السبت يوليو 27, 2024

يجب للأنبياء الصدق والأمانة

يجب للأنبياء الصدقُ ويستحيل عليهم الكذب، وصفة الصدق ملازمة للنبوة، فلا يمكن لأيّ نبيّ أن يصدر منه ما يخلّ بالمروءة كالكذب والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها من الصفات القبيحة، لأن هذه الصفات لا تليق برجل عاديّ، فكيف بنبيّ مقرّب أو رسول مكرّم، ولو جاز وقوع الكذب من الأنبياء لَـمَا كانت هناك ثقة في ما ينقلونه من أخبار الوحي أو يروونه عن الله عزَّ وجلَّ، لذلك نجد القرآن الكريم يحكم ذلك الحكم الفاصل في كل من يفتري على الله سبحانه وتعالى أو يكذب عليه وعلى أنبيائه الكرام، فيقول: {لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 44 – 48] تَقَوَّلَ أي تكلّف وأتى بقولٍ مِنْ قِبَلِ نفسه {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)}، أي: بالقوة والقدرة، أي: لأخذناه بالقوة، وعُبّر عن القوة والقدرة باليمين، لأن قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبيّ وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد([1]). وقال السدّيّ([2]): والحكم {بِالْيَمِينِ} بالحق. وقال أبو جعفر الطبريّ: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يُعاقَب كما يقول السلطان لمن يريد هوانه([3]): خذوا يديه، أي: لَأَمَرنا بالأخذِ بيدِهِ وبالَغْنَا في عقابه. {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)}، يعني: نِيَاطَ القلبِ، أي: لأهلكناه. وهو عرْق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس، {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}، أي: فما منكم قوم يحجزون عنه. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ}، يعني: القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48)}، أي: للخائفين الذين يخشون الله، وقيل: المراد محمد ﷺ، أي: هو تذكرة ورحمة ونجاة»([4]).اهـ.

ولقد اشتهر رسول الله ﷺ منذ الصغر بالصدق والأمانة، حتى كان المشركون يسمّونه الصادق الأمين، وهكذا كان النبيّ الكريم قبل البعثة عَلَمًا بين قريش في هاتين الصفتين الحميدتين.

وتجب لهم الأمانة، أي: أن يكون النبيّ أمينًا على الوحي، يبلّغ أوامر الله ونواهيه إلى عباده، دون زيادة أو نقصان، ودون تحريف أو تبديل أو تشويه ونحوه، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]، فلا يجوز عليهم ارتكاب الخيانة بقولٍ وحالٍ قبل النبوّة ولا بعدها، فإذا استنصحهم شخص لا يكذبون عليه فيوهمونه خلاف الحقيقة، وإذا وضع عندهم شخص وديعة لا يضيعونها ولا يُتلفونها ولا يَجْحَدونها.

فالأنبياء الكرام أدَّوُا الأمانة وبلّغوها على الوجه الأكمل، وقد ورد في القرآن الكريم أنَّ سيدنا هودًا عليه السلام قال لقومه ما أخبر الله به: {قالَ يا قَومِ لَيسَ بي سَفاهَةٌ وَلـكِنّي رَسولٌ مِن رَبِّ العالَمينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُم رِسالاتِ رَبّي وَأَنا لَكُم ناصِحٌ أَمينٌ} [الأعراف: 67، 68]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، أي: ليس بِـمُـتَّـهَم على الوحي والغيب، ويروى عن السيدة عائشة([5]) رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: «لو كان محمد ﷺ كاتـمًا شيئًا مما نزل عليه لكتم هذه الآية الكريمة القرآنية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ولكتم أيضًا الآيات التي فيها عتاب له ﷺ مثل قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى}»([6]).اهـ. قال أبو حيان في تفسير قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ}: «قال عليّ بن الحسين([7]): كان قد أوحى الله إليه أن زيدًا([8]) سيطلّقها – وهو وحي بغير القرآن – وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها. فلمَّا شكا زيد خُلُقَها وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} [الأحزاب: 37] على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها. وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولـمَّا علم من أنه سيطلقها، وخشي رسول الله ﷺ أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب([9]) بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال: {أَمْسِكْ} مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي: في كل حال. وهذا المروي عن علي بن الحسين هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين كالزهريّ([10])، وبكر بن العلاء([11])، والقشيريّ([12])، والقاضي أبي بكر بن العربيّ([13]) وغيرهم. والمراد بقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء، والنبيّ ﷺ معصوم في حركاته وسكناته ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة، ضربنا عنه صفحًا([14])»([15]). انتهى كلام أبي حيان، وسيأتي مزيد بيان لهذه الحادثة إن شاء الله.

فلا بدّ من توفّر صفة الأمانة في كل نبيّ ورسول، لتظلّ النفس مطمئنة إلى سلامة الوحي، وإلى أنّ كلَّ ما جاء به النبيّ ﷺ إنما هو من عند الله العزيز الحكيم، وصدق ربنا سبحانه حيث يقول: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

[1])) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، مولى بني مخزوم (ت104)هـ)، تابعي مفسر من أهل مكة. قال الذهبي: «شيخ القراء والمفسرين».اهـ. أخذ التفسير عن ابن عباس، قرأه عليه ثلاث مرات، يقف عند كل آية يسأله: فيم نزلت وكيف كانت؟ وتنقَّل في الأسفار، واستقر في الكوفة. وكان لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها. الأعلام، الزركلي، (5/278).

