الأحد ديسمبر 22, 2024

أبو إسحاق الشيرازي الصوفي العالم المصنف



ترجمته:
هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزأبادي الملقب جمال الدين، شيخ الإسلام صاحب التصانيف التي سارت كمسير الشمس، ولد بفيروزأباد وهي بلدة بفارس سنة ثلاثمائة وثلاث وتسعين للهجرة، ونشأ بها، ثم دخل شيراز وأخذ الفقه عن أبي عبد الله البيضاوي وعبد الوهاب بن محمد بن رامين. وتنقل بين المدن والبلدان، فدخل البصرة وقرأ الفقه بها على الجزري، ثم دخل بغداد سنة أربعمائة وخمس عشرة للهجرة وقرأ على القاضي أبي الطيب الطبري ولازمه ردحًا وصار أعظم أصحابه وأكثر المستفيدين منه، وناب عنه في مجلسه.

قرأ الأصول على أبي حاتم القزويني، والفقه على الزجاجي وءاخرين غيره، حتى صار أنظر أهل زمانه والمقدم على أقرانه، فانتشر صيته في البلاد، ورحل إليه طلبة العلم من كل حدب وصوب.

وقال حيدر بن محمود بن حيدر الشيرازي: سمعت الشيخ أبا إسحاق يقول: خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي، كما ذكر عنه أنه قال: كنتُ أعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت منه اخذت قياسًا ءاخر وهكذا، وكنت أعيد كل درس ألف مرة فإذا كان في المسئلة بيت يستشهد به حفظت القصيدة.


مناقبه:
وقد ورد في طبقات السبكي أكثر من قصة تظهر تواضعه، منها ما مفاده أن الشيخ قد خرج إلى خراسان مرورًا بنيسابور يصحبه جماعة من الفقهاء، فكان أهل البلاد يخرجون إليه رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويتمسحون به وبأردائه يريدون بذلك التبرك والاستشفاء لما يعلمون من مكانته وفضله وعلو مقامه، وجعل النساء الصوفيات يلقين بسُبحاتهن بين يديه يُردنَ أن يلمسها فيحصل لهن به البركة، فصار يمرها على يديه ويمسخ بها جسده وثيابه يقصد بذلك في حقهن ما قصدن في حقه.

ويذكر التاج السبكي في الطبقات في تتمة القصة أن الشيخ حين قدم مدينة بسطام، أتاه رأس الصوفية فيها الإمام السهلكي وخلفه خلقٌ من أصحاب التصوف، ولما دما منه الشيخ أبو إسحاق نزل عن دابته وقبَّل يد الشيخ، فرمى الشيخ أبو إسحاق بنفسه على رجله فقبّلها.

ومما يروى عن زهده وورعه ما رواه ابن السمعاني عن بعضهم أنه قال: دخل أبو إسحاق يومًا مسجدًا فنسي دينارًا، ثم ذكره فرجع فوجده، ففكر ثم قال: لعله وقع من غيري، فتركه في مكانه.

وكان يضرب فيه المثل في الفصاحة والبلاغة، كما عرف عنه الملاحة والظرافة، فكان يحكي الحكايات الحسنة والأشعار المليحة ويحفظ منها الكثير. وأُثِرَ عنه أيضًا إلى جانب ذلك أنه كان شاعرًا مجيدًا أكثر في أشعاره من الحكم والمواعظ والدعوة إلى التقوى والزهد ومما روي عنه من الشعر قوله:

سألتُ الناس عن خِلٍّ وفيٍّ *** فقالوا ما إلى هذا سبيلُ
تمسَّكْ إن ظفرت بذيلِ حُرٍّ *** فإن الحرَّ في الدنيا قليلُ

ومما يورى عنه أيضًا هذه الأبيات التي ذاعت بين الناس وانتشرت على كل شفة ولسان:

لبستُ ثوب الرجا والناس قد رقدوا *** وقمتُ أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا عُدَّتي في كل نائبة *** ومن عليه لكشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها *** مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ
وقد مددتُ يدي بالذل مبتهلاً *** إليك يا خير من مُدَّت إليه يدُ
فلا تردَّنَّها يا ربُ خائبةً *** فبحرُ جودِكَ يُروي كلَّ مَنْ يَرِدُ


مصنفاته:
كانت له المصنفات العديدة المفيدة، منها: “المهذب في المذهب”، و”اللمع” و”النكت” في الخلاف، و”التبصرة” و”المعونة” و”التلخيص”، و”التنبيه” في المذهب الشافعي، وهو أشهر كتاب له ألفه.

