السبت يوليو 27, 2024

يا أسفي على مَن حُرِمَ ثوابَها

لما أرادَ اللهُ إكرامَ نبيبِّنا محمدٍ بالإرسالِ جاءَهُ جبريلُ بالوحيِ بأمرٍ مِنَ اللهِ في يومِ الاثنينِ لخبرِ مسلمٍ: «وانزلَ عليَّ فيهِ» وقد وردَ في الحديثِ الذي رواهُ أحمدُ والبيهقيُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أنزلَ القرءانُ ليلةَ القدرِ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ مِنْ رمضانَ وأُنزلتِ التوراةُ لستِّ ليالٍ مضينَ مِنْ رمضانَ وأُنزلَ الإنجيلُ لثمانِ عشرةً ليلةً خلتْ مِنْ رمضان»، أي: أنزلَهُ جبريلُ أمينُ الوحيِ بأمرِ اللهِ دفعةً واحدةً إلى بيتِ العزةِ في السماءِ الأولى في شهرِ رمضانَ في ليلةِ القدرِ وكانت ليلةُ القدرِ في ذلكَ العامِ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ.

ثم مِنْ بيتِ العزةِ الذي هو في السماءِ الأولى صارَ جبريلُ يُنزلُ منهُ القرءانَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على حسبِ الأمرِ الإلهيِّ شيئًا فشيئًا حتى تكاملَ نزولُهُ على الرسولِ الأكرمِ صلى الله عليه وسلم في ظرفِ نحوِ ثلاثٍ وعشرينَ سنةً. روى النسائيُّ والحاكمُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنهُ قالَ: «أُنزلَ القرءانُ جملةً واحدةً إلى سماءِ الدنيا ليلةَ القدرِ ثم أُنزلَ بعدَ ذلك في عشرينَ سنةً».

وأولُ ما أُنزلَ عليهِ صلى الله عليه وسلم حينَ كانَ في غارِ حراءَ خمسُ ءاياتٍ فقط وهي أولُ سورةِ العلقِ ثمّ بعدَ ذلكَ أُنزلَ نُجومًا أي مُفرقًا. فإذا جبريلُ ءاخذٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لهُ: اقرأ فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بقارئٍ»، معناهُ: أنا ما تعلمتُ القراءةَ، معناهُ: أن لا أقرأُ المكتوبَ، هو جبريلُ يعلمُ ذلكَ لكن أرادَ بهذا تنبيهَ خاطرهِ إلى ما سيُلقى إليهِ أي يستعدُّ لهذا الذي يُلقى إليهِ. قالَ لهُ: اقرأُ، أملى عليهِ إملاءً شفويًّا من غيرِ كتابةٍ.

ثم قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «فأخذني فغطَّنِي حتى بلَغَ مِنِّي الجَهدَ، ثم أَرسلني، فقالَ: اقرأ فقلتُ: ما أنا بقارئٍ فأَخَذَنِي فَغَطَّني الثّانيةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجهدَ، ثمَّ أَرسلنِي، فقَالَ: اقرأ، فَقُلْتُ: مَا أَنا بِقارئٍ فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثّالثَةَ ثُمَّ أَرسَلَنِي فقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: 1 – 5]» كما جاءَ في البخاريّ.

وهكذا نزلت أولُ ءاياتٍ مِنْ هذا الكتابِ العظيمِ على النبيِّ الرؤوفِ الرحيمِ في هذا الشهرِ العظيمِ. وأشرقتِ الأرضُ بالنورِ والضياءِ وانقشعتْ ظلماتُ الجاهليةِ الجهلاءِ.

فيا لها مِنْ ليلةٍ عظيمةٍ، ما أبركَها وما أنورَها، وما أكثرَ خيراتِها وأغزرَ نفحاتِها. فيها تُفْتَحُ أبوابُ السمواتِ، وتتنزلُ الملائكةُ بالبركاتِ لـمَنْ أحياها من الأنامِ ومنعَ جفونَهُ لذيذَ المنامِ. فمَنْ قامَ ليلَها متعرضًا لها فقد حازَ الخيرَ أجمعَهُ، ويا أسفي على مَنْ حُرِمَ ثوابَها بنومٍ أو لهوٍ، فقد ضَيَّعَ أيامَ عمرِهِ سُدًى، ألا وإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يحثُّ أصحابَهُ على قيامِ ليلةِ القدرِ، وجعلَ ثمرةَ هذا القيامِ غفرانَ الذنوبِ فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ» رواهُ البخاريُّ.

ما أعظمها من نعمةٍ نعمةُ نزولِ القرءانُ بشهرِ رمضانَ قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: 185]، ومِنْ يومِ ذاكَ أصبحَ شهرُ رمضانَ هو شهرَ القرءانِ.

اللَّهُم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء همومنا وغمومنا

ونور أبصارنا وهدايتنا في الدنيا والآخرة

اللَّهُمَّ ذكّرنا منه ما نَسينا، وعلّمنا منه ما جهلنا

اللَّهُمَّ ارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك

عنا ءاناء الليل وأطراف النهار