الأحد نوفمبر 9, 2025

قال الله تعالى:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}
[التوبة: 84]

هذه الآية نزلت لمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، فتصوّر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عبد الله بن أبي بن سلول وهو يعلم كفره، والحق فيها أن النبي صلوات ربي وسلامه عليه كان يظنه مسلمًا حين صلى عليه، خاصة أن عبد الله بن أبي المنافق لجأ إلى الخداع في مرض موته فطلب قميص النبي صلى الله عليه وسلم ليكفن به، وأظهر الندم، وكان يخاطبه بـ يا نبي الله وهو عليه الصلاة والسلام مأمور بأن يقبل من الناس ظواهرهم، فأردنا أن نفصّل الكلام في مختلف جوانب هذه المسألة، فنكشف أولاً عن انقسام الناس في روايات هذه القصة ثم نورد النّقول عن المحققين من العلماء في توضيح ما أشكل منها ثم نبيّن خطورة هذا التصوّر الذي انتشر وذاع، ولا ندري كيف انتشر مع ما بينّه الحفاظ والمفسرون في كتبهم في شأنها؟!

فالناس في الأخبار الواردة في قصة عبد الله بن أُبي كحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه فلمّا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَبْتُ إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا، كذا وكذا، وكذا أعدّد عليه قوله فتبسّم رسول الله عليه السلام وقال أخِّر عني يا عمر فلمّا أكثرت عليه قال إني خيرت فاخترت ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له زدت عليها قال فصلّى عليه»، الناس افترقوا أربعة أقسام:

القسم الأول: أنكروا صحة بعض ما ورد تنزيهًا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يُعتَقَد فيه ما لا يجوز، ومنهم:

1 – الغزالي في المستصفي قال: الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح.

2 – إمام الحرمين في مختصره قال: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في البرهان: لا يصححه أهل الحديث.

3 – أبو بكر الباقلاني في التقريب قال: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها.

4 – الداودي الشارح قال([1]): هذا الحديث غير محفوظ.

والسبب في إنكارهم صحته كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «ما تقرر عندهم مما قدمناه وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل أول على التسوية لما يقتضيه سياق القصة وحمل السبعين على المبالغة… إلخ».

وفي حاشية العطار على شرح الجلال على جمع الجوامع/ مسألة المفاهيم المخالفة ما نصه([2]): «وقال الغزالي في المنخول إنّ ما نقل في الاستغفار كذبٌ قطعًا إذ الغرض منه التّناهي في تحقيق اليأس من المغفرة فكيف يُظَنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ذهول عنه. اهـ.

فهؤلاء ذهبوا إلى هذا بسبب ما أشكل عليهم في هذه الأخبار فلم يقولوا بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ختم الحافظ بحثه هذا بقوله([3]): «وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنُّه بأن قوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) نزل مع قوله: (استغفر لهم) أي نزلت الآية كاملة لأنه لو فرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة وهي صريحة – أي لو كان نزول الآيتين معًا – في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي – لأنه يكون انكشف الغطاء وعلم النبي يقينًا بكفر ابن أبي بن سلول – وإلا فإذا فرض ما حررته أن هذا القدر نزل متراخيًا عن صدر الآية ارتفع الإشكال». اهـ.

القسم الثاني: أخذوا الروايات الصحيحة وتنبهوا لتلك الإشكالات فقالوا:

لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عرف يقينًا كفر عبد الله بن أبي ابن سلول ويستغفر له [لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعًا وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}]. اهـ.

ما بين قوسين نقلًا عن الفتح من كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني([4]) ثم نقل([5]) منه عن ابن المنير وغيره: [لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا الإسلام لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا وهذا جواب جيد]. اهـ.

وقال في خاتمة البحث ما نصه([6]): [فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدد صحيح وكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم متمسكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه فلله الحمد على ما أَلهَمَ وعَلم]. اهـ.

ذلك أن الذي يمنع من الاستغفار للكافر الأصلي والمنافق (ولكل من عُلِمَ موتُه على الكفر، حتى المرتد) إن علمنا نفاقه أي علمنا كفره علة واحدة وهي الكفر، فصار الاستغفار له بعد العلم بموته على الكفر والصلاة عليه مع ما فيها من الاستغفار كفر، لما في ذلك من التلاعب بالدين، حيث جاء النهي والمنع من الصلاة على الكفار وقد مات أبو طالب في مكة ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى فتنبه.

