشبهة فأُشرِبُوا حبَّ التشبيه، يقرأون قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ([i]) لفظًا ويخالفونه معنى. إنما ءامَنَ بهذه الآية مَن نزَّهَ الله عن مشابهة الخلق بكل الوجوه كما قال أبو جعفر الطحاويُّ ومَن وصفَ الله بمعنى من معاني البشر فقط كفر اهـ هؤلاء ءامَنُوا بقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أمَّا الذين يقولون إنَّ الله في جهة كذا ويعتقدون مُقتَضَى ذلك فهؤلاء ما ءامَنُوا بها كذلك الذين يقولون إنَّ الله استوى على عرشه بمعنى جلسَ ثم يُتبِعُونَ ذلك بكلمةِ لا كجلوسنا، هؤلاء لا ينفعهم قولُهم لا كجلوسنا شيئًا، هم شبَّهوا بقولهم إنَّ الله جلس على العرش، هذا عين التشبيه، فبعد هذا لا ينفعهم قولهم لكن لا كجلوسنا لأنَّ الجلوس في اللغة العربية معروف معلومٌ ما هو على اختلاف كيفياته. فالجلوس معنًى من معاني البشر على أيّ كيفية كان، ومن اعتقد في الله ذلك فقد شبّهه وينطبق عليه قول أبي جعفر الطحاوي ومن وصفَ الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر اهـ.

أما الذين يقولون لله يد لا كأيدينا ويعنون بهذا الكلام أن لله يدًا بمعنى الصفة لا بمعنى الجسم والجارحة فهذا كلامٌ صحيح لأن الله تعالى أضاف لنفسهِ اليدَ والعينَ والوجهَ إضافةَ صفاتٍ فمن اعتقد أن الله تبارك وتعالى منزّهٌ عن الصورة والشكل والأعضاء فقال بناءً على هذا الاعتقاد لله يدٌ لا كأيدينا لله عينٌ لا كأعيننا لله وجهٌ لا كوجوهنا فهو على صواب.

أما الرِّجلُ ما وردَ على أنه صفة لله بل ورد على معنًى ءاخرَ وهو جزءٌ من خلقه، يُقال في لغة العرب رِجلٌ من جراء أي فوجٌ من جراد، فالحديث الذي ورد فيهِ ذِكرُ الرجل مضافًا إلى الله، جاء فيه أنّ الله تبارك وتعالى يملأ يوم القيامة جهنّم بفوج من خلقه كانوا من أهلها في عِلم الله تعالى لأنَّ أهل النار لا يدخلون النارَ دفعةً واحدةً كلُّهم، لا بل يدخل فوج ثم بعد ذلك فوج ثم بعد ذلك فوج فالفوج الأخير من خلقه الذين هم حصَّةُ جهنم عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: يُقال لجهنَّمَ هل امتلأتِ فتقولُ هل من مَزيد فيضعُ الجبّارُ رِجْلَهُ فيها فينزوي بعضُها إلى بعضٍ فتقول قط قط([ii]) اهـ رواه البخاريُّ أي اكتفيتُ اكتفيتُ معناه وجدتُ مِلْئي وجدتُ ما يملؤني. فرِجْلُهُ في هذا الحديث معناه الفوجُ الأخير الذي يُقدِّمُهُم للنار، تقول العرب رجلٌ من جراد أي فوج من جراد. أما مَن توهَّم من هذا الحديث أن لله رجلاً بمعنى عضو فهو كافرٌ مشبهٌ لله بخلقه لا ينفعه انتسابه إلى الإسلام لأنّ مَنْ لم يعرف الله لم تصح عبادته.

كذلك رواية القدم فيضعُ فيها قدَمَهُ([iii]) اهـ معناه الشيء الذي يُقدّمُهُ اللهُ لجهنم. كذلك قال أئمة اللغةِ القدمُ ما قدَّمَهُ اللهُ تعالى للنار ليس بمعنى أنّ له عضوًا فيُقدّم هذا العضو للنار أي يدخلُه فيها، تنزَّهَ ربنا عن أن يكون له عضو.

