الجمعة أكتوبر 11, 2024

كذب صراح وكفر بواح ما يفترى على موسى عليه السلام
أنه قال لربه: كم لك في الألوهية

ومما يجب التحذير والتنبيه منه كتاب اسمه «مناجاة موسى» أو «المناجاة الكبرى»، ففيه كفر شنيعٌ يُنسب إلى موسى عليه السلام كذبًا وافتراءً وهو بريء منه، وهو قولهم: إنَّ موسى عليه السلام قال: يا رب، كم لك في الألوهية؟ فهذا الاستفهام يستحيل أن يصدر من نبيّ من الأنبياء، لأن الأنبياء هم حَمَلَةُ الهداية إلى العباد، وهم علّموا أن الله أزليٌ لا بداية له ولا يوصف بالزمان، فلا يقال: منذ كم الله في الألوهيّة، أو كم له في الألوهيّة من الزمن؟ فالله تعالى موجود قبل الزمان([1]) والمكان([2])، وكلٌ من الزمان والمكان حادث مخلوق، فمن نسب إلى الله أنه يجري عليه الزمان أو أنه يحلّ في المكان فهو كافر غير عارف بربه عزَّ وجلَّ.

وذلك الكتاب المسمّى «مناجاة موسى» يشتمل على كفر صريح، وقد قدّمنا أنه يشتمل على تلك الحكاية الباطلة وهي وحدها كافية في رد هذا الكتاب، ونص الحكاية المكذوبة: «قال موسى: يا ربّ أريد أن أسألك عن أشياء وأنا خائف منك فلا تؤاخذني، قال: فاسأل يا موسى ما بدا لك ولا تخف فإن الحكيم الكريم أحلم على مَن عصان، قال: يا رب أين أنت، قال: في قلوب عبادي المنكسين النقية من المعاصي([3])، قال: ومن النقيّ قلبه؟ قال: الذي يتقي الحلال مخافة أن يقع في الحرام، فقلوبهم منوَّرة بذكر الله تعالى، قال: أخبرني عن أول مخلوق خلقته قبل كل شيء، قال الله تعالى: يا موسى قبضت قبضة من نور وجهي([4]) فقلت لها: كوني حبيبي محمدًا ﷺ فصارت كوكبًا تسبّحني، فكان هو أول مخلوق خلقته وآخر مبعوث بعثته برسالتي، وهو أول من عبدني بالغيب ثمانين ألف عام، قال: سبحانك أنت الذي تغضب وأنت الذي ترضى لا إله إلا أنت إنك على كل شيء قدير، قال: يا موسى إذا غضبت على عبدي سلبت عنه طاعتي وأشغلته بدنياه عن آخرته حتى يلقاني ولا حسنة له عندي، قال موسى: يا رب وكم لك في الألوهية؟ قال: تأدب يا موسى قد سألت عن أمر عظيم».اهـ. وهذا مما لا يخفى بطلانه، نعوذ بالله من الكفر والضلال. فالله منزّه عن الزمان لأن الزمان مخلوق له بداية، أما الله تعالى فهو خالق كل شيء وليس له بداية ولا يجري عليه الزمان.

ومما يجب التحذير والتنبيه منه أن أناسًا يزعمون التصوفَ – والتصوفُ الحقيقيّ بريء منهم – يَنْسِبون إلى نبيّ الله موسى أنّه قال له ربّهُ: أتظنُّ نفسك أفضل من الكلب الأجرب؟ قالَ: لا، وأَنّ الربّ عزَّ وجلَّ قال له: لو قلتَ بلى لمحوتُك من ديوان الأنبياء. وهذا خروج عن ملّة الإسلام، وقد قالوا في الحثّ على التواضع على زعمهم: إن الله سبحانه أوحى إلى نبيّه موسى في إحدى مناجاته يا موسى إذا أتيت إلى المناجاة الآتية فاصطحب معك مخلوقًا أنت أفضل منه، وحاول موسى عليه السلام وهو النبيّ الكريم، وأحد أولي العزم من الرسل، أن يجد من البشر من يراه دونه فلم يجد، فنظر في الحيوانات فلم يجد، إلى أن عثر على كلب أجرب فقاده معه، وفي أثناء الطريق أطلقه، تواضعًا لله تبارك وتعالى أن يجد نفسه شيئًا عند الله تعالى، فلما جاء إلى المناجاة أوحى الله سبحانه إليه أنه حسنًا فعلت حين أطلقت الكلب، ولو جئتَ به لكنتُ محوتك من ديوان النبوة([5]).اهـ.

وهذا من أبشع الكفر، فإن الأنبياء هم صفوة خلق الله حفظهم الله وعصمهم وخلّقهم بالأخلاق السامية الرفيعة، قال الله تعالى: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]، أي: أنهم أفضل من كل العالمين، والعالم اسم لكل موجود إلا الله تبارك وتعالى([6])، فهذا الكلام المختلَق المكذوب ظاهر الوضع وهو أوهى في الثبوت من خيط العنكبوت، فلا يُلتفت إليه ولا يجوز أن يعتقد مثل هذا في سيدنا موسى النبيّ المكرَّم الذي أخبر الله عنه بقوله: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

[1])) «الزمان عبارة عن متجدّد معلوم مقدّر به متجدد آخر موهوم كما يقال: آتيك عند طلوع الشمس فإن طلوع الشمس معلوم ومجيئه موهم فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الإيهام».اهـ. التعريفات، الجرجنيّ، (1/152).

