الجمعة يوليو 26, 2024

كرامة الولِيّ دليل على كمال اتباعه لنبيّه
بأداء الواجبات واجتناب المحرمات

درس ألقاه العلامة الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي العقد الثامن من القرن العشرين بالتوقيت الرومي وهو فِي بيان أن كرامات الأولياء دليل على كمال اتّباع الوليّ لنبيّه بأداء الواجبات واجتناب المحرمات وأن تلك الكرامات هي معجزات لأنبياء أولئك الأولياء. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.

أمَّا بعدُ: فإنّ كرامات الأولياء معجزات لأنبياء أولئك الأولياء فما ظهر على أيدي أتباع موسى u من الصالحين والأولياء عُدَّ ذلك معجزةً لموسى وكرامةً لهؤلاء الأولياء، وكذلك ما ظهر على أيدِي المؤمنين الصالحين الأولياء من أتباع المسيح عند ارتفاع المسيح إلى السماء يكون معجزةً للمسيح وكرامةً لذلك الوليّ التابع لشريعة المسيح التي هيَ شريعته الحقيقية، المسيح الذي نال تابعه بصدقٍ هذه العجيبةَ على دين صحيح؛ لأنه متبوعه، أي: إمامه الذي يتبع هذا الوليُّ شريعته وبهذا نال هذه العجيبة كرامة له وظهر أنه من أحباب الله وأصفياء الله.

وذلك كثير، من ذلك ما جاء فِي القرءان وما جاء فِي الحديث النبوي، فإن فِي القرءان أن مريم كان يأتيها رزقها من الغيب وهي لم تكن نبية إنما كانت ولية تابعة لشرع النبيّ الذي كان شرعه واجب الاتباع وهو زكريا([i])، أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه كان يأتيها رزقُها من الغيب كان زكريا الذي هو متبوعُها الذي بلغت هذه المنزلةَ بسبب اتّباعها له كان حين يدخل عليها المحراب، أي: المكان الذي كانت تنزوِي إليه للعبادة يرى عندها رزقًا فيقول: أنَّى لكِ هذا. قالت: هو من عند الله، هذا يُعد كرامة لمريم حيث إنها مؤمنة مسلمة تقية ولية صالحة أدت الواجبات واجتنبت المحرمات وأكثرت من النوافل.

وكذلك ما أخبرنا الله تعالى فِي القرءان عن الذي كان عنده عِلْمٌ من الكتاب وهو كان من أتباع سليمان نبي الله u سماه المفسرون: ءاصفَ بنَ بَرْخِيَا أخبرنا الله تعالى بأنه قال لسليمان حين قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [سورة النمل: 38]، أي: بعرش بلقيس الذي كان فِي اليمن {أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] هذا الأمر العجيب إحضار عرش بلقيس فِي هذه اللحظة أمر خارق للعادة لكن هذا ظهر فِي حياة سليمان u فهو أيضًا معجزة لسليمان وكرامة لآصف بن برخيا.

وكذلك ما حصل لِجُرَيْج وهو رجل من العبّاد الصالحين الأولياء من أتباع المسيح بعد رفع المسيح إلى السماء ظهر له أنه افترت عليه بَغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل وقد حملت من زنى أنَّ حملها هذا منه فجاء الناس وقد أساؤوا به الظن صدَّقوا المرأة الفاجرة فيما افترت عليه ليهدموا له صومعته التي كان يعتزل فيها لعبادة الله وكان من الرهبان المؤمنين المسلمين الصادقين المتبعين لشريعة المسيح اتباعًا كاملًا لم يكن من هؤلاء الرهبان الذين أشركوا بالله بعبادة المسيح وأمه، أخذوه وأهانوه وسبُّوه فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلّي فأمهلوه فصلّى ثم أتى على المولود الذي كانت تحمله هذه الفاجرة التي ولدته من زنى قال له: من أبوك قال: الراعي، أي: برّأ جُرَيجًا مما نُسب إليه، برّاه الله على لسان هذا المولود مما افترت به على هذا العابد العبد الصالح وليّ الله جريج، إلى غير ذلك مما حصل لأتباع الأنبياء من الصالحين بعد موت هؤلاء الأنبياء وحالَ حياتهم وذلك إذا اسْتُقْصِيَ شيءٌ كثيرٌ.