وقول أهل الحق لله عينٌ ليس كأعيننا معناه أنها صفةٌ. عينُ الله صفةٌ من صفاته كما يقال علم الله قدرة الله، ليس بمعنى العضوِ والجارحة. مَن حملَهُ على معنى الجارحة فقد شبَّهَ الله بخلقه. ومن تمويه هؤلاء المجسمة المشبهةِ أنهم يقولون لفظًا لله عينٌ لا كأعيينا ويدٌ لا كأيدينا ووجهٌ لا كوجوهنا ويعتقدون الجوارحَ والأعضاءَ في الله، هؤلاء خالفَ كلامُهُم معتقَدَهم فلا ينفعهم قولهم هذا فلا يكونون مُنزّهينَ لله بل هم مُشبِّهُونَ لله، فيدخلون تحت هذه الجملة التي نقلها أبو جعفر الطحاويُّ رحمه الله عن أهل السنة والجماعة الذين منهم أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسفَ القاضي يعقوبُ بن إبراهيمَ الأنصاريّ ومحمدُ بنُ الحسن الشيبانيّ.

فالأشعريةُ مُعتقدُهُم معتقدُ السلف هو أن الله تعالى منزّه عن الجوارح والأعضاء والحدود والغايات والأركان.

وقد حدَث في عصرنا هذا مؤلفاتٌ والعياذ بالله تَسوقُ الناس إلى اعتقاد الحدّ لله تعالى بالعبارة الصريحةِ تنطق بأن الله تعالى حدًّا فمن لم يؤمن أنَّ له حدًّا عندهم ليس مسلمًا. إلى هذا الحد وصلوا. والحدُّ عن الله منفيٌّ على لسان السلف كما أنه منفيٌّ بقول الله تعالى: ﴿ليسَ كمِثلِهِ شيءٌ﴾ لأن كلَّ شيءٍ من الأجرامِ له حدٌّ.

فالله تعالى لو كان له حدٌّ لكان له أمثالٌ لا تُحصر لكان العرشُ مِثلاً له ولكان الإنسانُ مِثلًا له وكذلك البهائم والأحجار والأشجار والأرض والسموات والنجوم والكواكب لأن كلَّ هذه الأشياءِ لها حدٌّ فلو كان الله له حدٌّ لكان له أمثالٌ لا تُحْصَى ولا تُحصَرُ ولا تُعَدُّ فيناقض ذلك قولَه تعالى: ﴿ليسَ كمثلِهِ شيءٌ﴾. هو الله تبارك وتعالى نفَى عن نفسه أن يكون له مِثلٌ على الإطلاق لا مثلٌ واحدٌ ولا أمثال كثيرٌ. نفَى عن نفسه ذلك على الإطلاق. هؤلاء لفساد أذهانهم يقيسون الخالقَ على المخلوق. على زعمهم الشيءُ الموجودُ لا بد له من حَدٍّ لذاته فقاسوا الخالق على المخلوق فجعلوا له حدًّا وهم في ذلك اقْتَدَوا بأسلافهم كابن تيمية ومن كان على شاكلته وهو أي ابنُ تيمية اقتدى بمن قبله من المجسمة المنتسبة للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

الإمام أحمد نفسُهُ نقلَ عنه أبو الفضل التميميُّ الذي هو رئيس الحنابلة ببغداد في كتابه الذي سمّاه اعتقاد الإمام المبجل أحمد بن حنبل نقل عنه عبارةً صريحة في نفيِ الحدّ عن الله. هذا أبو الفضل التميميّ قبل ابن تيمية بزمان وهو من رؤوس الحنابلة ومن كبارهم. لكن في عصر أبي الفضل التميميّ وقبله بقليل وبعده كان أناسٌ ينتسبون للإمام أحمد بن حنبل ويخالفونه في المعتقد. يُثبتون لله الحدَّ. ابن تيمية لَحِقَ هؤلاء لم يلحق بأحمد ولا بالذين كانوا على طريقته بل انتسب انتسابًا إلى أحمدَ من غير موافقةٍ له في المعتقدِ بل وفي الأعمال. خالفه في أشياءَ كثيرةٍ في نحو ست وثلاثين مسئلةً من جملتها إنكارُ التوسل برسول الله بعد موته بل وفِي حال حياته إلا أن يكون بحضرته بأن يقول في حضور رسول الله في حياته قبل موته اللهم أسألُكَ بمحمّد أن تفعل بي كذا وكذا هذا هو الجائز عنده. عنده التوسلُ بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز إلا أن يتوسل الشخص به في وجهه في حياته بل يعتبر ذلك شركًا فخالف بهذا السلف والخلف.

