الأحد نوفمبر 9, 2025

قال الله تعالى:
{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي}
[الأنعام: 77]

كان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء منذ صغره ونشأته مُسلمًا مؤمنًا عارفًا بربه معتقدًا عقيدة التوحيد مُنزهًا له عن مشابهة المخلوقات، ومُدركًا أنَّ هذه الأصنام التي يعبدها قومه لا تغني عنهم من الله شيئًا، وأنها لا تضر ولا تنفع لأن الضار والنافع على الحقيقة هو الله تعالى وحده.

قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»([1]): «والوجه الثاني في التأويل: أن نقول قوله (هذا ربي) معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم؟!». ثم قال: «المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه». اهـ.

أما سيد قطب فيقول في كتابه الذي سمّاه «التصوير الفني في القرءان» ما نصه([2]): «وإبراهيم تبدأ قصته فتى ينظر في السماء فيرى نجما فيظنه إلهه فإذا أفل قال لا أحب الآفلين، ثم ينظر مرة أخرى فيرى القمر فيظنه ربّه ولكنه يأفل كذلك فيتركه ويمضي ثم ينظر إلى الشمس فيعجبه كبرها ويظنها ولا شك إلها ولكنها تخلف ظنه هي الأخرى».اهـ

الرد:

قال الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وقال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صَدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وبدليل قوله تعالى وما كان من المشركين.

وكلام سيد قطب هذا مناقض لعقيدة الإسلام التي تنص على أن الأنبياء تجب لهم العصمة من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها، وقول إبراهيم عن الكوكب حين رءاه {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] هو على تقدير الاستفهام الإنكاري كأنه قال: «أهذا ربي كما تزعمون»، ثم لما غاب قال: «لا أحبّ الآفلين» أي لا يصلح أن يكون هذا ربّّا فكيف تعتقدون ذلك؟! ولما لم يفهموا مقصوده بل بقوا على ما كانوا عليه قال حينما رأى القمر مثل ذلك فلما لم يجد منهم بغيته أظهر لهم أنه بريء من عبادته وأنه لا يصلح للربوبية، ثم لما ظهرت الشمس قال مثل ذلك فلم ير منهم بغيته فأيس منهم فأظهر براءته من ذلك، وأما هو في حد ذاته فكان يعلم قبل ذلك أن الربوبية لا تكون إلا لله بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51].

وقال خالد الجندي المصري المتعالم – والعياذ بالله – في الشريط المسمى «العالم المجهول» بلسانه العامي: «إبراهيم شاف الكوكب قال: الله هو ده ربي فلما النجم اختفى قال لا بد أنّ هناك كوكبًا ءاخر أخفاه بيبقى النجم ده أضعف من غيره يبقى إللي أقوى منه هو يبقى ربي فلقى القمر قال بيبقى القمر ده رببي أكيد هو ده طالما إللي أخفاه ونجح في إخفائه يبقى أقوى منه شاف الشمس بازغة وقعد يتأمل في الشمس بقه الإلـه اللي اكتشفو أو يبتصورو عليه الصلاة والسلام». وهذا الكلام الساقط تكفير لنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنه كان جاهلًا بخالقه لا يعرف ربه تائهًا عن الإيمان والإسلام والحق المبين، ومن قال هذا في إبراهيم فهو من أكفر الكافرين ومن أبعد الناس عن الدين والإسلام، ويكفي في براءة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما قاله الله تعالى عنه {حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ومعنى {حَنِيفًا} أي مائلًا عن الباطل وعن كل الأديان إلى دين الحق الإسلام، وليس معنى «حنيفًا» أنه كان على دين اسمه «حنيفًا» هو غير الإسلام، ومن قال ذلك فقد كذّب قول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}. ومعنى {مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي أنه كان من طفولته إلى الممات على دين الإسلام، لم يعبد شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا ولا حجرًا ولا نارًا ولا وثنًا ولا شك في قدرة الله كما يفتري عليه الكفار بذلك، وإلا لم يقل الله تعالى: {مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. فقد ظهر الحق واتضح وبانت براءة إبراهيم وكل الأنبياء من الشرك والكفر واتباع غير الإسلام.

وقال المؤلفان البروفوسوران التركيان نور الدين محمد سولمان وإسماعيل لطفي شكان في كتابهما «مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان»([3]): «إبراهيم لم يعبد الكواكب ولا النجوم ولا الأصنام، وإن قول الله تعالى إخبارًا عن إبراهيم {هَذَا رَبِّي} على معنى الاستفهام الإنكاري، وأن عبادة الكواكب والنجوم من عقائد الكلدانيين، وإبراهيم عليه السلام بيَّن أن هذا الاعتقاد باطل، وعاب قومه لعبادتهم الكواكب والأصنام، وقال: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} ومعنى قوله: هذا بيان لهم على أن الذي يظهر ويختفي ويتغيّر من حال إلى حال وينتقل من مكان إلى مكان لا يكون إلٰهًا بل يكون مخلوقًا، والذي قال: {لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} كيف يكون عبد النجوم؟! والذي اعترض على قومه لعبادتهم الأصنام، كيف يعبد الصنم والنجوم؟!». اهـ.

فائدة مهمة عظيمة النفع تتعلق
بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

قال الحافظ الحجة القدوة الفقيه الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رحمه الله رحمة واسعة ورضي الله عنه، في كتابه «الدليل القويم على الصراط المستقيم» ما نصه([4]): «عصمة الأنبياء:

تجب للأنبياء العصمة من الكفر والكبائر وصغائر الخسة والدناءة كسرقة لقمة. ويجوز عليه ما سوى ذلك من الصغائر.

