الجمعة أكتوبر 25, 2024

قول الحافظ الفقيه محيي الدين النوويّ([1]) رحمه الله
(ت 676هـ)

قال النوويّ([2]): «قوله ﷺ: «فيأتيهِمُ الله في صورةٍ غيرِ صورتِهِ التي يعرفونَ فيقولُ: أنا ربُّكُمْ، فيقولونَ: نعوذُ بالله مِنْك، هذا مكانُنَا حتى يأتيَنَا ربُّنا، فإذا جاءَ ربُّنا عرفناهُ فيأتِيهِمُ اللهُ في صُورَتِهِ التي يَعرفونَ فيقولُ: أنا ربُّكمْ، فيقولونَ: أنتَ ربُّنا فيتبعونَهُ».

اعلم أنَّ لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما: وهو مذهب معظم السلف أو كلهم([3]) أنه لا يُتكلم في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شىء وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق، وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين، واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم. والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفًا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ذا رياضة في العلم، فعلى هذا المذهب يقال في قوله ﷺ: «فيأتيهِمُ الله» إنَّ الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أنَّ مَنْ غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبَّر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازًا، وقيل: الإتيان فِعْلٌ من أفعال الله تعالى سمَّاه إتيانًا، وقيل: المراد «يأتيهِمُ اللهُ» أي: يأتيهم بعض ملائكة الله» اهـ.

ثم قال: «وأما قوله ﷺ: «فيأتيهِمُ اللهُ في صورتِهِ التي يَعرِفُونَ» فالمراد بالصورة هنا الصفة، ومعناه: فيتجلَّى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدَّمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئًا من مخلوقاته، وقد علموا أنه لا يشبه شيئًا من مخلوقاته، فيعلمون أنه ربهم فيقولون: «أنت ربنا»، وإنما عبَّر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام، فإنه تقدَّم ذكر الصورة.

وأما قولهم: «نعوذُ بالله منكَ» فقال الخطابيّ: يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة من المنافقين خاصة، وأنكر القاضي عياض هذا وقال: لا يصح أن تكون من قول المنافقين ولا يستقيم الكلام به، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب، ولفظ الحديث مصرّح به أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدَّمناه من كونهم رأوا سِماتِ المخلوق. وأما قوله ﷺ: «فيتبعونه» فمعناه يتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة، أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة. والله أعلم» اهـ. وكلام الحافظ النوويّ في التنزيه ونفي التشبيه كثير منثور في أثناء شرحه على مسلم في مواضع عديدة وغيره من كتبه.

[1] ) يحيى بن شرف النوويّ، الشافعيّ، ت 676هـ، أبو زكريا، محيي الدين، علَّامة بالفقه والحديث. مولده ووفاته في نوا من قرى حوران بسورية وإليها نسبته. تعلم في دمشق، وأقام بها زمنًا طويلًا. من كتبه: «تهذيب الأسماء واللغات»، و«منهاج الطالبين»، و«المنهاج في شرح صحيح مسلم»، و«رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين»، و«المقاصد» رسالة في التوحيد. طبقات الشافعية، السبكيّ، 5/165. الأعلام، الزركلي، 8/149، 150.

 

[2] ) شرح مسلم، النوويّ، 1/323، رقم 267.

 

[3] ) قد ثبت عن العلماء أن السلف أوّلوا تأويلًا تفصيليًّا، وإن كان قد اشتهر ذلك عن الخَلَف، فقد ثبت عن غير واحد من أئمة السَّلَف وأكابرهم كابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة، وتلميذه مجاهد الذي هو من أئمة التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاريّ وغيره. وقد تقدَّم. أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/428: «وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42}  (القلم) قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه: [الرجز]

    قَدْ سَنَّ أصحابُكَ ضربَ الاعناقْ    وقامتِ الحربُ بنا على ساقْ

    وجاء عن أبي موسى الأشعريّ  في تفسيرها: عن نور عظيم، قال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وقال الخطابيّ: تهيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقيّ الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كلٌ منهما حسنٌ وزاد: إذا خفي عليكم شىء من القرآن فابتغوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابيّ في إطلاق الساق على الأمر الشديد: في سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ=
=عَنْ سَاقِهَا» اهـ. وأما مجاهد فقال الحافظ البيهقيّ في الأسماء والصفات، 2/107: «وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، عن النضر، عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (البقرة)، قال: قِبلةُ الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها» اهـ.