أبو بكر البيهقي الحافظ الفقيه صاحب المصنفات
ترجمته:
هو الإمام الكبير الفقيه الحافظ الأصولي النحرير الزاهد الورع الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخُسرَوْجردي [نسبة إلى خسروجرد القرية التي ولد فيها]. أخذ علم الأصول على مذهب الإمام الأشعري واشتغل بالتأليف فكثرت مصنفاته وصار أوحد زمانه في الحديث والفهم والقريحة والزهد.
ولد في شعبان سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين هجرية بقرية خُسروجرد وهي إحدى قرى ناحية بيهق التي قال فيها ياقوت الحموي: بيهق ناحية كبيرة وكورة واسعة كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وإحدى وعشرين قرية.
وقد نشأ الإمام البيهقي في زمن كثرت فيه المحن والفتن وابتلي به المسلمون بلاءً عظيمًا، وهاجم فيه ملك الروم بلاد الشام على حين غرّة. في هذه الأثناء دفع حب العلم بالبيهقي إلى السفر في طلبه، فقصد العراق ثم الحجاز والتقى بعدد من الأئمة والأعلام فأخذ عنهم صنوف العلوم الدينية. وقد ذكرت المراجع أنهم جاوزوا المائة شيخ كان أبرزهم: الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو إسحاق الإسفراييني، وأبو ذر الهروي، وأبو بكر بن فورك، وأبو بكر الطوسي، وأبو الطيب سهل بن محمد، وأبو منصور البغدادي وكثيرون غيرهم.
ثناء العلماء عليه:
قال ابن الجوزي فيه: “كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان وحسن التصنيف، وجمع علوم الحديث والأصول، وهو من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله”.
وفيه قال الإمام التاج السبكي ما نصه: “كان الإمام البيهقي أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين، والدعاة إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحرير، زاهد ورع، قانت لله، قائم بنصرة المذهب أصولاً وفروعًا، جبل من جبال العلم”.
ومنهم ياقوت الحموي الذي مدحه بقوله: “هو الإمام الحافظ الفقيه في أصول الدين الورع، أوحد الدهر في الحفظ والإتقان مع الدين المتين، من اجلّ أصحاب أبي عبد الله الحاكم والمكثرين عنه، ثم فاقه في فنون من العلم وتفرد بها”.
ومنهم ابن خلكان الذي قال فيه في كتابه “وفيات الأعيان” ما نصه: “الفقيه الشافعي الحافظ الكبير المشهور واحد زمانه، وفرد أقرانه في الفنون من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم”. ومدحه ابن عساكر الدمشقي بقوله: “كان رحمه الله على سيرة العلماء، قانعًا من الدنيا باليسير، متجملاً في زهده وورعه، وبقي كذلك إلى أن توفي رحمه الله بنيسابور”.
عقيدته:
لا شك أن الإمام البيهقي رحمه الله كان أشعري المعتقد، وذلك بشهادة أهل التحقيق من العلماء والمؤرخين، بالإضافة إلى مؤلفاته التي ضمنَّها بعض عقيدته ولا سيما كتابيه “الاعتقاد” و”الأسماء والصفات” حيث نلاحظ كلامه في تنزيه الله عن المكان، ففي “الأسماء والصفات” يقول ما نصه: استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه [أي عن الله تعالى] بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شي”. وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان. ويقول في الكتاب عينه تحت عنوان “ذكر الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى” ما نصه: “ومنها [المتعالي]… قال الحليمي: ومعناه المرتفع عن أن يجوز عليه ما يجوز على المحدثين من الأزواج والأولاد والجوارح والأعضاء واتخاذ السرير للجلوس عليه، والاحتجاب بالستور عن أن تنفذ الأبصار إليه، والانتقال من مكان إلى مكان، ونحو ذلك، فإن إثبات بعض هذه الأشياء يوجب النهاية، وبعضها يوجب الحاجة، وبعضها يوجب التغير والاستحالة. وشيء من ذلك غير لائق بالقديم ولا جائز عليه” اهـ.
وفي تنزيه الله تعالى عن الأعضاء والجسمية والحركة، يقول الإمام البيهقي في كتابه “الاعتقاد”: “وعرفنا بقوله عز وجل {ليس كمثله شيء} [سورة الشورى/ءاية:11] وبدلائل العقل أنها ليست بحدقة، وأن اليدين ليستا بجارحتين، وأن الوجه ليس بصورة، فإنها صفات ذات أثبتناها بالكتاب والسنة بلا تشبيه”. ويقول: “وفي الجملة يجب أن يُعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج، ولا استقرار في مكان، ولا مماسة لشيء من خلقه، ولكنه مستوٍ على عرشه كما أخبر بلا كيف، بلا أين، بائن من جميع خلقه، وأن إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأن نزوله ليس بنقلة، وأن نفسه ليس بجسم، وأن وجهه ليس بصورة، وأن يده ليست بجارحة، وأن عينه ليست بحدقة” اهـ.