وربما ينبغي التذكير قبل أن ننتقل للقسم الثالث في هذه المسألة بأن معنى المنافق هو من كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فإذا انكشف لنا حاله حكمنا بكفره وامتنع على كل من علم بحاله معاملته معاملة المسلم، ويشمل ذلك منع الصلاة عليه. وهؤلاء الذين سيأتي ذكرهم في القسم الثالث كأنهم ذهلوا عن هذا المعنى.

وكذا ذهلوا عن مقصود العلماء في قولهم إنه لم يتقدم النهي قبل قصة عبد الله بن أبي ابن سلول عن الصلاة على المنافقين، لأن مقصودهم والله أعلم هو أنه لم يكن أوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتعيين أسماء هؤلاء المنافقين، بل كان يحمل أمرهم على الظاهر من لفظ إسلامهم، كما سيأتي موَضَّحًا إن شاء الله في محله.

قال الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه تفسير الأسماء والصفات ما نصه([7]): «فإن قيل: هلا جعلتم أهل الأهواء كالمنافقين الذين هم كفار وهم مع ذلك يعاملون معاملة المسلمين لإظهارهم شهادة ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقرارهم في الظاهر بأحكام المسلمين. قيل: لو أظهر المنافق بدعته وضلالته التي اعتقدها كما أظهر المعتزلي وأهل الأهواء لحكمنا عليهم بحكم الكفار ولم نلتفت إلى حكم إقرارهم». اهـ.

القسم الثالث: قوم لم ينتبهوا لتلك المشكلات في الروايات الواردة وحملوها على ما يخالف القواعد الشرعية التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلكوا أعاذنا الله من ذلك.

فمن هؤلاء الزمخشري الذي نقل عنه الحافظ ابن حجر وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط ما نصه: [فإن قلت (هنا سؤال وجواب يفرضهما الزمخشري): كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد الاستغفار ولو كثر لا يجدي ولا سيما وقد تلاه قوله: (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) فبيّن الصارف عن المغفرة لهم، قلت (الزمخشري): لم يخف عليه ذلك ولكنه فعل ما فعل وقال ما قال إظهارًا لغاية رحمته… إلخ.

وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم]. اهـ.

ولو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم موت ابن أبي ابن سلول تلك الساعة على الكفر لما استغفر له. ولذلك يقول أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط ما نصه([8]): «وفي هذا السؤال والجواب – أي اللذين فرضهما الزمخشري – غض من منصب النبوة وسوء أدب على الأنبياء ونسبته إليهم ما لا يليق بهم وإذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لم يكن لنبي خائنة الأعين» أو كما قال، وهي الإشارة، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم، ولقد تكلم عند تفسير قوله بكلام في حق رسول الله نزهت كتابي هذا أن أنقله فيه، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل».اهـ. بحروفه.

وفي «روح المعاني» للألوسي ما نصه([9]): «وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه الكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه». اهـ.

وكان قال قبل ذلك محذرا([10]): «وقال بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول إنه حيث لم يستجب يكون نقصًا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصًا كما لا يخفى». اهـ.

يؤكد ذلك أن الحافظ ابن حجر في أثناء بحثه قال([11]): «وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله – أي قول عمر – وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره استصحابًا لظاهر الحكم…». اهـ.

أما جزم عمر بأن عبد الله بن أبي ابن سلول منافق أي جزم بكفره فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله ولهذا استنكر إرادة الصلاة عليه مع ما عُرف به عمر من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين وهو القائل في حق حاطب ابن أبي بلتعه مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرًا وغير ذلك لكونه كاتب قريشًا قبل الفتح: «دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق» فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة»([12]).

لاحظ قوله: (ولهذا استنكر إرادة الصلاة عليه) وهو قول عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم «تصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا وكذا أعدد عليه… إلخ»، وفي رواية: «يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه» لاحظ ذلك لتخلص إلى أن عمر جزم بموت ابن أبي بن سلول على الكفر ولذلك قال: «وقد نهاك ربك أن تصلي عليه» وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم أعلاه.

