الخميس نوفمبر 21, 2024

أبو بكر بن فورَك رأس الأشاعرة وشيخ المتكلمين


ترجمته:
هو الإمام الصالح الأديب النحوي المتكلم أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك [ضبطها ابن خلكان والسيوطي وابن العماد وغيرهم بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء، أما الزبيدي فقد ضبطها بضم الفاء وفتحها] الأصبهاني. لم تذكر كتب التراجم شيئًا عن تاريخ مولده أو مكانه، وكل ما ذكر عنه أنه أقام مدة بالعراق يتلقى العلم على المذهب الشافعي في الفقه وعلى العقيدة الأشعرية في الأصول، ثم توجه بعد ذلك إلى الريّ فائتمرت له الفرقة الكرامية المبتدعة وسعت للإضرار به، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجه إليهم ففعل، وفي ذلك يقول الحافظ أبو عبد الله بن البَيِّع النيسابوري: “وتقدمنا إلى الأمير ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم والتمسنا منه المراسلة في توجهه إلى نيسابور ففعل، وورد نيسابور فبنى له الدار والمدرسة في خانكاه أبي الحسن البوشنجي”.

علمه:
سمع مسند أبي داود الطيالسي من عبد الله بن جعفر بن فارس، وسمع من ابن خرزاد الأهوازي وكثر سماعه في البصرة وبغداد، وأثنى عليه العديد من أهل العلم كالحافظ ابن البيّع النيسابوري الذي قال فيه: “أحيا الله به بلدنا أنواعًا من العلوم لما استوطنها، وظهرت بركته على جماعة من المتفقهة وتخرجوا به”.

كثرت مصنفاته في الأصول والفقه ومعاني القرءان حتى ناهزت المائة مصنف، وحدّث عنه البيهقي والقشيري وابن خلف والحاكم وءاخرون كُثر.

وفي “تبيين كذب المفتري” لمؤرخ الشام ابن عساكر الدمشقي ما نصه: “أخبرنا الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل في كتابه إليَّ من نيسابور قال: سمعت الشيخ أبا صالح أحمد بن عبد الله المؤذن يقول: كان الأستاذ أوحد وقته أبو علي الحسن بن علي الدقاق يعقد المجلس ويدعو للحاضرين والغائبين من أعيان البلد وأئمتهم فقيل له: قد نسيت ابن فورك ولن تدع له، فقال أبو علي: كيف أدعو له وكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أن يشفي علتي. وكان به وجع البطن تلك الليلة” اهـ.

ويكفيه مدحًا وبيانًا لفضله ما جاء في “طبقات الشافعية الكبرى” للتاج السبكي من قوله فيه: “الأستاذ أبو بكر الأنصاري الأصبهاني الإمام الجليل والحبر الذي لا يجارى فقهًا وأصولاً وكلامًا ووعظًا ونحوًا مع مهابة وجلالة وورع بالغ رفض الدنيا وراء ظهره، وعامل الله في سره وجهره وصمم على دينه.

مصمم ليس تلويه عواذله *** في الدين ثَبْتٌ قوي باسُهُ عَسِرُ

وذكر التاج في طبقاته على لسان الإمام سبب اشتغاله بعلم الكلام قوله: “كان سبب اشتغالي بعلم الكلام أني كنت بأصبهان أختلف إلى فقيه فسمعت أن الحجر يمين الله في الأرض [الحجر الأسود يمين الله في أرضه] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام، والمعنى أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستلام تشريفًا له كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك. وأضيف الحجر إلى الله إضافة تشريف وإكرام. كذا في صحيفة 108 ج2 من “إتحاف السادة المتقين” لمحمد مرتضى الزبيدي، فسألت ذلك الفقيه عن معناه فلم يُجب بجواب شاف، فأُرشدت إلى فلان من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف، فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به”.