وهذا قول أكثر العلماء كما نقله غير واحد وعليه الإمام أبو الحسن الأشعري، وخالفه بعض الأشاعرة في وقوع الصغائر التي لا خسة فيها منهم فقال تاج الدين السبكي في قصيدته النونية:

والأشعري إمامنا لكننا

 

في ذا نخالفه بكل لسان

 أقول: يا ليته وافقه إذ هو الموافق للنصوص.

فإن قيل إننا مأمورون بالاقتداء بهم فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك.

فالجواب أنهم ينبهون فورًا فلا يُقَرُّون عليها بل يتوبون قبل أن يقتدي بهم أحد فزال المحذور.

فمن الغلو القبيح قول بعض المنحرفين من المتصوفة أن ءادم كان منهيًا عن الأكل من الشجرة ظاهرًا مأمورًا باطنـًا. وقال بعض هؤلاء في إخوة يوسف مثل ذلك وذلك تكذيب للنص.

أما في حق ءادم فقد قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] أخبرنا الله بأنه نُهِيَ ولم يخبرنا بأنه أُمِرَ بالأكل من الشجرة وكيف يجتمع الأمر بشئ والنهي عنه في حق شخص واحد في وقت واحد ثم أخبرنا بأنه تاب عليه بقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] وأما إخوة يوسف الذين كادوه فلم يخبرنا الله تعالى إلا بجرائمهم وأخبرنا أن يوسف قال لهم: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] فكيف يعقل أن يكونوا مأمورين باطنًا.

وكانت معصية الأكل صغيرة وليست كبيرة كما تدعي النصارى. فقد قالوا إن المسيح جاء ليخلص البشر من تبعتها وأعظِمْ بذلك افتراء. وكانت الكلمات التي تلقاها ءادم ما ذكر الله بقوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

قاعدة في عصمة الأنبياء: قال الشيخ التلمساني في «شرح لمع الأدلة» ما نصه([5]): «لا يجوز عليهم الكبيرة ألبتة ويجوز تعمد الصغيرة بشرط عدم الإصرار، ولا يجوز منهم صغيرة تدل على خساسة النفس ودناءة الهمة كتطفيف حبة وسرقة باقة بقل» اهـ، ثم قال([6]): «وأما عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر وعن كل صغيرة تؤذن بقلة الاكتراث بالدين فمستند إلى الإجماع القاطع، فإن السلف رضي الله عنهم لم يزالوا يحتجون بالنبي بأفعاله وأقواله ومتبادرون إلى التأسي به، وجميع الظواهر التي اعتمد عليها الحشوية قابلة التأويل». «وأما يونس فقيل: إنما كرّمه الله بالنبوة والرسالة بعد أن نبذ بالعراء قال الله عزّ وجل {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 50]، وأما نبيّنا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين في قصة الفداء في أسارى بدر والإذن للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعبوس الوجه لابن أم مكتوم فكلّ ذلك ترك للأولى). اهـ.

وقال التلمساني ما نصه([7]): «اعلم أنه لما ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمته في ما يبلغه عن الله تعالى وجب التصديق بكل ما أخبر من أمور الغيب جملة وتفصيلًا، فإن كان مما يُعلم تفصيله وجب اعتقاده، فإن لم يُعلم تفصيله وجب أن يؤمن به جملة ويرد تأويله إلى الله تعالى ورسوله ولمن اختصه الله عزّ وجل بالاطلاع على ذلك». اهـ.

 

 

بيان ما يجب عقلاً للأنبياء

يجب للأنبياء الصدق ويستحيل عليهم الكذب، وتجب لهم الفطانة ويستحيل عليهم البلادة والغباوة، وتجب لهم الأمانة فلا يجوز عليهم ارتكاب الخيانة بقول وحال وفعل كبيرة قبل النبوة ولا بعدها، أو بفعل صغيرة خسة فإذا استنصحهم شخص لا يكذبون عليه فيوهمونه خلاف الحقيقة، وإذا وضع عندهم شخص شيئًا لا يضيعونه أو ينكرونه.

وتجب لهم الفطانة أي الذكاء فكلهم أذكياء فطناء أصحاب عقول كاملة قوية الفهم فيستحيل عليهم البلادة والغباوة لأنهم بعثوا لبيان الحق فلا يليق بهم أن يكونوا قاصرين عن إقامة الحجة على من جانب الحق وعاداه قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83] ولأنهم لو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتهم والله حكيم لا يفعل ذلك.

ومما يجب للأنبياء الصيانة فيستحيل عليهم الرذالة كاختلاس النّظر إلى الأجنبية بشهوة وكسرقة حبّة عنب، وكذلك يستحيل عليهم السفاهة كالذي يقول ألفاظًا شنيعة، وكذلك يستحيل عليهم الجُبنُ فالأنبياء هم أشجعُ خلقِ الله وقد قال بعض الصحابة في ما رواه النسائي في السنن الكبرى كتاب السير باب مباشرة الإمام الحرب بنفسه «كنا إذا حَمِيَ الوطيس واحمرت الحُدُق أي في المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أقرب إلى العدو منه».