وأما ما حصل فِي أمة محمد r للصحابة ومَن بعدهم إلى يومنا هذا فلا يُحصَى ومَن يُحْصِي نجومَ السماء أو أوراقَ الأشجار لا يحصيها أحد إلا الله وكذلك كرامات أولياء أمة محمد لا يحصيها أحد إلا الله ومن ذلك ما حصل لبعض الصحابة وهو زيد بن خارِجةَ الأنصاريُّ الخزرَجِيُّ الحارِثِيُّ رُوِيَ بإسناد صحيح([ii]) أنه بعدما مات قبل أن يدفن سُمعت له جلجلة، أي: صوت ثم تحرك فجلس فقال محمد رسول الله فِي الكتاب الأول صدق صدق أبو بكر الصّدّيق الضعيف فِي نفسه القويّ فِي أمر الله فِي الكتاب الأول صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين فِي الكتاب الأول صدق صدق عثمان بن عفان فِي الكتاب الأول مضت سنتان وبقيت أربع بئر أَرِيس وما بئر أريس ثم مات، أي: عاد إلى حالته التي كان عليها، هو قبلًا مات إنما الله تعالى أحياه بعد أن مات ثم أعاده إلى الموت إظهارًا لشرف نبيّه محمد r وشرف هؤلاء الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان y وإظهارًا لكرامة هذا الميت وهو زيد بن خارجة الأنصاري الخزرجي الحارثي أما قوله مضت اثنتان وبقيت أربع فمعناه أن عثمان بقيَ لأيامه التي يكون أمر سلطته مستقرًا ثابتًا بطمأنينة ونشاط مضى منها سنتان وبقيت له أربع سنين، أي: أنه بعد ذلك تتغير عليه الأحوال إلى الاضطراب عليه، أما قوله: بئر أريس وما بئر أريس هو أيضًا كرامة له أنطقه الله بها؛ لأن أريس هو اسم بئر بالمدينة كان عثمان معه خاتم رسول الله r الذي انتقل إليه بعد أبي بكر وعمر كانا يلبسانه بعد وفاة رسول الله ثم انتقل هذا الخاتم إلى عثمان فبين هو ذات يوم على هذا البئر فأخرج خاتمه من يده فجعل يعبث به فوقع فِي البئر فنزح البئر فلم يظهر بعد تفتيش ثلاثة أيام لم يجدوه ثم بعد ذلك صار على عثمان اضطرابات من الناس وتشويشات أقلقت باله حتى أدى ذلك إلى قتله كان ذلك الخاتم فيه سر وضعه الله تعالى فيه.

وفي قصة زيد بن خارجة هذه بقية وهي أنه قال مع هذه الكلمات ظهرت الفتن وأكل القوى الضعيف بعد أن ذكر عثمان قال ظهرت الفتن وفي لفظ جاءت الفتن وأكل القوي الضعيف المعنى: أن عثمان سيستقبل بعد هذه الست سنوات أهوالًا ومشاكل ومزعجات فكان الأمر كذلك.

