آيات قرآنية كريمة تدلُّ على تنـزيه
الله تعالى عن الجسمية زيادة على ما ذكره
الفخر الرازي رحمه الله
قال أبو حيّان الأندلسيّ في تفسيره البحر المحيط([1]) في شرح قوله تعالى وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ {60} (النحل): «أي الصفة العليا ـ من تنـزهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرةُ إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة ـ وهي ـ أي هذه الصفة العليا ـ الغِنَى عن العالمين، والنزاهة عن سمات المحدَثين» اهـ. نَبَّهَ أبو حيان على أن من جملة المحذورات التي وقع فيها الكفرة نسبة الصورة المخلوقة إلى الله، وهذا مستحيل عقلًا، إذ إنَّ الله هو المصور أي خالق الصور وكيفيّاتها، وأما الحديث الذي رواه مسلم([2]) من حديث أبي هريرة عن النّبي ﷺ: «إذا قاتلَ أحدُكُمْ أخاهُ فَلْيجتنبِ الوجهَ فإنَّ الله خلَقَ آدمَ على صورتِهِ»، وأن النبي ﷺ رأى شخصًا يلطم وجهَ عبدٍ فأنكر عليه وقال: «إنَّ الله خَلَقَ آدمَ على صورتِهِ» رواه البخاريّ([3])، فالمراد إنْ أُعيد الضمير إلى الأخ المضروب أو وجه العبد أن الله خلق آدم عليه السلام على صورة ذاك المضروب، وقيل: إنها تعود على آدم بمعنى أن الله تعالى خلق آدم على الصورة التي كان عليها ولم يردّده في أطوار الخِلقة كما خُلِقنا نحن من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وإن أُعيد الضمير إلى الله كان على معنى المِلك، فتكون الإضافة للتشريف، فكأنه قال:خلقه على الصورة التي هي مِلْك له مُشَرَّفَة عنده، وعلى هذا الوجه يحمل حديث([4]): «لا تُقَبّحُوا الوجهَ فإنَّ الله خَلَقَ آدمَ على صورةِ الرحمنِ»، ولا يَصحّ تفسير الحديث بما قال بعضهم من أن المراد أنّه خلقه على صفاته من السمع والبصر والعلم، إذ لا يصحّ عقلًا أن يتصف العبد بصفة من صفاته تعالى لأن الحادث لا يتصف بالأزليّ، فلا يكون الحادث أزليًّا ولا الأزليّ حادثًا.
قال القاضي عياض المالكي([5]): «واعلم أن هذا الحديث غلط فيه ابن قتيبة([6]) وأجراه على ظاهره وقال: فإن الله سبحانه له صورة لا كالصور، فأجرى الحديث على ظاهره، والذي قاله لا يخفى فساده لأن الصورة تفيد التركيب، وكل مركّب محدَث، والبارئ ـ سبحانه وتعالى ـ ليس بمحدَث فليس بمركّب، وما ليس بمركّب فليس بمصوَّر، وهذا من جنس قول المبتدعة: إن البارئ ـ جلّ وعزّ ـ جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السّنة قالوا: شىء لا كالأشياء، طردوا الاستعمال، فقالوا: جسم لا كالأجسام. وقال ابن قتيبة: صورة لا كالصور.
والفرق بين ما قلناه وما قالوه أن لفظة «شىء» لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه، وقولهم: جسم وصورة يتضمن التأليف والتركيب، وذلك دليل الحدوث.
وعجبًا لابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور، مع كون هذا الحديث يقتضي ظاهره عنده خلق آدم على صورته، فقد صارت على زعمه صورة البارئ ـ سبحانه ـ على صورة آدم ـ عليه السلام ـ على ظاهر هذا على أصله، فكيف يكون على صورة آدم ويقول: إنها لا كالصور، وهذا تناقض» اهـ.
ويقال له أيضًا: إن أردت بقولك: «صورة لا كالصور» أنه ليس بمؤلّف ولا مركّب فليس بصورة على الحقيقة، وأنت مثبت تسمية تفيد في اللغة معنى مستحيلًا عليه تعالى مع نفي ذلك.