وكذلك يستحيل عليهم كل مرض منفّر. فمن نسبَ إليهم الكذب أو الخيانة أو الرذالة أو السفاهة أو الجبن أو نحوَ ذلك فقد كفر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه حسن الصوت وإن نبيَّكم أحسنُهُم وجهًا وأحسنُهُم صوتًا» رواه الترمذي([8]). فالأنبياء كلهم كانوا ذوي حُسن وجمال فلا يجوز عليهم المرضُ الذي ينفّرُ الناسَ منهم، ولا يسلط الله تعالى عليهم هذه الأمراض، أما المرض المؤلم الشديد حتى لو كان يحصل منه الإغماءُ أي الغَشْيُ فيجوزُ عليهم.

تنبيه: أيّوب عليه السلام ابتلاه الله بلاءً شديدًا بمرض غير منفر استمر ثمانية عشر عامًا وفقد ماله وأهله ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، لكن بعض الجهّال يفترون عليه ويقولون إن الدّود أكل جسمه فكان الدّودُ يتساقط ثم يأخذ الدّودة ويعيدها إلى مكانها من جسمه ويقول «يا مخلوقة ربّي كُلي من رزقك الذي رزقك»، نعوذ بالله هذا ضلال مبين لا يليق نسبته إلى نبي من أنبياء الله ولا له إسناد صحيح.

وأمّا نبي الله موسى عليه السلام الذي تأثّر لسانه بالجمرة التي تناولها ووضعها في فمه حين كان طفلا أمام فرعون لحكمة فلم تترك الجمرة في لسانه أن يكون كلامه غير مفهم للنّاس بل كان كلامه مفهمًا لا يبدل حرفًا بحرف بل يتكلم على الصواب لكن كان فيه عقدة خفيفة أي بطء من أثر تلك الجمرة ثم دعا الله تعالى لما نزل عليه الوحي قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27، 28]، فأذهبها الله عنه.

الحاصل: أنّ أنبياء الله كلّهم أصحاب خلقةٍ سويّةٍ لم يكن فيهم ذو عاهةٍ في خلقته ولم يكن فيهم أعرج ولا كسيح ولا أعمى إنّما يعقوب من شدّة بكائه على يوسف ابيضت عيناه من شدّة الحزن فعمي ثم ردّ الله تعالى عليه بصره لما أرسل يوسف بقميصه من مصر إلى مدين وهي البلدة التي فيها أبوه فشمّ يعقوب ريح يوسف في هذا القميص فارتدّ بصيرًا فهو لم يكن أعمى من أصل الخلقة إذ النبيُّ أوّل ما ينزل عليه الوحي لا بدّ أن يكون بصيرًا ثم بعد ذلك يجوز أن يعمى لمدةٍ كما حصل لنبي الله يعقوب عليه السلام.

وأمّا الذي يقول إن ءادم عليه السلام كان متوحشًا قصير القامة شبيهًا بالقرد فهو كافر، وكذلك من قال إنه كان يمشي في الأرض عريانا كالبهائم لأن في ذلك تكذيبًا للقرءان قال تعالى في سورة التين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ *وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 – 4]، أي في أحسن صورة، فقول بعض الملحدين في العصور الأخيرة إن أوّل البشر كان على صورة القرد تكذيب للآية المذكورة وللحديث الصحيح: «كان ءادم ستين ذراعًا طولًا في سبعة أذرع عرضًا» رواه أحمد في مسنده.

تنبيه: لا يجوز أن يقال إنّ فعل اللواط مشتق من اسم نبيّ الله لوط، وقد ذكر الفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في كتاب «تشنيف المسامع» ما نصه([9]): «إن الأفعال مشتقة من المصادر على الصحيح، والأفعال أصل للصّفات المشتقة منها فتكون المصادر أصلاً لها أيضًا».اهـ

وقال أبو منصور الجواليقي اللغوي في كتابه المعرب([10]): «وكل أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة ءادم وصالح وشعيب ومحمد» اهـ، وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة من الأنبياء من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد» وكيف يمضي هذا الزمن الطويل من ءادم إلى لوط من غير أن تكون اللغة العربية هي أول لغة تكلم بها ءادم وعلّمها أبناءه كلغات غيرها فيها فعل اللواط بل كان أولاد ءادم ومن بعدهم يعرفون كلمة لاط بتصاريفها كما كانوا يعرفون كلمة الزنى وتصاريفها، وقائل هذا كالذي يقول إن البشر ما كانوا يعرفون كلمة الزنى وتصاريفها حتى مضى على البشر زمان طويل، وكيف يكون هود وصالح اللذان هما مبعوثان إلى العرب لغتهما ولغة من أرسلا إليه خالية عن هذه الكلمة فلا يغترّ بنقل هذه المقالة الشنيعة في كتاب «لسان العرب»([11]) و«شرح القاموس المسمى تاج العروس»([12]) عن الليث فإن الزجاج كما في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرءان قد زيفها.

اللواط لفظ عربي هو مصدر لاط ولوط اسم أعجمي فكيف يدّعي مدّع أنه مشتق من اللواط، وكذلك عكسه وهو القول بأن اللواط مأخوذ من لوط، فلفظ اللواط كان قبل قوم لوط لأن اللغة العربية لغة قديمة حتى قال بعض العلماء كما في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرءان: «إن أول لغة تكلم بها ءادم هي العربية ويشهد لذلك ما ورد في الصحيح «أن ءادم عطس فقال الحمد لله»، وإنما قوم لوط هم أول من فعل تلك الفعلة الشنيعة، أما اللفظ فقد كان موضوعًا بين المتكلمين باللغة العربية قبل لوط كقوم عاد، وليس في قول الله تعالى إخبارًا عن قول لوط لقومه {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80]، أن لفظ اللواط لم يكن قبل ذلك وإنما معناه أنَّ فعل تلك الفاحشة لم يسبقهم بها قبلهم غيرهم، فوضع الكلمة يتقدّم على العمل به. ولا يقاس المشتق على المعرب فالمعرب لا يسمى مشتقًا فهو شيءٌ والاشتقاق شيءٌ ءاخر فالمعرب نقل لغة أعجمية إلى العربية كأسماء الأعيان نقل عدد منها استعملتها العرب وفرق بعيد بين هذا وبين الاشتقاق.

