الأربعاء نوفمبر 13, 2024

ويجب الحذر مما في كتاب «البعث والنشور» [(345)]، للحافظ البيهقي ما لا نعتقد في البيهقي أنه يقوله، وإنما هو من باب الرواية التي ينظر في سندها ومتنها بناء على الشروط المعروفة، وفيه يقولون: «ثم يقول عز وجل: لمن الملك اليوم. فلم يُجبه أحد. ثم يقول لنفسه تبارك وتعالى: لله الواحد القهار» اهـ.

ومثل هذا الكلام أيضًا في كتاب «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة»، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671هـ) ، وهو مما دُسَّ عليه يقولون فيه[(346)]: «ثم يقول الله عز وجل {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب نفسه المقدسة بقوله {…اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} )» اهـ.

ويقولون: [(347)] «ثم قال: أنا الجبار لمن الملك اليوم، فلم يجبه أحد فيقول جل ثناؤه وتقدست أسماؤه (لله الواحد القهار)» اهـ.

وهذا ليس معتمدًا لأنه منافٍ لعقيدة أهل السنة، لله كلام واحد هو به آمر وناهٍ وواعد ومتوعِّد ومخبر ومستخبر، وكلامه واحد بإجماع الأمة كما نقل ذلك القرافي المالكي في كتابه «الفروق» قال: «مسألة: وكلام الله واحد بإجماع الأمة» اهـ. لأنه لو قيل (كلام الله متعدد) يلزم منه حدوث كلامه، والله تعالى منزّه عن سمات الحدوث.

قال الله تعالى: {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر].

قال المفسر القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: [(348)] «وعن النحاس: وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر منادٍ ينادي (لمن الملك اليوم)» ثم قال: «والقول صحيحٌ عن ابن مسعودٍ وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل» اهـ..

وقد قال الفقيه المفسر فخر الدين الرازي في كتابه التفسير الكبير في الرد على من قال إن الله تعالى يسأل {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيبه وهو تعالى يجيب نفسه ويبين أنه باطل لا أصل له: [(349)] «الأول : قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : {…لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء، فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير، أو حال ما لا يحضر الغير، والأول: باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل، والثاني: أيضًا باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئًا كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضًا على الله محال، أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضًا على الله محال، فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له» اهـ..

وقال أيضًا: «أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا نادى منادٍ (لمن الملك اليوم)». انتهى كلام الرازي.

ومثل هذا الكلام ذكر محمد بن مصلح الدين مصطفى القَوجَوِيُ الحنفي في كتابه حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي[(350)]: «من أنه إذا حضر الأولون والآخرون يوم التلاق وبرزوا لله جميعًا نادى منادٍ (لمن الملك اليوم)» اهـ..

وقال القاضي أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي في كتابه إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم[(351)]: «أي ينادي منادٍ لمن الملك اليوم» ثم قال: «لما روي أنه يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد في أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به أن ينادي منادٍ (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)» اهـ.. قال معلق أخرجه ابن المبارك في الزهد[(352)] وابن أبي الدنيا في الأهوال[(353)] عن ابن مسعودٍ موقوفًا اهـ.

فقد تبين واتضح أن القول الصحيح المعتمد الموافق لعقيدة المسلمين أن الملَكَ هو الذي ينادي في موقف القيامة بأمرٍ من الله والملَك نفسه يجيب وليس الله كما زعم أهل التشبيه والتجسيم الذين وصفوا الله بصفات حادثة واعتقدوا أن كلامه ككلام خلقه يتكلم بعد سكوت ويسكت بعد كلام وأن كلامه يتخلله انقطاع وهذا تشبيه لله بخلقه وتكذيب لقول الله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} .

فلا حجة للمشبهة الصوتية فيما قيل من أن الله تعالى يقول بعد أن يقبض عزرائيلُ أرواح الخلق والملائكة فيقبض اللهُ روحَ عزرائيل (لمن الملك اليوم) فيجيب نفسَه بنفسِه (لله الواحد القهار)، لأنه حديث ضعيف رواه الطبراني.(والرواية الأخرى التى هى أقوى إسنادًا التى رواها ابنُ أبى الدنيا فى كتابه البعث وغيرُه وصححها الحاكم فى المستدرك فيها التصريح بأن الملك ينادى بذلك.)

يقال لهم: أليس الله تعالى كان موجودا قبل هذه الحروف؟ فهي محدثة أحدثها هو، فكيف يتصف الله بشىء محدث؟ بل قولهم فيه نسبة الحدوث إلى ذات الله لأن ما يتصف بالحادث فهو حادث، وإنما تأويل ما ورد في القرءان من هذه الألفاظ أنها عبارة عن كلامه الأزلي الأبدي. فالكلام الأزلي يُعبَّرُ عنه باللفظ الماضي وبلفظ المضارع وبلفظ الأمر، فكلام الله القائم بذاته غير مجتزئ ولا متبعض كما أن حياته صفة قائمة بذاته أي ثابتة له لا تتجزأ ولا يتخللها انقطاع.

وأحسن منه من حيث الإسناد ما رواه أبو بكر عبد الله بن أبي داود في كتابه «البعث»[(354)] قال: «حدثنا الحسن بن يحي بن كثير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سُليم بن أخضر عن التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينادي مناد بين يدي الصيحة يا أيها الناس أتتكم الساعة – ومدّ بها التيمي صوته – قال فيسمعه الأحياء والأموات وينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا ثم ينادي مناد لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»[(355)]. أخرج هذا الحديث الديلمي في فردوس الأخبار وعزاه السيوطي لابن أبي الدنيا في البعث مرفوعا و لعبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في المستدرك وأبي نعيم في الحلية عن ابن عباس موقوفا عليه. وهذا سالم من نسبة النطق بالصوت إلى الله وهو عقيدة أهل التنزيه والإثبات، يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه مع تجنب حمل النصوص على ظواهر المتشابه، بل يعتقدون للمتشابه معاني تليق بالله ليس فيها إثبات صفة حادثة لله كما أنهم ينزهون ذاته عن الحجمية والجسمية فينبغي أن لا يلتفت إلى ما يذكر في كثير من التفاسير من أن الله تعالى هو الذي يقول بعد فناء الخلق كلهم سوى الجن والملائكة مجيبا لنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فإنه يتبادر إلى ذهن المطالع لهذا الكلام أن الله ينطق بالصوت في ذلك الوقت وهذا مما لا يجوز اعتقاده وهو تشبيه وكفر.

ـ[345]   البعث والنشور (مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، الطبعة الأولى 1406هـ ص338).

ـ[346]   التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1407هـ ص194).

ـ[347]   التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص/195).

ـ[348]   الجامع لأحكام القرآن في المجلد الخامس عشر ص 300، دار المعرفة الطبعة الثانية.

ـ[349]   التفسير الكبير في المجلد الرابع عشر في الجزء السابع والعشرون ص 41، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.

ـ[350]   حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي في الجزء السابع ص307 دار الكتب العلمية الطبعة الأولى.

ـ[351]   إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المجلد السابع ص230، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.

ـ[352]   الزهد (2/115).

ـ[353]   الأهوال (1/146).

ـ[354]   البعث (ص/26).

ـ[355] وإضافة النزول إلى الله ليس على حقيقته ولا على ظاهره بل هو متأولٌ عند جميع أهل السنة والجماعة وقد قال الإمام مالك: «نزول رحمة لا نزول نُقلة» رواه الزرقاني في شرحه على موطأ مالك، لأن الله موجود بلا مكان منزه عن الحركة والسكون والانتقال.