السبت فبراير 8, 2025

قِصَّةُ وَلَدِ هَارُونَ الرَّشِيدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

   الْخَلِيفَةُ هَارُونُ الرَّشِيدُ كَانَ لَهُ وَلَدٌ عَاشَ غَرِيبًا وَمَاتَ غَرِيبًا. بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَافَقَ الزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْمَقَابِرِ وَيَقُولُ «قَدْ كُنْتُمْ قَبْلَنَا وَقَدْ كُنْتُمْ تَمْلِكُونَ الدُّنْيَا فَمَا أَرَاهَا مُنْجِيَتَكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ إِلَى قُبُورِكُمْ» وَيَبْكِى بِكُاءً شَدِيدًا وَفِى يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ دَخَلَ الْقَصْرَ وَهُوَ يَلْبَسُ جُبَّةً مِنْ صُوفٍ وَفِى الْقَصْرِ الْخَلِيفَةُ أَىْ أَبُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَالْوُزَرَاءُ وَكِبَارُ الدَّوْلَةِ فَصَارُوا يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُسْتَغْرِبِينَ دُخُولَهُ بِهَذَا الثَّوْبِ وَهُوَ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ فَلَمَّا عُوتِبَ بِذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى طَائِرٍ وَهُوَ عَلَى شُرَافَةٍ مِنْ شَرَارِيفِ الْقَصْرِ وَقَالَ أَيُّهَا الطَّائِرُ بِحَقِّ الَّذِى خَلَقَكَ إِلَّا جِئْتَ عَلَى يَدَىَّ فَانْقَضَّ الطَّائِرُ فِى الْحَالِ عَلَى كَفِّهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمُ الْعِبْرَةُ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ مِنَ الْمَرْضِيِّينَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَفَارَقَ الْقَصْرَ وَلَمْ يَتَزَوَّدْ بِشَىْءٍ إِلَّا مُصْحَفٍ وَخَاتَمٍ وَصَارَ يَعْمَلُ مَعَ الْفَعَلَةِ فِى الطِّينِ وَكَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ عَشَرَةِ رِجَالٍ فَأَدْهَشَ صَاحِبَ الْعَمَلِ فَتَوَقَّفَ صَاحِبُ الْعَمَلِ يُرَاقِبُهُ مِنْ بَعِيدٍ فَرَءَاهُ يَأْخُذُ كَفًّا مِنَ الطِّينِ وَيَضَعُهُ عَلَى الْحَائِطِ وَالْحِجَارَةُ وَحْدَهَا يَتَرَكَّبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ هَكَذَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مُعَانُونَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ذَهَبَ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْعَمَلِ إِلَيْهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَإِذَا تَحْتَ رَأْسِهِ نِصْفُ حَجْرَةٍ وَهُوَ فِى حَالِ الْمَوْتِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثَانِيَةً فَعَرَفَنِى فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ وَجَعَلْتُهَا فِى حِجْرِى فَمَنَعَنِى مِنْ ذَلِكَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ

يَا صَاحِبِى لا تَغْتَرِرْ بِتَنَعُّمٍ                       فَالْعُمْرُ يَنْفَدُ وَالنَّعِيمُ يَزُولُ

وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جِنَازَةً                     فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ

   ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَامِرٍ إِذَا فَارَقَتْ رُوحِى جَسَدِى فَغَسِّلْنِى وَكَفِّنِّى فِى جُبَّتِى هَذِهِ فَقُلْتُ يَا حَبِيبِى وَلِمَ لا أُكَفِّنُكَ فِى ثِيَابٍ جَدِيدَةٍ فَقَالَ لِى الْحَىُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ الثِّيَابُ تَبْلَى وَالْعَمَلُ يَبْقَى وَخُذْ هَذَا الْمُصْحَفَ وَالْخَاتَمَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ ثُمَّ خَرَجَتْ رُوحُهُ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

   فَذَهَبَ أَبُو عَامِرٍ إِلَى بَغْدَادَ وَانْتَظَرَ خُروجَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ مِنْ قَصْرِهِ فَقَالَ لَهُ بِقَرَابَتِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا وَقَفْتَ لِى قَلِيلًا وَدَفَعَ إِلَيْهِ بِالْمُصْحَفِ وَالْخَاتَمِ وَأَخْبَرَهُ بِمَوْتِ وَلَدِهِ الْغَرِيبِ فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْبَلَ دَمْعَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَنْتَ غَسَّلْتَهُ بِيَدِكَ فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ نَعَمْ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ فَأَخَذَهَا وَوَضَعَهَا عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ بِأَبِى كَيْفَ كَفَّنْتَ الْعَزِيزَ الْغَرِيبَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ

يَا غَرِيبًا عَلَيْهِ قَلْبِى يَذُوبُ        وَلِعَيْنِى عَلَيْهِ دَمْعٌ سَكُوبُ

يَـا بَعِيدَ الْمَكَانِ حُزْنِـى قَرِيبُ    كَدَّرَ الْمَوْتُ كُلَّ عَيْشٍ يَطِيبُ

قَالَ ثُمَّ تَجَهَّزَ وَخَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ فَلَمَّا رَءَاهُ غُشِىَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ أَنْشَدَ هَذِهِ الأَبْيَاتِ

يَا غَائِبًا لا يَؤُبُ مِنْ سَفَرِهْ       عَاجَلَهُ مَوْتُهُ عَلَى صِغَرِهْ

يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ كُنْتَ لِى أُنْسًا       فِى طُولِ لَيْلِى نَعَمْ وَفِى قِصَرِهْ

شَرِبْتَ كَأْسًا أَبُوكَ شَارِبُهَا        لا بُدَّ مِنْ شُرْبِهَا عَلَى كِبَرِهْ

أَشْرَبُهَا وَالأَنَامُ كُلُّهُمْ             مَنْ كَانَ مِنْ بَدْوِهِ وَمِنْ حَضَرِهْ

فَالْحَمْدُ لِلَّهِ لا شَرِيكَ لَهُ          قَدْ كَانَ هَذَا الْقَضَاءُ مِنْ قَدَرِهْ

   قَالَ أَبُو عَامِرٍ فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةُ قَضَيْتُ وِرْدِى وَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ قُبَّةً مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا سَحَابٌ مِنْ نُورٍ وَإِذَا قَدْ كُشِفَ السَّحَابُ فَإِذَا الْغُلامُ يُنَادِى يَا أَبَا عَامِرٍ جَزَاكَ اللَّهُ عَنِّى خَيْرًا فَقُلْتُ يَا وَلَدِى إِلَى مَاذَا صِرْتَ قَالَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ أَعْطَانِى مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.