ثم إن الله تعالى صان الأنبياء من المنفّرات ككون أساميهم من الأسماء القبيحة الشنيعة وأخلاقهم من الأخلاق القبيحة، فمن نسب إليهم اسمًا شنيعًا بشعًا فقد انتقصهم، وقد صحّ أن الرسول قال: «ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه حسن الصوت» رواه الترمذي فإذا كان الأنبياء هكذا يتعيّن أن تكون أساميهم حسنة، فكيف استساغ بعض اللغويين القول إنّ لوطًا مأخوذ من اللواط بل هذه المقالة باطلة شنيعة لغة وشرعًا، فليحذر من تقليد هؤلاء. وكيف خفي على من قال تلك المقالة أن الأفعال وأسماء الأفعال وأسماء الفاعلين والصفة المشبّهة وأفعل التفضيل كل ذلك مشتق من المصدر، قال أبو القاسم في «ملحة الإعراب»([13]): [الرجز]

والمصدر الأصل وأي أصلِ

 

ومنه يا صاح اشتقاق الفعل

 فكيف استجازوا أن يكون اسم هذا النبي الكريم مشتقًا من اللواط، أو أن يكون اللواط مشتقًا منه. الله تعالى عصم الأنبياء من أن تكون أسماؤهم خبيثة أو مشتقة من خبيث أو يشتق منها خبيث، ولا يخفى على المتأمل أن قول هؤلاء لا ينطبق على أنواع الاشتقاق الثلاثة التي بينّها العلماء في محلها.

وما نقله الأزهري في تهذيب اللغة([14]) عن الليث من أن الناس اشتقّوا من اسم لوط لمن فعل اللواط لا يتفق مع ما قاله الأزهري أيضًا من أن ما سوى الأسماء الأربعة من أسماء الأنبياء أعجمية، فلا اعتماد عليه. هذا وقول الليث إن الناس اشتقّوا من اسم لوط فعلًا لمن فعل اللواط ليس صريحًا في أن هذا اشتقاق صحيح لغة فلعل مراده أن هذه نسبة غير معتبرة وإنّما بعض الكفار فعلوا ذلك ولا يريد بذلك تصحيح اشتقاق ذلك الفعل من اسم لوط عليه السلام.

وأما قول الناس لمن يفعل تلك الفعلة لوطيٌّ فإنّما هو نسبة إلى قوم لوط وليس إلى لوط نفسه، عملًا بالقاعدة العربية في النّسبة من أنّهم إذا نسبوا شيئًا إلى اللفظ المركّب من مضاف ومضاف إليه يذكرون لفظ المضاف إليه فيقولون في عبد القيس فلان قيسي ولا يفهمون منه إلا القبيلة، وكذلك قول لوطيّ، على أن هذه ليست من العبارات المستحسنة أمّا اللفظ الصحيح أريد اللفظ عند النسبة أن يقال فلان اللواطي أو فلان اللائط.

والحاصل: أن ما ذكر من اشتقاق لاط ونحوه من اسم لوط ليس في شيء من الاشتقاق المصطلح عليه عند اللغويين لأن الاشتقاق المصطلح عليه عندهم شرطه أن يكون المشتق والمشتق منه من لغة العرب لقولهم في تعريفه: «ردّ لفظ ءاخر لمناسبة بينهما مع تقسيمهم أنواعه الثلاثة إلى أمثلة من اللغة العربية حيث مثّلوا للاشتقاق الأصغر بحلب وحلب وللأوسط؛ جذب وجبذ وللأكبر بثلب وثلم وما أشبه ذلك، ولوط عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام وهما ليسا عربيين بالاتفّاق انتهى.

ويجب للأنبياء أيضًا التبليغ فلا يجوز عليهم أن يكتموا ما أمروا بتبليغه لأن ذلك ينافي منصب النبوة. وقد دلَّ على ذلك قولُهُ تعالى في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}.

فمعنى تمنى في هذه الآية تلا وقرأ، ومعنى ألقى الشيطان في أمنيّته أي يزيد الشيطان على ما قالوه ما لم يقولوه ليوهموا غيرهم أن الأنبياء قالوا ذلك الكلام الفاسد، وليس معناه أن الشيطان يتكلم على لسان النبي فقد قال الفخر الرازيّ في التفسير الكبير([15]): «من جوَّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر».اهـ أي يكفر من قال إن الشيطان أجرى كلامًا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو مدح الأوثان الثلاثة اللات والعزى ومناة بهذه العبارة «تلك الغرانيق وإنَّ شفاعتهن لترتجى» إذ يستحيل أن يمكّن الله الشيطان من أن يجري على لسان نبيه مدح الأوثان.