الإمام أحمد بن حنبل ثبت عنه أنه قال عند القحط وعند انقطاع المطر يَتوسلُ الداعِي الذي يصلي صلاة الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم. هذا نصُّ أحمد. أحمدُ يرى هذا التوسل حسنًا وابنُ تيمية يراه حرامًا أو شركًا. انظروا إلى البُعد الذي بين الرَّجلين. ومع هذا يقول ابنُ تيمية عن الإمام أحمد من باب الاعتزاز به لأنه معروف بالعلم والورع والزهد والحديث يقول عنه إمامُ هدى، وهو حقًّا إمامُ هُدًى، لكن ابن تيمية لم يتبعه إنما انتسب إليه انتسابًا. الإمامُ أحمد يقول مطلوب شرعًا عند القحط أن يتوسل الداعي المستسقي أي الذي يطلب من الله المطرَ بالرسول هكذا كلام أحمد ثم جاء ابن تيمية بعده بقرون فخالفه وهو ينتسب إليه انتسابًا ويعتزّ به يقول إمامنا، وهذا من جملة تمويهات ابن تيمية أنه يقول عن أحمد بن حنبل إمامنا. إن كان أحمد بن حنبل إمامَهُ وهو تابع له لماذا يُحرّمُ أو يَجعَلُ شركًا أمرًا اعتبره أحمد بن حنبل سُنّة.

كذلك أحمد بن حنبل يَعتبر من حلف برسول الله فحَنِثَ أنَّ عليه كفارةً كما أن الذي يحلف بالله ثم يحنَث عليه كفارةٌ، أما ابن تيمية يجعل الحلف بغير الله شركًا مطلقًا كالذي يحلف بغير الله وهو يعظمه كتعظيم الله. هذا الأخير أي الحلف بغير الله مع تعظيمه كتعظيم الله هو المراد بحديث: من حلفَ بغير الله فقد أشرك([iv]) اهـ.

أي مَن حلف بغير الله معظِّمًا له كتعظيم الله فقد أشرك. أما الذي يحلف بغير الله على غير ذلك الوجه فليس حرامًا فضلاً عن أن يكون إشراكًا. هذا مع أنَّ المعروف في مذهب الإمام أحمد بن حنبل أن الحلفَ بغير الله حرام لكنه مع ذلك جعل الحلف بالرسول مُثْبِتًا للكفارة عند الحِنْث.