[2])) «المكان هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وتنفذ فيه أبعاده».اهـ. التعريفات، الجرجانيّ، (1/292). وقد عَرَّف المكان جمعٌ من اللغويين وأهل العلم، ونقتصر على ذكر البعض، فقد قال أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصبهانيّ (ت502هـ)، ما نصّه: «المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء».اهـ. المفردات في غريب القرآن، (1/772). وقال مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأباديّ (ت817هـ) ما نصّه: «المكان: الموضع، ج: أمكنة وأماكن».اهـ. القاموس المحيط، مادة: (م ك ن)، (1/1585). وقال العلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضيّ الحنفيّ (ت1098هـ) ما نصّه: «المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم».اهـ. إشارات المرام، (ص197). وقال المحدث الفقيه العلامة الشيخ عبد الله الهرريّ المعروف بالحَبشيّ (ت1429هـ) ما نصه: «المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ».اهـ.

[3])) يكفر من يقول: «الله يسكن قلوبَ أوليائه» إن كان يفهم منه الحلول، لكن إن كان يفهم من هذه العبارة أن حب الله ساكن قلوبهم فلا يكفر لكن لا يجوز هذا.

[4])) قال شيخ الإسلام عبد الله الهرريّ رحمه الله: «من هنا يُعلَمُ فسادُ قول من يقول إن نورَ محمدٍ خُلِقَ قبل كل شيءٍ، فالذي يعتقدُ أن الله خَلَقَ نورَ محمدٍ قبل كل الأشياء لا يُكفَّر لكنه يُغَلَّط لمخالفته ثلاثةَ أحاديثَ ثابتةٍ، وكذلك الذي يعتقد أن روحَ محمدٍ خُلِقَ من نور لا يكفَّر، لكن من يعتقد أن جَسَدَ محمدٍ خُلِقَ من نورٍ فهو كافر لتكذيبه القرآن، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [فصلت: 6]. ولم =يصحَّ حديث جابر المفتعل والذي فيه: «أوّل ما خلقَ الله نورُ نبيّك يا جابر خلقَهُ الله من نوره قبل الأشياء» وهذا الحديثُ ركيكٌ، والركاكةُ قال علماءُ الحديث إنها دليلُ الوضع لأن الرسول لا يتكلمُ بكلام ركيكِ المعنى، وذلك لأن في الجملة الأولى: «أولُ ما خلق الله تعالى نور نبيك» جعل نور النبي أول العالم والمخلوقات على الإطلاق ثم هذه الجملة: «خلقه الله من نوره قبل الأشياء» إن اعتُبِرَ أن معنى من نوره، أي: نور مخلوق لله على أن الإضافةَ إضافة الملك إلى المالك ليست إضافة صفةٍ إلى موصوفٍ يكون المعنى أن أولَ المخلوقات نورٌ خلقَهُ الله ثم خَلَقَ منه نور محمد، فهذا يناقض الجملة الأولى، لأن الجملةَ الأولى تَدُلُّ على أن نورَ محمدٍ أولُ المخلوقاتِ على الإطلاق، وهذه الجملةُ «خلقه الله من نوره قبل الأشياء» تدلُّ على أن أولَ المخلوقاتِ نورٌ خُلِقَ منه نورُ محمد، فيكون نور محمد متأخرًا عن ذلك النور في الوجود فلا يصح على هذا قول: «نور محمد أول المخلوقات على الإطلاق». وأما إن اعتُبِرت الإضافةُ التي في نوره إضافة الصفة إلى الموصوفِ فالبليةُ أشدُّ وأكبرُ لأنه يكون المعنى أن سيدَنا محمدًا جزءٌ من صفةِ الله، وهذا إثبات البعضية لله وذلك كفر، والله تعالى منزهٌ عن البعضيةِ والتركيبِ والتجزؤ. فيكون على التقديرِ الثان إثبات التبعض لله وذلك ينافي التوحيد، لأن الله واحدٌ ذاتًا وصفاتٍ لم ينحلَّ منه شيءٌ ولا ينحلُّ هو من شيء غيره، فلا تكون صفاته صفةً لغيره كما قررَ علماءُ التوحيد في مؤلفاتهم. فبهذا سَقَطَ الاحتجاجُ بهذا الحديثِ على دعوى أن أوّلَ المخلوقاتِ على الإطلاق نورُ محمدٍ. ثم إن هذا الحديثَ لم يصححهُ أحدٌ من الحفاظ، وممن ردّ حديث جابر المفتعل الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماريّ في مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر، وقالَ الحافظ السيوطيّ إنه لا يثبت، ونسبة هذا الحديث إلى عبد الرزاق لا يُفيدُ أن هذا الحديثَ صحيحٌ أو حسنٌ، على أنه لم يقل أحدٌ من هؤلاء إن الحديثَ صحيحٌ أو حسنٌ إنما أوردوه ناسبينَ إيّاه إلى مصنَّفِ عبدِ الرزاق – وليس له وجود في مصنفه – فليس في ذلك حجة».اهـ. الشرح القويم في حلّ ألفاظ الصراط المستقيم، الهرري، (ص116). رسالة في بطلان دعوى أولية النور المحمدي، الهرري. وسيرد تفنيد أن محمدًا ﷺ ليس نورًا بمعنى الضوء في الباب الثالث الفصل الأول من هذا الكتاب.

[5])) الكتاب المسمّى عدة الداعي ونجاح الساعي، أحمد بن فهد الحليّ، (ص218).

[6])) مفاتيح الغيب، الرازي، (13/53).