وإيضاح هذا القضية أن الرسول كان يقرأ ذات يوم سورة النجم فلمّا بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} انتهز الشيطان وقفة رسول الله وسكتته فأسمع الشيطان المشركين الذين كانوا بقرب النبي موهمًا لهم أنه صوت النبي هذه الجملة «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ففرح المشركون وقالوا ما ذكر محمد ءالهتنا قبل اليوم بخير فجاء جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحال فحزن الرسول فأنزل الله هذه الآية تسلية له «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته» فأنزل الآية المذكورة ءانفًا لتكذيبهم معنى قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يكشف الله ويبيّن أنه ليس من كلام الأنبياء، وذلك ابتلاء من الله وامتحان ليتميز من يتّبع ما يقوله الشيطان ومن لا يتبع فيهلك هذا ويسعد هذا.

وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في صحيحه: «كان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة» أنّ من سوى نبيّنا محمد لم يجب عليه أن يبلّغ من هم من سوى قومه إنّما المعنى أن الأنبياء غير نبيّنا أرسلوا إلى أقوامهم أي أن النص لهم كان أن يبلّغوا قومهم ليس معناه أنهم لا يبلّغون سوى قومهم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل من استطاع من أفراد المكلفين وذلك في حق الأنبياء أوكد.

وليعلم أن كل الأنبياء فصحاء فليس فيهم من يكون في لسانه عقدة وحبسة ويعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه، ولا تأتاء في الأنبياء ولا ألثغ ولا أرت. وأمّا الألثغ فهو الذي يُصيّر السين ثاء وأما الأرت فهو الذي لا يفصح الكلام ولا يبينه. وأنّه يستحيل عليهم سبق اللسان في الشّرعيات والعاديّات لأنه لو جاز عليهم لارتفعت الثقة في صحة ما يقولونه ولقال قائل عندما يبلغه كلام عن النبي «ما يدرينا أنه يكون قاله على وجه سبق اللسان»، فلا يحصل من النبي أن يصدر منه كلام غير الذي أراد قوله، أو أن يصدر منه كلام ما أراد قوله بالمرّة كما يحصل لمن يتكلم وهو نائم.

أمّا النسيان الجائز عليهم فهو كالسّلام من ركعتين كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم مما ورد من أنّه قيل لرسول الله أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت قال «كل ذلك لم يكن» ثم سأل أصحابه «أصدق ذو اليدين» – وهو السائل – فقالوا نعم فقام فأتى بالرّكعتين. رواه مسلم في صحيحه.

وممّا يستحيل على الأنبياء أيضًا الجنون، وأمّا الإغماء فيجوز عليهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغمى عليه من شدّة الألم في مرض وفاته ثمّ يصبُّ عليه الماء فيفيق.

ومما يستحيل عليهم تأثير السحر في عقولهم فلا يجوز أن يعتقد أن الرسول أثّر السحر في عقله وإن قاله من قاله. وأما تأثير السحر في جسد النبي فقد قال بعض العلماء إنه جائز فقد ورد أن يهوديًّا عمل السحر لرسول الله فتألم الرسول من أثر ذلك.

وكذلك يستحيل على الأنبياء الجبن أما الخوف الطبيعي فلا يستحيل عليهم بل هو موجود فيهم وذلك مثل النفور من الحية فإن طبيعة الإنسان تقتضي النفور من الحية وما أشبه ذلك مثل التخوف من التكالب عليهم حتى يقتلوهم فإن ذلك جائز عليهم.

ولا يختار الله تعالى لهذا المنصب إلا من هو سالم من الرذالة والخيانة والسفاهة والغباوة والبلادة فمن كانت له سوابق من هذا القبيل لا يصلح للنبوة ولو تخلى منها بعد، فلا تجوز النبوة لإخوة يوسف الذين فعلوا تلك الأفاعيل. وليس المراد بقوله تعالى: {وَالأَسْبَاطِ} إخوة يوسف هؤلاء بل المراد ذريتهم أو ما يشمل أخاهم بنيامين وذريتهم.

وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] فقد قيل فيه نحو خمس تأويلات وأحسنُ ما قيل في ذلك أن يقال قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا} مربوط بما بعده أي بقوله: (لولا أن رأى برهان ربه) فيكون على هذا التفسير ما همَّ يوسف بالمرة لأنه رأى البرهان، أما لو لم ير البرهان لهم، والبرهان هو العصمة أي أنه أُلهِمَ أن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الشيء وأنه سيؤتى النبوة فلم يهمّ. هذا أحسنُ ما قيل في تفسير هذه الآية. وقال بعض علماء المغاربة معنى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي همت بأن تدفعه ليزني بها وهمَّ يوسف بدفعها ليخلص منها.

والخلاصة: أن الأنبياء لا يقعون في الزنى ولا يهمّون به.

 

 

بيان ما جاء في عدد الأنبياء

أخرج ابن حبان من حديث أبي ذر أنه سألَ رسولَ الله عن عدد الأنبياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». وأنه قال كم الرسل منهم؟ فقال «ثلاثمائة وثلاثة عشر». وصححه لكن في سنده من هو مختلف في توثيقه فلا تقوم به حجة عند جمهور علماء التوحيد، فقد قدمنا أنهم يشترطون للاحتجاج بالحديث في العقائد أن يكون الحديث مشهورًا وإن كان دون المتواتر فقد احتج الإمام أبو حنيفة بأخبار هي في درجة المشهور في بعض رسائله التي وضعها في العقيدة.

ثم إن الصحيح تفضيل الأنبياء على الملائكة بدليل قوله تعالى بعدما ذكر عددًا من الأنبياء منهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86].