أما أبو حنيفة رحمه الله فهو كان يَكرَهُ أن يُقال أسألك بحقّ فلان، يقول اللهُ ليس لأحدٍ عليه حقٌّ أي أمرٌ يلزَمُهُ وهو مجبور عليه، والأمر كذلك الله تعالى ليس عليه لأحد مِن خَلْقِهِ دَينٌ ولا حقٌّ يلْزَمُهُ يكون هو إن تركه ظالمًا، الله منزه عن ذلك، إنما الله تبارك وتعالى تفضّل على عباده المؤمنين بأن يكرمَهم إنْ هم أدَّوا ما عليهم وسمَّى ذلك في بعض المواضع حقًّا، قال تعالى: ﴿وكانَ حقًّا علينا نَصْرُ الـمُؤمِنينَ([v]) أي إننا نتفضل ونتكرم عليهم ليس المعنى أنه فرض على الله، لا شيءَ واجبٌ على الله فرضٌ. فإذًا يرجع كلام أبي حنيفة في كراهيته لقول الرجل أسألك بحق فلان أن هذه العبارة بخصوصها توهم أنَّ على الله حقًّا لازمًا لغيره لا لأنه يمنع التوسل لأهل الفضل على الإطلاق. ثم غير أبي حنيفة يرى أن هذه العبارة لا تُوهم ذلك إنما معناها أسألك بما لفلان عندكَ من الفضل والكرامة أن تعطيَنا كذا وكذا، فالقول الصحيح الراجح هو أنه لا بأس بأن يقول المسلم اللهم إني أسألكَ بحقّ محمّد أو بحقّ إبراهيم أو بحقّ موسى أو بحقّ عليّ بن أبي طالب أو بحقّ أبي بكر أو نحوَ ذلك، هذا هو القول الصحيح الراجح، أما أبو حنيفة فرأيه أن قول اللهم إني أسألك بحق فلان يوهم أنّ على الله حقًّا لازمًا له لغيره من عباده ومن هنا كان يتحاشى هذه العبارة ويكرهها لكنها في الحقيقة ليست كذلك لأنه لا يُفهم منها عند المسلمين في أدعيتهم ذلك المعنى الذي حذره أبو حنيفة رحمه الله إنما يفهم منها أنَّ هذا سؤالٌ لله تبارك وتعالى بما لفلان من عباده الصالحين عنده من الكرامة والدرجة.

ولم يكن بين المسلمين إنكارٌ للتوسل بالرسول في حضوره وفي غير حضوره في حياته وبعد وفاته. المسلمونَ مُجمِعون على جواز ذلك، وعلى هذا كان أصحاب رسول الله.

كان الرسول ذات يوم جالسًا مع جمع من أصحابه فجاءه رجل أعمى فقال يا رسول الله ادعُ اللهَ لي أن يكشف عن بصري قال: إن شئتَ صبرتَ وإنْ شئتَ دعوتُ لك قال إنه شقَّ عليَّ ذهابُ بصري وليس لي قائدٌ قال له: ائتِ الميضأةَ أي محل الوضوء فتوضأ وصلِّ ركعتَين ثم قال اللهم إني أسألكَ وأتَوَجَّهُ إليك بنبيك محمّد نبيّ الرحمة يا محمدُ إني أتوجهُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لِتَقضيها فذهبَ الرجل ففعل ذلك أي خرج من عند الرسول فتوضأ وصلَّى ركعتَين ثم قال هذه الكلمات منَ التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم أي من سؤال الله تعالى برسوله محمّد صلى الله عليه وسلم ففُتِحَ بصَرُهُ فعاد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لم يفارق مجلسه، يقول راوي الحديث عثمانُ بن حُنَيف الذي كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأل هذا الأعمى قال فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخلَ علينا الرجل وقد أبصر([vi]) اهـ المعنى ظاهرٌ أن هذا الرجلَ ما قال هذه الكلمات في وجه رسول الله بل تغيب عنه فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم دخل. وهذا ينقض كلام ابن تيمية بأنه لا يجوز التوسل إلا بالحيّ الحاضر.

ثم هذا الصحابيُّ عثمان بن حُنيف بعد وفاة الرسول علَّمَ رجلاً كانت له حاجةٌ عند عثمانَ بنِ عفانَ أن يتوسل بهذا التوسل ففعل الرجل فقضَى له عثمانُ حاجَتَه. قبل أن يفعل هذا كان عثمان من شدة شغل باله كان ينسَى ما كان يلتفت إليه لكن ببركة هذا التوسل بالرسول حرَّكَ اللهُ عثمان بن عفان فقضى له حاجته، اعتنى به، اللهُ تعالى جعل قلبه يعطف على هذا الرجل فقضى له حاجته.

وهذا الحديث صحيح عند أهل الحديث لكنّ مُناصري ابنِ تيميةَ في عمًى عن هذا الفهم.

نعود إلى قول الإمام أبي الطيب سهل بن محمّد رضي الله عنه أعمالنا أعلام الثواب والعقاب([vii]) اهـ.

