يجب الحذر من بعض المفتريات التي تخالف الشرع الشريف، والتي انتشرت بين بعض العوام ممن لا تحقيق له في العلم ولا باع، والتي مع شهرتها وانتشارها بين العوام فهي قبيحة مردودة ولا يُتمسك بها، لأن ما خالف القرءان والسنة وإجماع الأمة فهو ضلال، وهل بعد كلام الله كلام؟!!
ومن ذلك ما يقوله بعض مدّعي حب النبي والتصوف، حيث يذكرون في مؤلفات وأوراق أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار لعتقه ثويبة، ولا يصح هذا ولا يعوّل عليه.
فقد ذكر البخاري عن عروة ما نصه [قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ قَالَ لَهُ مَاذَا لَقِيتَ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَمْ أَلقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ] اهـ..
كما هو واضح وجلي أن هذا ليس حديثًا نبويًا، وإنما خبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، لأنها ليست رؤيا نبي، ولأن العباس لم يعرض رؤياه على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يُبنى على ذلك حكم شرعي. ثم إنه ليس في النص المذكور الكلام عن التخفيف في نار جهنم، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ *} [سورة فاطر] .
قال القاضي عياض المالكي في «إكمال المُعلم بفوائد مسلم» [(408)]: «وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابًا من بعض» اهـ..
وكيف يزعم بعض الجهلة أن أبا لهب «يسقى في النار ماءً من بين إصبعيه كل يوم اثنين»، والله تعالى يقول {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [سورة الكهف] ، كيف يقولون هذا عن أبي لهب وهو الذي سب النبيَّ وءاذاه وهو الذي نزلت سورة قراءنية كاملة في ذمه، وهذا دليل على شدة كفره وعذابه، ولم يحصل أن نزلت سورة كاملة من أولها إلى آخرها في ذم كافر إلا فيه. بعد هذا لا يقبل من أحد أن يترك كلام الله وكلام رسوله ثم يتبع رؤيا منامية لا يبنى عليها حكم شرعي أصلاً.
ويكفينا في ردّ هذا التخريف والتحريف ءايات بيّنات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} [سورة البقرة] ، وكقوله تعالى {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *} [سورة الفرقان] ، وكقوله تعالى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *} [سورة الزخرف] ، ومنها قوله تعالى {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة] ، وقوله تعالى {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [سورة آل عمران] ، وقوله سبحانه {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة] ، وقوله تبارك وتعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [سورة النساء] ، وقوله جل جلاله {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [سورة المائدة] ، وقوله تعالى {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [سورة هود] ، وقوله تعالى {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [سورة الحج] ، وقوله تعالى {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [سورة فاطر] ، وقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ *} [سورة غافر] ، وقوله تعالى {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [سورة النبأ] ، وقوله تعالى {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُِولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [سورة الأعراف] ، وقوله تعالى {عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [سورة ص] ، وقوله تعالى {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ *} [سورة النحل] ، وقوله تعالى {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ *} [سورة الغاشية] ، وقوله تعالى {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا *إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا *} [سورة النبأ] ، وقوله تعالى {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ *يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ *} [سورة إبراهيم] ، وقوله تعالى {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [سورة محمد] ، وقوله تعالى {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [سورة الكهف] ، وقوله تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ *} [سورة الأعراف] .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأما الكافر فيُطعَم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له منها نصيب.
وممن رد هذه القصة الواهية الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري [(409)]، حيث يقول: «لكنه مخالف لظاهر القرءان قال الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [سورة الفرقان] ، وأجيب أولاً بأن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به وعلى تقدير أن يكون موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعدُ فلا يحتج به» اهـ.، ثم نقل عن القاضي عياض الإجماع على أن أعمال الكفار لا تنفعهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب وإن كان بعضهم أشد عذابًا من بعض ا.هـ.
وفي كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني ، مبيِّنًا أن الكافر لا ينتفع بالعمل الصالح في الآخرة، يقول[(410)]: «واستدل بهذا (لو يكتب ما المراد بهذا هنا) على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة وهو مردود بظاهر، قوله – تعالى – {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [سورة الفرقان] ، لا سيما والخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدّثه به وعلى تقدير أن يكون موصولا فلا يحتج به إذ هو رؤيا منام لا يثبت به حكم شرعي».
وبعدَ ءايات الله البينات الواضحات في بيان أن الكافر لا يخفف عنه العذاب بل يُضاعَف له، وبعد كلام العسقلاني والقسطلاني الذي مرّ ءانفًا والإجماع الذي نقله القاضي عياض، لا يلتفت بعد كل هذا إلى هذه القصة المخالفة للقرءان مخالفة ظاهرة وواضحة لا تشكل إلا على جاهل، ولا يهولنك يا طالب الحق أن تراها في أي كتابٍ كان أو تسمعها من أي شخص كان وإن تزيا بزي أهل العلم.
وإذا قيل لك هذه القصة صحيحة أو رواها فلان أو هي موجودة في بعض كتب الحديث فاثبت على الحق ولا تحد عنه واذكر ما قاله الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، ما نصه [وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصل الاسناد رد بأمورٍ، أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا، والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه] إ.هـ.
وقد ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يقبل تأويلا فهو باطل، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع وغيره، والخطيب والبغدادي أحد حفاظ الحديث السبعة الذين نوّه علماء الحديث في كتب المصطلح بهم وهم أصحاب الكتب الخمسة والبيهقي وهذا الخطيب البغدادي وهو مذكور في كتاب تدريب الراوي وغيره» اهـ.
قال الحافظ البيهقي والإمام الحافظ ابن الصلاح وجمهور علماء المصطلح إنّ الحديث الضعيف يروى في فضائل الأعمال والسِيَر والمغازي والتفسير، أما في العقائد والأحكام فلا، وقال الإمام أحمد: «إذا روينا الضعيف في الفضائل تساهلنا وأما في الأحكام فنتشدد».
وإذا قال قائل هذا الحديث إنما في فضائل الأعمال ومنها الاحتفال بذكرى مولد الرسول فنقول ما قاله الشيخ عبد الله الغماري في هذا الغمار: «ما يوجد في كتب المولد النبوي من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه فتحرم قراءة تلك الكتب ولا يقبل الاعتذار عنها بأنها في الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف أما الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا بل تحرم قراءته وروايته» ا.هـ، وهذا في الضعيف فكيف بالكلام المخالف لصريح القرءان وصحيح السنة وإجماع الأمة. فليتق الله امرؤ يحاول نشر هذه القصة ونحن ننصح كل من اعتقدها أو صدقها أن يرجع عن هذا الضلال المبين للحق والصراط المستقيم بالشهادتين لأنه كذّب الله تعالى بكلامه هذا.
ـ[408] إكمال المُعلم بفوائد مسلم (ج1/597).
ـ[409] شرح البخاري، المجلد التاسع كتاب النكاح باب الرضاع.
ـ[410] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1416هـ الجزء 11 كتاب النكاح ص379).