والعالمون يشمل الإنس والجن والملائكة. فبطل زعم من زعم تفضيل الملائكة على الأنبياء محتجًّا بقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]». انتهى كلام الإمام الهرري.

وقال الحافظ زين الدين العراقي في كتابه «طرح التثريب في شرح التقريب»([16]): «قال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخَلق والخُلق سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما قاله من لا تحقيق عنده في هذا الباب من أصحاب التاريخ في صفات بعضهم وإضافته بعض العاهات – المنفِّرة – إليهم فالله تعالى نزههم عن ذلك ورفعهم عن كل ما هو عيب ونقص مما يغض العيون وينفر القلوب، انتهى كلام القاضي عياض، وكذا ذكر النووي والقرطبي هذا». اهـ.

وعند شرحه([17]) لحديث (خرَّ عليه جرادٌ من ذهب فجعل أيوبُ يحتثي في ثوبه) يقول الحافظ زين الدين العراقي: «الرابعة: فيه أنه لا يُحكَم على الإنسان بالشَّرَهِ وحُبِّ الدنيا بمجرد أخذه لها والإقبال عليها، بل ذلك يختلف باختلاف المقاصد وإنما الأعمال بالنيات، فمُحالٌ أن يكون أيوب عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المال حُبًّا للدنيا، وإنما أخذَه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه». اهـ.

فإذا كان حب الدنيا مستحيلاً عليهم، فكيف يُنسَبُ بعد ذلك الزنى ليوسف أو أنه أراد الزنى أو أن داود أراد أن يقتل قائد جيشه ليتزوج امرأته بعده أو أن عيسى شرب الخمر أو أن إبراهيم أشرك بربه، أو أن نبيّنا محمدًا صلى الله عليه وعلى كل الأنبياء وسلم كان متعلق القلب بالنساء، أو كما يقول بعض الماجنين الساقطين بالعامية (شهونجي) أو (نسونجي)، وهذا وأمثاله مما يُنسَب للأنبياء مما لا يليق بمنصب النبوة ويُكَذِّبُ عصمتَهم هو كفرٌ وخروج من الإسلام.

وقال المفسر فخر الدين الرازي في كتابه «عصمة الأنبياء» ما نصه([18]): «والدعوة تستلزم أن يكون للداعي من المهابة في النفوس والإجلال في القلوب والمنزلة الكريمة عند الناس وظهور الكمال الخَلقي والخُلقي حتى تخضع لها الفطر السليمة والقلوب المستقيمة. ومن أجل هذا بعث الله أنبياءه في أشرف أقوامهم نسبًا وبرَّأهم من العيوب الجسيمة المشوهة وأعطاهم أكمل صفات الرجولة من الشجاعة وصدق العزيمة وقوة الإرادة وشدة البأس وسعة الصدر وحدة الذهن وذكاء القلب وطلاقة اللسان وحلاوة المنطق، وما إلى ذلك مما يكون به المختار لرسالة ربه أكمل الرجال في قومه وقبيلته وأملأهم للأسماع والأبصار». اهـ.

وقال المفسر الرازي أيضًا في كتابه المسمى «النُبوَّات» ما نصه([19]): «يمتاز النبي عن سائر البشر بالعقل الراجح والخُلق العظيم، من قبل النبوة ومن بعدها، لأن الناس لا يصدقون إلا من يثقون فيه». اهـ.

وقال أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي المعروف بابن خُمَير في كتابه «تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء» ما نصه([20]): «وغرضُ هؤلاء الفسقة في سرد تلك الحكايات الـمُورّطةِ قائلَها وناقلَها في سخط الله تعالى أن يُهَوّنوا الفُسوق والمعاصي على بُلْهِ العوامّ» ويقول([21]): «والذي يُعَوّل عليه في هذه القصة وما يُضاهيها من القصص، ما جاء به الكتاب العزيز، أو ما صحَّ عن الرسول – عليه السلام – من الخبر، وما سوى ذلك فيُطرَحُ هو ومُختَلِقُه وراويه إلى حيثُ أَلقت رَحْلَها أُمّ قَشْعم» ويقول([22]): «فصل. تفصيلٌ في معنى (الهَمّ) وتوضيح. فإن قيل: فما الحق الذي يُعوَّل عليه في هذا الهمّ؟ فنقول: أولًا: إن بعض الأئمة ذكروا أن الإجماع منعقد على عصمة بواطنهم من كل خاطر وقع فيه النهي» ويقول([23]): «وأما قولهم: نظر في الكوكب فقال: «هذا ربي»، مُعتقدًا لذلك فباطل، فإن هذا القولَ كُفرٌ صُرَاح، وما كَفَر نبيٌّ قطُّ ولا سَجَد لِوَثَنٍ قبل النبوة ولا بعدها، ولا تَفَوَّه أحدٌ من الأمة بذلك قط» ويقول([24]): «فحاشاهم أن يكفروا اعتقادًا أو يتلفَّظوا بكلمةِ كُفر: صغارًا كانوا أو كبارًا». اهـ.