ولم يكن ذلك من عمر اعتراضًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان من باب الاستفهام أي ماذا حدث حتى تصلي عليه هل نزل عليك وحي بشأنه؟ ولذلك قال ابن المنير: «وإنما قال ذلك عمر مشورة لا إلزامًا وله عوائد بذلك… إلى أن قال: ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخْذَهُ بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام حتى التفت إليه مبتسما كما في حديث ابن عباس»([13]).اهـ. فتنبه. (عمر رضي الله عنه لم يفعل ما فعل ولم يقل ما قال اعتراضًا على رسول الله، بل سؤالًا وتعلمًا واسترشادًا واستيضاحًا، فعمر رضي الله عنه يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من التلاعب بدين الله، ومن شك بعدم عصمة النبي من ذلك فهو كافر).

وممن هلك في هذه المسألة بسبب تهاونهم في ما نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقول: «إن النبي صلى الله عليه وسلم علم بحال ابن أبي بن سلول قبل نزول الآية {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقينًا ومع ذلك صلى عليه واستغفر له» – وهذا تكذيبٌ للقرءان وهو كفر – وهو للأسف كلام انتشر على لسان بعض المنتسبين للعلم اليوم فنسبوا إمكان اعتقاد المستحيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم فأغنى عن إعادته هنا. وهذا مؤداه أن الرسول صلى الله عليه وسلم متلاعب بالدين وسيأتي شرحه إن شاء الله وعليه فمن نسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يلزمه التشهد للرجوع إلى الإسلام بسبب ما تورط به من سوء الأدب الشديد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم هؤلاء كأنهم ما عرفوا ولا اطلعوا على ما بيناه من انقسام الناس في ما ورد في هذه الروايات والأخبار.

القسم الرابع: قوم ادعوا تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه لأنهم لم يقفوا على جواب شاف في ذلك مع أنهم محجوجون بالإجماع.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح ما نصه([14]): «(قلت) وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرِّحة في حقه بما ينافي ذلك ولم يقف على جواب شاف في ذلك فأقدم على الدعوى المذكورة وهو محجوج بإجماع من قبل على نقيض ما قال وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشهرة بأضعاف مضاعفة». اهـ.

فتلخص أن الناس انقسموا أمام روايات هذه الحادثة إلى أربعة أقسام في ما يأتي:

1 – قسم أنكروا صحة الحديث لأنه من طريق الآحاد وربما قالوا لاضطرابه لأن هذا ما تدل عليه رواياته.

2 – قسم بيّنوا وجهًا شافيًا يتناسب وسياق القصة والجمع بين الروايات وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتقد إسلام ابن أبي سلول قبل وفاته ولذلك صلى عليه.

3 – قسم غَلوًّا غُلوًّا كبيرًا بعيدًا فاعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وهو يعلم نفاقه أي كفره، وذهلوا عن معنى النفاق وهو إظهار الإسلام وإضمار الكفر.

4 – قسم حكموا أن عبد الله بن أبي ابن سلول مسلم يقينًا وذهلوا بذلك عن الآيات والأحاديث المصرِّحة في حقه بما ينافي ذلك.

فلولا أن في هذه القصة ما فيها من الإشكال لما احتاج الحافظ ابن حجر وغيره إلى هذا البحث المطول والمفصل مع سوق الروايات ولكان اكتفى هو وغيره من الحفاظ والمفسرين بالقول إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه مع علمه بنفاقه ثم نزل الوحي بالنهي عن الصلاة عليهم، فلا يكون هناك إشكال أبدًا وبالتالي ما كنا نرى هذا الجهد الكبير من أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني وكذا القسطلاني والعيني والسيوطي والقرطبي وابن عطية وغيرهم في استعراض هذا الأمر وتبيينه والخلوص إلى هذه النتائج التي نبهوا إليها. ومن ذلك أن الألوسي يقول في «روح المعاني»([15]): «والأخبار في ما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو من التعارض وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث». اهـ.