وتحت باب “القول في خلق الأفعال” الموجود في كتاب “الاعتقاد” يذكر البيهقي أن كل ما يصدر من العباد من أفعال سواء كانت خيرًا أم شرًا، هي بخلق الله تعالى، يقول: “قال الله عز وجل: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء} [سورة غافر/ءاية:62] فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر، وقال: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء} [سورة الرعد/ءاية:16] فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها. وهذا خلاف الآية. ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الاعيان والناس خالقي الأفعال، لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه وأولى بصفة المدح من ربهم سبحانه، ولأن الله تعالى قال: {والله خلقكم وما تعملون} [سورة الصافات/ءاية:96] فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عز وجل” اهـ.
وقد أثبت في “الاعتقاد” رؤية الله تعالى بالعين في الآخرة بقوله: “ولا يجوز أن يكون الله سبحانه عنى بقوله: {إلى ربها ناظرة} [سورة القيامة/ءاية:23] نظر التفكر والاعتبار، لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار، لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار، لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير”. إلى أن قال: “ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجوه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه” اهـ.
مؤلفاته:
بعد أن جاب البيهقي أقطار الأرض طلبًا للعلم، ونهل من موارده المختلفة، عاد إلى بلده ليبدأ بتصنيف الكتب والرسائل التي بلغت ألف جزء، منها ما هو في العقائد والأصول، ومنها ما هو في الحديث وأصوله، ومنها ما جمع بين الحديث والفقه. ومن أبرز المؤلفات التي لا يستغنى عنها:
السنن الكبرى: وهو من أهم مؤلفاته، جمع فيه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وموقوفات الصحابة الشيء الكثير، فكان موسوعة كبرى في الحديث مرتبًا على أبواب الفقه. وقد شهد له الإمام السبكي بقوله: “ما صنف في علم الحديث مثله تهذيبًا وترتيبًا وجودة” اهـ. وقال فيه السخاوي: “فلا تعد عنه لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم كما قال ابن الصلاح في بابه مثله، ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن، ولكن قُدّمت تلك لتقدم مصنفيها وفاة ومزيد جلالتهم” اهـ.
معرفة السنن والآثار: جمع فيه الكثير من الأحكام المستندة إلى كتاب الله وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن فيه ما احتج به الشافعي رضي الله عنه في الأصول والفروع.
المبسوط: جمع فيه كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، بعدما وجده في الكتب من الاختلاف في نصوص الشافعي وإيراد الحكايات عنه دون تثبت.
الأسماء والصفات: ألفه لبيان أسماء الله تعالى وأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع.
الاعتقاد: وهو كتاب أودع فيه قصيدة أهل السنة والجماعة. وقد قال في مقدمته ما نصه: “هذا الذي أودعناه هذا الكتاب اعتقاد أهل السنة والجماعة وأقوالهم”.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: تكلم فيه على مولد النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته وشرف أصله وسيرته، ذاكرًا صفاته الخلقية والخلقية ومعجزاته.
“شعب الإيمان”، “مناقب الشافعي”: وفيه ذكر لمولده ونشأته وعلومه وتصانيفه وزهده وورعه ومكارم أخلاقه، كتاب “الدعوات الكبير”: وفيه جمع لما ورد من الأخبار في الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو علمها أحدًا من أصحابه، كتاب “الدعوات الصغير”، كتاب “الزهد الكبير”، “إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين”، “أحكام القرءان”، “المدخل إلى كتاب السنن”، “البعث والنشور”، “تخريج أحاديث الأم”، “الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة”، “جزء القراءة خلف الإمام”، “الآداب”، كتاب “الأربعين الكبرى”، كتاب “الأربعين الصغرى”، هذا بالإضافة إلى غيرها من المؤلفات في شتى العلوم مما يدل على مدى تبحره وسعة اطلاعه.
وفاته:
ذكر ياقوت الحموي في “معجم البلدان” أن الإمام البيهقي قد استدعي إلى نيسابور ليسمع منه كتاب “المعرفة”، فاستجاب لذلك وانتقل إليها سنة أربعمائة وإحدى وأربعين للهجرة ثم عاد إلى ناحيته فأقام بها إلى أن مات في جمادى الأولى من سنة أربعمائة وثمان وخمسين للهجرة.
وأما الذهبي فقال في “تذكرة الحفاظ”: “حضر في أواخر عمره من بيهق إلى نيسابور وحدَّث بكُتبه، ثم حضره الأجل في عاشر جمادى الأولى من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، فنقل في تابوت فدفن ببيهق”.
رحمه الله وأعلى مقامه ءامين.