قال المفسر محمد بن أحمد القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرءان قال ما نصه([25]) في قصة سيدنا أيوب في تفسير قوله تعالى إخبارًا عن سيدنا أيوب (مسني الضر): «السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح مسني الضر فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدًّا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: مسني الضر لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: ليس له سند وهو دعوى عريضة – أي كذبة كبيرة -». انتهى بالمعنى. وما قيل من الكذب والافتراء والازدراء بنبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام من أن الشيطان تسلط عليه أو لعب به أو أنه عليه السلام خرج منه الدود أو ألقي على مزبلة بني إسرائيل أو أن الرائحة الكريهة خرجت منه أو أنه قال لزوجته عندما سألته أين أيوب إن الكلاب أخذته وما قيل إن صاحبه قال فيه إنه لو لم يذنب ذنبًا كبيرًا عظيمًا ما ابتلاه الله هذه المدة أو قولهم إن الله عاقبه بالأمراض البشعة لأنه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو قولهم أن الله دنا من أيوب في غمامة فنودي أن أدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وغير هذا من دسائس اليهود على الأنبياء والأخبار الركيكة السخيفة المركبة التي ما أنزل الله بها من سلطان وعلى واضعها من الله ما يستحق من اللعنات والسخط والغضب.

وممن ردّ هذه الأكاذيب والأباطيل مروان سوار مدقق المصاحف في وزارة الأوقاف السورية في تحقيقه لكتاب تفسير البغوي المسمى (معالم التنزيل) فقال ما نصه: «قصة إبليس هذه من وضع أحد تلاميذه ولا يصح في دين الله سبحانه أن نصدق أن الله سبحانه يسلط هذا اللعين الخبيث على أنبيائه، حاشا لله عزّ وجلّ وهو القائل في كتابه الكريم في سورة الإسراء والحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} في معرض خطابه سبحانه لهذا اللعين، وقال سبحانه في سورة النحل {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فمن هو الأولى بهذه الرعاية الإلهية؟ أليس الأنبياء والمرسلون ثم من بعدهم المؤمنون؟ اللَّهُمَّ بلى!! ويا ليت الإمام البغوي قد أغفل ذكر هذه الأباطيل وأراح منها الإيمان والإسلام».

وقال عمّا يفترى على سيدنا أيوب من أن الدود يخرج منه ثم يعيده إلى جسده ما نصه: «هذا زعم باطل يتنافى مع عصمة الأنبياء وحفظهم من الله تعالى من كل الأمراض المنفرة، وذلك لتبليغ الدعوة، ولا يعقل أن الله تبارك وتعالى يشغل نبيّه أيوب عليه السلام بألاعيب إبليس اللعين عن أمور الدعوة والتبليغ والعبادة، نعم: إنه صحيح أن الأنبياء أشد الناس بلاء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يكن الله سبحانه وتعالى ليبتليهم بتسليط إبليس عليهم وجعلهم ألعوبة بين يديه كما تصوره هذه الأخبار الباطلة المختلقة. ولا ندري كيف استساغ الإمام البغوي على جلالة قدره ذكر هذه الأخبار المنكرة ولم ينبه على بطلانها؟!».

وعلّق أيضًا على القول الفاسد إن أيوب نودي بأن الله قد دنا منك فادل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك… إلى آخر هذا الافتراء على الله وعلى نبيِّه، فقال مروان سوار ما نصه: «لا يخفى أن هذا الكلام مختلق مكذوب على الله تعالى وعلى نبيه أيوب عليه السلام وسبحانك ربي إن هذا لبهتان عظيم».

وقال في معرض ردّه على الافتراء الموجود في كتاب البغوي أن إبليس تسلط عليه ما نصه: «إن مما لا شك فيه أن هذه الأخبار التي تتضمن تسلط إبليس اللعين على أيوب عليه السلام لم تثبت عن صادق، وليس لها أصل في دين الله تعالى، وإنا لنبرأ إلى الله تعالى من كل أفاك أثيم».

ثم قال أيضًا عن كذبهم على سيدنا أيوب من أنه لم يبق له إلا عيناه وأن إبليس قال أنا أداويه على أن يقول أنت شفيتني وغير ذلك من الكذب ما نصه: «هذا والله لتتقزز نفس البشرية من هذا الكلام الفاحش والبهتان المفتري على نبي الله أيوب عليه السلام، وإنا لنرى أن بلاء أيوب مستمر بعد وفاته حتى يأذن الله تعالى لمن يزيل هذه الأباطيل من كتب التفسير والله المستعان على ما يصفون وهذا على شاكلة ما سبق من البهتان». اهـ.

وفي كتاب «مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان» ما نصه([26]): «مرض أيوب عليه السلام ليس كما هو مذكور في التوراة المحرفة وبعض الكتب من أن أيوب عليه السلام نزل منه الدود وذكر أن مرضه منفر غير صحيح، ولا نبي من أنبياء الله يصاب بمرض منفر للدعوة ولا بمرض يؤخره عن الدعوة إلى الحق، أيوب عليه السلام ذهب ماله ومات أولاده وأصيب بالمرض لكن هذا المرض ليس مرضًا منفرًا لكن بعض الناس يذكرون هذا الكلام المكذوب حتى يتأثروا به ويقولون قصدنا أن نظهر قوة صبر أيوب من هذه القصة ولكن قولهم هذا مناقض للإيمان في حق الأنبياء». اهـ.

وقال الشيخ محمد درويش الحوت في كتابه المسمى «أسنى المطالب» في ما افتُريَ على سيدنا أيوب من أنه تناثر منه الدود([27]): «ما يذكره أهل القصص وبعض المفسرين من المنفرات طبعًا كل ذلك زور وكذب وافتراء محض ولا عبرة بمن نقل ذلك». ثم قال بعد ذكر القصة المفتراة على داود عليه السلام من أنه عشق امرأة قائد جيشه: «كل ذلك كذب من وضع اليهود ولا عبرة بمن نقله عنهم من المفسرين». اهـ.