ثم من جملة ما ظهر بعد ذلك فِي المائة الثالثة أمر حدث فِي خراسان وهو أمر جسيم كانت فِي خراسان ناحية هي ثغر من الثغور كان الكفار المشركون يتعرضون فيها للمسلمين من وقت إلى وقت فهجم كافر طاغية فتصدى له شبابٌ للدفاع عن القرية ثم تظاهر بالفرار ليستجرهم إلى خارج البلدة إلى الصحراء فلما أصحروا كرّ عليهم وقتل منهم نحو أربعمائة ثم جاءهم المدد من الوالي والي تلك الناحية فهرب ذلك اللعين فحملوا القتلى إلى البلدة وكان من بينهم شاب متزوج ترك زوجة وأولادًا لم يترك لهم مالًا إنما كان يكتسب قدر ما ينفقه عليهم فأُخذت جثته ووُضعت بين يدي زوجته فصارت تبكي وصارت النساء من ذوات القرابة والجيران يبكين معها وحانت صلاة المغرب فقامت فصلت فبين هي ساجدة أخذتها غفوة فرأت أرضًا يابسة ثم رأت أمام تلك الأرض أرضًا ذات عشب كثير حسن المنظر ثم رأت رجالًا يتحلقون حلقًا حلقًا يأكلون ويلبسون ثيابًا خضرًا وقد علاهم النور فجعلت تتصفح وجوههم لترى زوجها ثم هو رءاها فناداها باسمها قال: يا رحمة يا رحمة فأقبلت نحوه فقال للذين يأكلون معه: ما زالت هذه المسكينة جائعة منذ اليوم أتأذنون لي أن أطعمها فأعطاها لقمة من رغيف وقال لها: كُلِي فلا تجوعين بعد هذا ولا تعطشين ما حييت فأكلت ثم استيقظت وعاشت بعد ذلك أكثر من عشرين سنة لا تشتهِي الطعام وهي صحيحة الجسم لا تأكل ولا تشرب أغنتها تلك اللقمة عن الأكل والشرب وهي لا يُرى فِي وجهها أثر البؤس وجهُها نَضِرٌ خدُّها متورد وإذا مشت تمشي بنشاط ثم فشا أمرها وصار الولاة، أي: الحكام يأخذونها فيحبسونها فِي بيتٍ الشهرَ والشهرين ليتأكدوا من أنها لا تأكل ولا تشرب فلا يجدونها تأكل أو تشرب، وما كانت تطلب من الناس شيئًا إلا أن الناس كانوا يعرضون عليها ما تَقُوتُ به أولادها وما تكتسِي به فكانت تأخذ إذا عُرض عليها مال لتكتسي ولتكسوَ أولادها وكانت صادقة لم تُجَرَّب عليها كذبة؛ بل كانت من الوليات كانت من التقيات المؤمنات الصالحات ثم الناس فِي تلك البلدة وفيما يليها من عدة بلدان كلهم أيقنوا ولم يبقَ عندهم شك فِي صحة أمر هذه المرأة، كانت لا تشتهي طعامًا؛ بل كانت تأخذ بأنفها إذا قُرّب إليها طعام كأنها تتضايق من هذا الطعام. وكان بعض الولاة الأذكياء أراد زيادة تأكد من صحة الأمر فأمر بعض هؤلاء النساء بملازمتها ومراقبتها مدة طويلة؛ لأنه عند الأطباء قد يَدَّعي أحدهم أن الإنسان فِي أحد فصول السنة الأربعة تعرض له حالات تمنعه من شهوة الطعام لكنهم لا يسلمون أن ينقطع الإنسان عن الطعام والشراب طول السنة؛ لأن الفصول تختلف فلو كان أمرًا عارضًا بسبب المرض عرض لها كان ذهب لَمّا يتغير الفصل لَمَّا يأتي الفصل الثاني ذهب عنها ذلك الحال لكنه لم يذهب عنها فِي جميع الفصول الأربعة فسلمت الأطباءُ أيضًا أن هذا عارض ليس من الأمور المعتادة.

وكذلك حصل لغير هذه المرأة فِي بلدان مختلفة مثل قصتها فمنذ بضع سنوات أُخْبِرْتُ بحلب عن رجل سوريّ أنه مضى أربعة عشر عامًا لا يأكل ولا يشرب وهو صحيح البنية نشيط على الأسفار أخبرني من شاهده من أهل حلب، وهذا الرجل أيضًا قصته صحيحة ولم نعرف ما بدء أمره هل حصل له مثل ما حصل لهذه المرأة من أكل شيء من طعام الشهداء فِي المنام من الطعام الذي يرزقه الشهداء أم بسبب ءاخر شاء الله تبارك وتعالى أن يحصل له وكل هذا شاهد لصدق ما جاء به رسول الله r. انتهى.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.

والله أعلم وأحكم.

[i])) زكريا u كان على شرع التوراة المنزلة على رسول الله موسى عليهما الصلاة والسلام.

[ii])) رواه من طرق الطبرانيّ فِي الكبير والأوسط وابن شبة فِي تاريخ المدينة فِي ما جاء فِي كف عثمان t عن القتال، وابن أبي الدنيا فِي من عاش بعد الموت، والزبير بن بكار فِي الموفقيات وغيرهم وذكره بصيغة القطع البيهقيّ فِي الاعتقاد وقال فِي مجمع الزوائد إن رجال أحد أسانيده فِي المعجم الكبير ثقات.اهـ.