السبت يوليو 27, 2024

قصة سليمان عليه الصلاة والسلام مع بلقيس ملكة سبأ

 

قص الله تبارك وتعالى علينا في القرءان الكريم قصة نبيه سليمان عليه السلام مع “بلقيس” ملكة سبأ في اليمن، وهي قصة رائعة فيها حكم كثيرة وفيها مغزى دقيق للملوك والعظماء، وفيها بيان لسعة مًلك سليمان عليه الصلاة والسلام حيثُ امتد من بيت المقدس إلى أقاصي اليمن ودانت له الملوك والأمراء، وقد اتخذ نبي الله سليمان عليه السلام المُلك وسيلة للدعوة إلى دين الإسلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يترك ملكًا كافرًا ظالمًا إلا ودعاه إلى الدخول في دين الله الإسلام وعبادة الله تعالى وحده، فمن لم يستجب لدعوته كان السيف هو الحكم الفصل، وهكذا انتشر دين الله في أقطار المعمورة وعمّ أرجاء الدنيا.

 

وتبدأ قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ عندما فصل سليمان عليه السلام عن وادي النمل حيث وقع سليمان مع جنوده في أرض جدباء لا ماء فيها فعطش الجيش فسألوه الماء، وكانت وظيفة الهدهد في جيشه أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء واحتاجوا إليه في القفار والصحارى في حال الأسفار أن يجئ الهدهد فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء، وكان الهدهد يدله على الماء بما خلق الله تعالى له من القوة التي أودعها فيه حيث كان ينظر إلى الماء تحت تخوم الارض، وكان يرى الماء في الارض كما يرى الماء في الزجاجة بمشيئة الله تعالى، فكان الهدهد إذا دلّهم على الماء وقال: ههنا الماء، شقَّقت الشياطين الصخر وفجّرت العيون، واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم.

 

فعندما عطش جيش سليمان عليه السلام واحتاجوا إلى الماء تنفقّد الطير فلم يره بينهم ولم يجده، فأخذ يتهدده بالذبح أو التعذيب إلا إذا أتاه بعذر مقبول عن سبب تخلفه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [سورة النمل/٢٠-٢١].

 

ثم أقبل الهدهد إلى سليمان عليه السلام، فلما سأله عن غيبته أخبره بأنه اطلع على ما لم يطلع عليه، وأخبره بخبر يقين صادق وهو أنه كان في اليمن في بلدة سبأ وأنّ هناك ملكة على هذه البلاد تُدعى “بلقيس” قد ملكت على تلك الأمة في اليمن وأوتيت من كل شيء يُعطاه الملوك ويؤتاه الناس، ولها عرش عظيم مزخرفٌ بأنواع الزينة والجواهر مما يبهر العيون، ثم ذكر لسليمان عليه السلام كفرهم بالله تعالى وعبادتهم الشمس والسجود لها من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصدهم عن عبادة الله تعالى، الذي يُخرج الخَبْءَ والمُستتر في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون وهو رب العرش العظيم، قال الله تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ* أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة النمل/٢٢-٢٦].

 

فعند ذلك بعث سليمان عليه السلام كتابًا ليوصله إلى هذه الملكة مختبرًا صدق الهدهد، وكان هذا الكتاب يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله ورسوله والخضوع لملكه وسلطانه قال تعالى: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [سورة النمل/٢٧-٢٨].

 

وحمل الهدهد كتاب سليمان عليه السلام وجاء إلى قصر بلقيس فألقاه إليها وهي على سرير عرشها ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتاب سليمان عليه السلام، وأخذت الملكة “بلقيس” الكتاب فقرأته ثم جمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها إلى مشورتها ثم قالت: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[سورة النمل/٢٩]  ما أخبر الله به في هذه الآية {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} [سورة النمل/٣٠] أي أن الكتاب من عنده {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[سورة النمل/٣٠-٣١]  ثم شاورتهم في أمرها وما قد حلّ بها وخاطبتهم بمضمون هذه الآية {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [سورة النمل/٣٢] تعني ما كنت لأبتّ أمرًا إلا وأنتم حاضرون، فأخذت رجال دولتها العزة بالإثم وثارت فيهم الحماسة للقتال و{قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ}[سورة النمل/٣٣] أي لنا قوة على القتال ثم قالوا لها بعد أن عرّضوا لها بالقتال {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [سورة النمل/٣٣]، ففكرت بلقيس بالأمر مليًا وبروية ولم تتحمس كتحمسهم واندفاعهم وكان رأيها أتمّ وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب قوي السلطان يغلب أعداءه ولا يخالف ولا يُخادع و{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة النمل/٣٤] تعني أن هذا الملك لو غلب على هذه المملكة لم يخلص الامر من بينكم إلا إليّ ولم تكن الشدة والسطوة البليغة إلا عليّ.

 

ثم عرضت بلقيس على رجال دولتها ووزرائها رأيًا وجدته أقرب إلى حلّ تلك القضية المستجدّة، وهي أن ترسل إلى سليمان عليه السلام هدية تصانعه بها وتستنزل مودته بسببها وتُحمّل هذه الهدية لرجال دهاة من رجالها حتى ينظروا مدى قوة سليمان عليه السلام، ثم بعد ذلك تقرر ما ستفعله في أمر سليمان على ضوء ما يأتيها من أخبار عن سليمان عليه السلام وقوته، يقول الله تعالى إخبارًا عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [سورة النمل/٣٥].

 

وأرسلت “بلقيس” رجالها بهدية تحتوي على الحليّ والجواهر غالية الثمن، فلما جاؤا سليمان عليه السلام ووضعوا بين يديه هدية بلقيس لم يقبلها، وأظهر لهم أنه ليس بحاجة إلى هديتهم وأن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بنعم كثيرة تفوق بكثير ما أنعم عليهم، ثم توعدهم وملكتهم بأن يرسل إلى بلادهم بجنود لا قدرة لهم على قتالهم ويخرجهم من بلادهم أذلة صاغرين يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة النمل/٣٦-٣٧].