وقال الحافظ ابن الجوزيّ([7]) رحمه الله في تفسيره زاد المسير([8]): «قال الله تعالى: فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ {74} (النحل)، أي لا تشبّهوه بخلقه لأنه لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شىء» اهـ.
وقال البيضاويّ([9]) في تفسيره([10]) في شرح قول الله تعالى: فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {74} (النحل): «فلا تجعلوا له مثلًا تشركونه به أو تقيسونه عليه فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فساد ما تعولون عليه من القياس على أن عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وعظم جرمكم في ما تفعلون. (وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو عليم للنهي، أو أنه يعلم كُنْهَ (حقيقة) الأشياء وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم دون نصه. ويجوز أن يراد ﱫﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭬﱪ (النحل) فإنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون» اهـ.
وقال الحافظ المجتهد ابن جرير الطبريّ([11]) رضي الله عنه: «قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ {148} (الأعراف)، وقال سبحانه: } فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ {88} (طه): «يُخبر جلَّ ذكره عنهم أنهم ضَلّوا بما لا يضلّ بمثله أهل العقل، وذلك أن الربَّ جلَّ جلاله الذي له مُلك السموات والأرض ومدبّر ذلك لا يجوز أن يكون جسدًا له خُوار» اهـ. والجسد هو جسم الإنسان والجن والملائكة كما قال الفيروزأبادي([12]) وغيره من أئمة اللغة، فبطل إطلاق الجسم على الله.
وقال القرطبيّ في تفسيره([13]): « فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ {74} (النحل)، أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص، أي لا تضربوا لله مَثَلًا يقتضي نقصًا وتشبيهًا بالخلق، و (الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جلَّ وتعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا» اهـ.
[1] ) تفسير البحر المحيط، أبو حيان، تفسير قول الله تعالى: وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ {60} (النحل)، 6/549.
[2] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن ضرب الوجه، 8/32.
[3] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، 8/62.
[4] ) المعجم الكبير، الطبراني، 12/329. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 8/22: « رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة وفيه ضعف» اهـ. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 6/45: «هذا إسنادٌ رواتُه ثقات» اهـ.
[5] ) إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، ص87، 88. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. النووي. 16/ 166.
[6] ) عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ النحويّ اللغويّ، ت 276هـ، قال البيهقيّ: «كان ابن قتيبة كرّاميًّا» اهـ. وقال الدارقطنيّ: «كان يميل إلى التشبيه» اهـ. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، السيوطيّ، 2/62.
[7] ) عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي أبو الفرج، ت 597هـ، علَّامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده ووفاته ببغداد ونسبته إلى مشرعة الجوز. له نحو ثلاثمائة مصنف منها: «الأذكياء وأخبارهم»، و«فنون الأفنان»، «تلبيس إبليس»، «الناسخ والمنسوخ»، و«زاد المسير في علم التفسير». الأعلام، الزركلي، 3/316.
[8] ) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزيّ، 4/471.
[9] ) عبد الله بن عمر بن محمد بن عليّ الشيرازيّ أبو سعيد أو أبو الخير ناصر الدين البيضاويّ، ت 685هـ، قاض مفسر، ولد في المدينة البيضاء بفارس ـ قرب شيرازـ وولي قضاء شيراز مدة، وصرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي فيها. من تصانيفه: «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» يعرف بتفسير البيضاويّ، و«منهاج الوصول إلى علم الأصول»، و«لب اللباب في علم الإعراب». بغية الوعاة، السيوطيّ، 1/286. الأعلام، الزركلي، 4/110.
[10] ) تفسير البيضاوي، البيضاوي، 3/411.
[11] ) جامع البيان في تفسير القرآن، الطبريّ، 6/62.
[12] ) القاموس المحيط، الفيروزأبادي، ص 348.
[13] ) تفسير القرطبيّ، القرطبي، 10/106.