محنته مع الكرامية [المشبهة]:
إن نصرة الإمام أبو بكر بن فورك للحق وشدته في النكير على أهل الضلال ولا سيما الكرامية قد دفع بهؤلاء إلى الافتراء عليه عند السلطان محمود بن سبكتكين فادعوا أنه أنكر رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته، فعظم الأمر عند السلطان فأمر بإحضاره وقال: “إن صح هذا منه لأقتلنه”. ولما حضر الإمام بين يديه ظهر كذب المفترين عليه وأن الإمام لا يقول إلا مقولة الأشاعرة، فأمر السلطان عندئذ بإعزازه وإكرامه وإرجاعه إلى وطنه معززًا.

ولما أيست الكرامية منه وعلمت أن الوشاية به لم تتم، وأم مكايدها وحيلها لن تؤت نتيجة، سعت إلى قتله فدفعت إليه من دس له السم فمات على أثره.

وأما ما ذكره ابن حزم في “النصائح” من أن ابن فورك قد قال بهذه المسئلة وأن السلطان ابن سبكتكين قد قتله بالسم لاجل ذلك، فقد بين التاج السبكي وغيره من الأشاعرة أن هذا كذب وافتراء عليه رضي الله عنه، فقال في الطبقات: “والمسئلة المشار إليها وهي انقطاع الرسالة بعد الموت مكذوبة قديمًا على الإمام أبي الحسن الأشعري نفسه. وقد مضى الكلام عليها في ترجمته. إذا عرفت هذا فاعلم أن أبا محمد بن حزم الظاهري ذكر في النصائح أن ابن سبكتكين قتل ابن فورك بقوله لهذه المسئلة ثم زعم ابن حزم أنها قول جميع الأشعرية، قلت وابن حزم لا يدري مذهب الأشعرية ولا يفرق بينهم وبين الجهمية لجهله بما يعتقدون، وقد حكى ابن الصلاح ما ذكره ابن حزم ثم قال: ليس الأمر كما زعم بل هو تشنيع على الأشعرية أثارته الكرامية فيما حكاه القشيري” اهـ.

وأما قول الذهبي الذي فيه أن السلطان قتله لأنه ثبت عليه مسئلة إنكاره لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رده التاج السبكي في الطبقات وبين أنه عار من الصحة فقال: “أما أن السلطان أمر بقتله فشفع إليه، إلى ءاخر الحكاية فأكذوبة سمجة ظاهرة الكذب من جهات متعددة منها أن ابن فورك لا يعتقد ما نقل عنه بل يكفّر قائله، فكيف يعترف على نفسه بما هو كفر. وإذا لم يعترف فكيف يأمر السلطان بقتله وهذا أبو القاسم القشيري أخص الناس بابن فورك فهل نقل هذه الواقعة؟ بل ذكر أن من عزا إلى الأشعرية هذه المسئلة فقد افترى عليهم وأنه لا يقول بها أحد منهم”.

مؤلفاته:
ذكرت المراجع أن مؤلفات الإمام ابن فورك قد بلغت قريب المائة مؤلف في الأصول والحديث والفقه وغيره. ونذكر من هذه المؤلفات: كتاب “مُشْكِل الحديث” وهو كتاب يتناول فيه عددًا من الأحاديث المتشابهة فيؤولها ويبين معانيها، كتاب “مشكل الآثار”، دقائق الأسرار، تفسير القرءان، شرح أوائل الأدلة، طبقات المتكلمين، وغير ذلك من المؤلفات القيّمة التي ألفها منتصرًا فيها للعقيدة الأشعرية.

وفاته:
مضى إلى مدينة غزنة بعد أن طُلب منه ذلك وناظر فيها كثيرًا، ثم عاد إلى نيسابور فسُمَّ في الطريق فمات ونقل إلى نيسابور ودفن بعدها في الحيرة، وهي محلة كبيرة في نيسابور غير الحيرة القريبة من مدينة الكوفة العراقية. وقبره ما زال إلى الآن يزار ويستسقى به ويستجاب الدعاء عنده. وكانت وفاته سنة أربعمائة وست للهجرة.