أعلام جمع عَلَم أي علامةٍ يعني أنَّ أعمالنا التي نعملُها من حسنات وسيئات أي من طاعات وقُرُبات لله تعالى ومن معاصٍ بما فيها من الكفر أعلامٌ أي علاماتٌ للثواب والعقاب وذلك بما أنه ثبت عند أهل الحق أن الله تبارك وتعالى شاءَ وعَلِمَ وقدَّر ما يفعل العباد، فمَن عَلِمَ اللهُ تعالى وشاء أن يكون طائعًا له فلا بُدَّ أن يكون كذلك ومن علم الله وشاء أن يكون عاصيًا له فلا بد أن يكون كذلك.

فإذًا الأعمالُ أي الطاعاتُ التي نفعلُها والمعاصي التي يفعلُها العبادُ علاماتٌ على أنَّ هذا يُثاب بالنعيم المقيم وهذا يُجازَى بالعذاب المقيم، فالثواب فضلٌ من الله والعقابُ عدلٌ منه ليس ظلمًا. وإنما قلنا إن هذه علامات لأن أعمال العباد هذه ليست بخلقهم بل يخلق الله، الله يخلقها فيهم، فالمؤمنون إيمانهم وطاعتهم بخلق الله فيهم، لم يخلق أحد منهم شيئًا من ذلك، والكافرون والعصاة لم يخلقوا شيئًا من ذنوبهم من كُفرٍ ومعاصٍ دون الكفر بل الله خالق ذلك كله. فإذًا هذه الأعمالُ علاماتٌ لكون هذا الفريق من أهل النعيم المقيم حيث تفضل عليه بأن وفّقَه للأعمال الصالحة أي للإيمان وما يتبعه وهو حصل للعباد بخلقه فالله تعالى هو الذي ألهمَ الطائعين الطاعات فعملوها فإذًا هم ليسوا مستوجبين على الله تعالى من باب الإيجاب اللزوميّ أن يعطيهم ذلك الثوابَ بل هو متفضلٌ عليهم بالثواب، كما أنه متفضل عليهم في الدنيا بخلق تلك الحسنات فيهم فله الفضل على عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، في الدنيا وفّقَهم وألهمهم هذه الطاعات وخلقها فيهم وفي الآخرة ءاتَاهُمْ فضلاً منه الثوابَ الجزيلَ، النعيمَ المقيم الذي لا ينفَذُ ولا ينقطعُ مع كونه ليس ملزَمًا بأن يعطيَهم الثوابَ على عمل هو خلقه فيهم.

وكذلك إذا عاقب أولئك العصاةَ على تلك الأعمالِ من كفر وما دونه في الآخرة لا يكون ظالمًا لهم، لا يُقال جارَ اللهُ عليهم لأن الله تبارك وتعالى تصرف في خلقِهِ الذي هو ملكُه. اللهُ مالكٌ حقيقيٌّ للعباد فأنَّى يكون ذلك ظلمًا وجورًا.

فهذا معنى قول أبي الطيب سهل بن محمّد أعمالُنا أعلامُ الثواب والعقابِ والحمدُ لله رب العالمين.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم

[i])) سورة الشورى/الآية 11.

[ii])) رواه البخاري في صحيحه بابُ قوله: ﴿وتَقُولُ هلْ من مَزيدٍ﴾.

[iii])) رواه البخاري في صحيحه بابُ قولِهِ: ﴿وتقُولُ هَلْ مِنْ مَزيدٍ﴾.

[iv])) رواه أبو داود في مسنده باب ذِكر الزَّجْرِ عن أنْ يحلِفَ المرءُ بشيءٍ سِوى اللهِ جلَّ وعلا.

[v])) سورة الروم/الآية 47.

[vi])) رواه الطبراني في معجميه الأكبر والأوسط باب ما أسْنَدَ عُثمانُ بنُ حُنيفٍ.

[vii])) رواه البيهقي في الاعتقاد والهداية عن أبي الطيب سهل بن محمّد باب القَول في خَلْقِ الأفعالِ، وفي القضاءِ والقدر بابُ ذِكرِ البيانِ أنْ ليسَ أحدٌ من بَني ءادَمَ إلا وقدْ كُتِبَ سعادَتُهُ وشَقاوَتُهُ.