وقد ذكر بعض أصحاب الترجمة سبب تأليفه كتابه “المهذب” في مسائل الخلاف، فقد روى التاج السبكي أن الشيخ لما بلغه أن ابن الصباغ قال: إذا اصطلح الشافعي وأبو حنيفة ذهب علم أبي إسحاق الشيرازي، يعني بذلك أن علمه هو مسائل الخلاف بينهما، فصنف الشيخ حينئذ المهذب، حكى ذلك ابن سمرة في طبقات التمييز وذكر أن الشيخ صنّف المهذب مرارًا، فلما لم يوافق مقصوده رمى به في دجلة وأجمع رأيه على هذه النسخة المجمع عليها.


ثناء العلماء عليه:
قال التاج السبكي في ترجمته إياه مبينًا فضله ومقامه: “هو الشيخ الإمام شيخ الإسلام صاحب التصانيف التي سارت كمسير الشمس ودارت في الدنيا فما جحد فضلها إلا الذي يتخبطه الشيطان من المس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بلا نحله، وحلاوة تصانيف فكأنما عناها البحتري بقوله:

وإذا دجت أقلامه ثم انتحت *** برقت مصابيح الدجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده *** فتيا ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه *** هطالة وقليبها في قلبه
فالروض مختلف بحمرة نوره *** وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها *** شخص الحبيب بدا لعين محبه


يضيف التاج: “وكانت الطلبة ترحل من الغرب والشرق إليه والفتاوى تحمل من البر والبحر إلى بين يديه، والفقه تتلاطم أمواج بحاره ولا يستقر إلا لديه، ويتعاظم لابس شعاره إلا عليه، حتى ذكروا أنه كان يجري مجرى ابن سريج في تأصيل الفقه وتفريعه، ويحاكيه في انتشار الطلبة الربع العامر جميعه… وأما الجدل فكان ملكه الآخذ بزمامه، وإمامه إذا أتى كل واحد بإمامه، وبدر سمائه الذي لا يغتاله النقصان عند تمامه. وأما الورع المتين وسلوك سبيل المتقين والمشي على سنن السادة السالفين، فذلك أشهر من أن يذكره الذاكر” ا.هـ.

وممن مدحه من العلماء الإمام أبو بكر الشاشي الذي قال فيه: “الشيخ الشيرازي حجة الله على أئمة العصر” اهـ. وقال الإمام أبو الحسن الماوردي: “ما رأيت كأبي إسحاق، لو رءاه الشافعي لتجمّل به” اهـ، وقال الوزير عميد الدولة ابن جهير: “هو وحيد عصره وفريد دهره مستجاب الدعوة” اهـ.

وذكر محب الدين بن النجار في “تاريخ بغداد” فقال في حقه: “إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار من تلامذته” اهـ.


وفاته:
ذكر ابن خلكان في تاريخ وفاة الشيخ أبي إسحاق قولين: أحدهما أنه توفي ليلة الحادي والعشرين من جمادى الأولى، والثاني أنه في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، وذكر السمعاني القولين في كتابه “الذيل”. وأما التاج السبكي في الطبقات فقد ذكر تاريخ جمادى الآخرة. واتفق الكل أن وفاته كانت سنة أربعمائة وست وسبعين للهجرة.

ورثاه كثير من الخلق منهم ابن ناقياء الشاعر الذي قال فيه:

أجرى المدامع بالدم المهراقِ *** خطْبٌ أقام قيامة الأماق
ما لليالي لا تؤلف شملها *** بعد ابن بَجْدتها أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت مَنْ ذِكرُهُ *** حيٌّ على مر الليالي باقي