قال الإمام العلامة الحجة المحدث الحافظ الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رضي الله عنه في كتابه «الشرح القويم» ما نصه([16]): «والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويتظاهر بالإسلام كعبد الله بن أبي فإنه مع ما ظهر منه من النفاق كان يتشهد ويصلي خلف الرسول صورة ولما سئل أنت قلت كذا أي ليخرجنّ الأعز منها الأذل أنكر قال لم أقل، ومراده بالأعز نفسه وبالأذل الرسول، لكن الرسول كان يُجري عليه أحكام المسلم لأنه لم يعترف بل بقي متظاهرًا بالإسلام فكان الرسول يُجري عليه في الظاهر أحكام المسلم، وعندما مات ظن الرسول أنه زال عنه النفاق وبناء على هذا الظن صلى عليه، هذا هو الصواب كما قال الحافظ وغيره، وأما من قال إن الرسول كان يعلم أنه بعد منافق كافر ثم صلى عليه فقد جعل الرسول متلاعبًا بالدين، جعله كأنه يقول في صلاته عليه اللَّهُمَّ اغفر لمن لا تغفر له وذلك كفر».اهـ

وقال أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي المفسر في كتابه «المحرر الوجيز» ما نصه([17]): «وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقينًا عنده – أي عند النبي -، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عزّ وجل وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر… إلى أن قال: وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع إظهاره الإيمان، ومحال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره وبعد هذا والله أعلم عُيِّنَ له من لا يصلي عليه». اهـ.

فلا يصح أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ابن أبي أو غيره من المنافقين وهو يعلم كفرهم أي يعتقدهم كفارًا لأن ذلك صريح بأنه تلاعب بالدين، لأن الله نهى عن الصلاة عليهم ومع ذلك هذا القائل يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي أو يستغفر له، وقد قال أبو حنيفة فيمن صلى مُحدِثًا – أي بلا وضوء – متعمدًا إنه كافر وعلل ذلك بأنه تلاعب بالدين. نقل ذلك عنه صاحبي المحيط والفتاوى الهندية وقال: وبه أخذ الفقيه أبو الليث، قال الصدر الشهيد وبه نأخذ. اهـ. ذكره صاحب الفتاوى في الجزء الأول في الصحيفة الثالثة والستين بعد المائة.

قال النووي في شرح المهذب: «أجمع المسلمون على تحريم الصلاة على المحدِث (حدثًا أكبر أو أصغر) وأجمعوا على أنها لا تصح منه سواء كان عالمًا بحدثه أو جاهلًا أو ناسيًا لكنه إن صلى ناسيًا أو جاهلًا فلا إثم عليه، وإن كان عالما بالحدث وتحريم الصلاة مع الحدث فقد ارتكب معصية عظيمة ولا يكفر عندنا بذلك إلا أن يستحله، وقال أبو حنيفة يكفر لاستهزائه». اهـ. قاله في الجزء الثاني في الصحيفة السابعة والستين.

فكيف بعد هذا يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ابن أبي وهو يعتقد أنه كافر!! كيف وقد انعقد الإجماع على أن الأنبياء معصومون من الكبائر وإنما الخلاف في وقوع الصغائر منهم. (والصواب والحق الذي لا يصح غيره أن الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها من الكفر والكبائر وصغائر الخسة). فإذا كانت صلاة المحدِث حدثًا أصغر أو أكبر متعمدًا من الكبائر فكيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى عليه وهو يعتقد أنه كافر مع أن علماء التوحيد وغيرهم صرحوا بتنزّه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وكيف يستسيغ مسلم القول إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه مع اعتقاده أنه كافر عندما صلى عليه مراعاة لخاطر ابنه أو ليكون ذلك سببًا لإسلام قومه، فيكون معنى كلامهم الفاسد أن الرسول ارتكب كفرًا والعياذ بالله، ويكون قولهم الفاسد تكفيرًا له بالنظر إلى نسبة الاستغفار للميت الكافر، لأن طلب المغفرة لمن مات على الكفر كفر، ولا شك أن تكفير الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وتفسيقه كفر فلا مخلص لمن ظن ذلك إلا بأن يتشهد بنية الرجوع إلى الإسلام.

([1]) انظر فتح الباري (8/272).

([2]) مسألة المفاهيم المخالفة (2/317).

([3]) المصدر نفسه، (8/273).

([4]) فتح الباري (8/272).

([5]) المصدر نفسه، (ص373).

([6]) خاتمة البحث (8/273).

([7]) تفسير الأسماء والصفات (ص193).

([8]) البحر المحيط (ج6).

([9]) روح المعاني (7/311).

([10]) المصدر نفسه، (7/309).

([11]) (8/270).

([12]) [بتصرف من الفتح (ج8/ص269 – 270)].

([13]) [من الفتح (ج8/ص269)].

([14]) فتح الباري (8/270).

([15]) روح المعاني (7/319).

([16]) الشرح القويم (ص375 – 376).

([17]) المحرر الوجيز (3/290).