[2])) إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (ت128هـ)، تابعي حجازي الأصل، سكن الكوفة. قال فيه ابن تغري. بردي: «صاحب التفسير والمغازي والسير».اهـ. وكان إمامًا عارفًا بالوقائع وأيام الناس. الأعلام، الزركلي، (1/317).

[3])) «الهوان ضد الكرامة، رجل هيّن وأهون، ورجل مهين».اهـ. جمهرة اللغة، ابن دُرَيْد، مادة: (هـ و ن)، (2/996).

[4])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (18/275).

[5])) عائشة بنِتْ أبي بكر الصِّدِّيق، الصّدّيقة بنتْ الصّدّيق أم المؤمنين، زوج النَّبِـيِّ ﷺ، وأمها أم رومان بنت عامر بن عُوَيمر، تزوجها رسول الله ﷺ قبل الهجرة بسنتين وهي بكر، وكناها رسول الله ﷺ أم عَبْد الله بابن أختها عَبْد الله بن الزبير. توفيت عائشة سنة سبع وخمسين ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلًا، فدفنت وصلّى عليها أبو هريرة، ولـمَّا توفي النبي ﷺ كان عمرها ثمان عشرة سنة. أسد الغابة، ابن الأثير، (3/385).

[6])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (14/188).

[7])) هو: علي بن الحسين الأصغر المعروف بزين العابدين. تفسير البغوي، (6/355).

[8])) زيد بن حارثة بن شراحيل (أو شرحبيل) الكلبي صحابي. اختطف في الجاهلية صغيرًا واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي ﷺ حين تزوجها، فتبناه النبي – قبل نزول التحريم – وأعتقه وزوَّجه بنتَ عمته. واستمر الناس يسمونه (زيد بن محمد) حتى نزلت آية {ادْعُوهُمْ لِأَبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، وهو من أقدم الصحابة إسلامًا. وكان النبي ﷺ لا يبعثه في سرية إلا أمّره عليها، وكان يحبه ويقدمه. الأعلام، الزركلي، (3/57).

[9])) زينب بنِتْ جحش، زوج النَّبِـيِّ ﷺ، أخت عَبْد الله بن جحش، وهي أسدية من أسد بني خزيمة، وأمها بنِتْ عَبْد المطَّلِب، عمة النَّبِيّ ﷺ. وكانت قديمة الإسلام، ومن المهاجرات وكان قد تزوجها زيد بن حارثة، مولى النَّبِيّ ﷺ، ثم إن الله تعالى زوجها النَّبِيّ ﷺ، توفيت سنة عشرين، وهي أول امْرَأَة صنع لها النعش، ودُفنت بالبقيع. أسد الغابة، ابن الأثير، (3/358).

[10])) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهريّ (ت124هـ)، من بني زهرة بن كلاب من قريش، أبو بكر، أول من دوّن الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء. تابعيّ، من أهل المدينة. كان يحفظ ألفين ومائتي حديث. نزل الشام واستقر بها. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: «عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسُّنَّة الماضية منه».اهـ. قال ابن الجزري: «مات بشغب، آخر حد الحجاز وأول حد فلسطين».اهـ. الأعلام، الزركلي، (7/97).

[11])) بكر بن محمد بن العلاء بن محمد بن زياد (ت344هـ)، أبو الفضل القشيريّ، ويقال له: بكر بن العلاء، قاضٍ من علماء المالكية من أهل البصرة. انتقل إلى مصر قبل سنة 330هـ، وتوفي بها عن نيف وثمانين سنة. له كتب منها: (أحكام القرآن)، و(أصول الفقه)، و(القياس)، و(مسائل الخلاف)، و(الرد على القدرية). قال القاضي عياض: «ورأيت له كتاب (تنزيه الأنبياء عليهم السلام) وكتاب (ما في القرآن من دلائل النبوة)».اهـ. الأعلام، الزركلي، (2/69).

[12])) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوريّ القشيريّ (ت465هـ)، من بني قشير بن كعب، أبو القاسم، زين الإسلام شيخ خراسان في عصره زهدًا وعلمًا بالدين. كانت إقامته بنيسابور وتوفي فيها. من كتبه: (التيسير في التفسير) ويقال له: التفسير الكبير، و(لطائف الإشارات)، و(الرسالة القشيرية). تاريخ بغداد، الخطيب، (11/83)، طبقات الشافعية الكبرى، السبكيّ، (3/243 – 248). الأعلام، الزركلي، (4/57).

[13])) محمد بن عبد الله بن محمد المعافريّ الإشبيليّ المالكيّ (ت453هـ)، أبو بكر بن العربيّ، قاضٍ من حفاظ الحديث. ولد في إشبيلية ورحل إلى المشرق وبرع في الأدب، وصنف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ. قال ابن بشكوال: «ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها».اهـ. من كتبه: (العواصم من القواصم)، و(عارضة الأحوذي في شرح الترمذي)، و(أحكام القرآن)، و(القبس في شرح موطأ ابن أنس)، وهو غير الشيخ محيي الدين بن عربي. الأعلام، الزركلي، (6/230).

[14])) «أضربت عن هذا الأمر صفحًا إذا تركته، ثم قال: وأصفحت عن الأمر إصفاحًا مثل قولهم أضربت عنه إضرابًا».اهـ. جمهرة اللغة، ابن دُرَيْد، مادة: (ص ف ح)، (1/541).

[15])) البحر المحيط، أبو حيان، (8/481، 482).