تنبيه مهم: مما يجب التحذير منه كتاب (قصص الأنبياء) للثعالبي، ففيه مثل هذه المواضع وزيادة عليها من قصص أخرى مفتراة لا أصل لها، كالقصة التي تروى أن الدود كان يتناثر من جسد أيوب عليه السلام في مرضه فصار يردها إلى جسده ويقول لها: «كلي فقد جعلني الله طعامك» وأن أيوب عليه السلام على زعمه تقطع لحمه وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشًا، نعوذ بالله تعالى من الضلال فقد أجمع علماء الإسلام على أن أنبياء الله هم صفوة خلق الله وهم علماء حكماء معصومون بعصمة الله لهم تبارك وتعالى فيستحيل على أحدهم أن يضر نفسه – لأن حفظ النفس مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء وأجمع عليه العقلاء -، ويستحيل عليهم أيضًا الأمراض المنفّرة التي تنفّر الناس عنهم، وهذه القصة لا تجوز في حق نبي من الأنبياء وهي كذب، وهي مذكورة أيضًا في بعض التفاسير غير المعتمدة.

وإنما أيوب عليه السلام ابتلاه الله تبارك وتعالى بلاء شديدًا استمر مرضه ثمانية عشر عامًا وفقد ماله وأهله ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، وأما أن مرض أيوب طال ثمانية عشر عاما فهو في صحيح ابن حبان. اهـ.

 

 

براءة الأنبياء مما نُسِب كذبًا وزورًا للعلماء

براءة الحافظ ابن حبان مِن دَس الـمُحَرّفين: مما دسّوا عليه في صحيحه([28])، قولهم إن عددًا من خيرة الأنبياء وهم آدم، نوح، إبراهيم، موسى وعيسى، يقولون يوم القيامة أنهم يخافون أن يُطرَحوا في النار.

والعياذ بالله من الافتراء على الأنبياء، فإذا كان الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فكيف بالأنبياء؟! قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 101 – 103]، وهذه الآيات الكريمة صريحة بأن الأنبياء والأولياء محفوظون من العذاب ومن دخول النار بأي شكل من الأشكال، فمن نسب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأنهم يخافون من أن يطرحهم الله في النار فقد جعلهم كالعصاة الفاسقين الذين يخشى عليهم من العذاب في جهنم يوم القيامة، وجعلهم غير عارفين بمقامهم وبمرتبتهم العظيمة كما قال الله عنهم في سورة الأنعام: {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}».

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أحبّ الخلق إلى الله، والله لا يعذّب أحبابه، وهم في أعلى مرتبة في الجنة، فمن قال إنهم يخشون على أنفسهم من عذاب النار في الآخرة فقد كذّب صحيح المنقول وصريح المعقول، فهو كافر بالله غير عارف بعصمة الأنبياء.

والحافظ ابن حبان رحمه الله بريء من ذلك. براءة الإمام النووي مِن دَس الـمُحَرّفين: ممّا دسّوا عليه في كتاب الأذكار([29])، قولهم([30]) وكذا([31])، إن نبيًّا من الأنبياء أصاب قومه بالعين فمات منهم سبعون ألفًا.

والعياذ بالله من الافتراء على الأنبياء عليهم السلام، فقد عصمهم الله من ذلك، فإذا كان من المصالح العامة أن الذين يصيبون بالعين يحجزهم الخليفة عن الناس، فكيف يجوز ذلك على الأنبياء وقد أمرهم الله تعالى أن يخالطوا الناس لتعليمهم مصالح دينهم ودنياهم، وهذا ينفي أن يكون نبي من الأنبياء يصيب الناس بالعين، ولو أصابوا بالعين لكان ذلك سببًا لنفور الناس وهربهم منهم، ثم إن الذي يصيب بالعين ويؤذي الناس ويقتلهم هو صاحب نفس خبيثة، وهذا مستحيل على أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام فهم أزكى خلق الله نفوسًا وأطهر خلق الله باطنًا وظاهرًا، نقاءً وصفاءً، وأبعد خلق الله عن خبث النفس ورذالة الأعمال، فمن نسب إليهم غير ذلك فإنه منتقص لهم مكذب للإسلام يلزمه أن يتراجع عن ذلك وينطق بالشهادتين للرجوع إلى الإسلام.

والإمام النووي رحمه الله بريء من ذلك.

([1]) التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد السابع الجزء 13 ص41).

([2]) التصوير الفني في القرءان (في ص133 طبعة دار الشروق).

([3]) مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان (مطبوع في استنبول في 10/2/1975 بتصديق وموافقة دائرة التعليم الدولي في تركيا وبموافقة وزير التربية والتعليم، في ص63).

([4]) الدليل القويم على الصراط المستقيم (الطبعة الثانية طبع دار المشاريع 1430هـ ص336 إلى 349).

([5]) شرح لمع الأدلة (ص197، مخطوط).

([6]) المصادر نفسه، (198).

([7]) المصدر نفسه (ص201).

([8]) الشمائل (ص261).

([9]) تشنيف المسامع (1/420).

([10]) المعرب (ص13).

([11]) لسان العرب (7/396).

([12]) شرح القاموس المسمى تاج العروس (5/218).

([13]) ملحة الإعراب (ص38).

([14]) تهذيب اللغة (14/25).

([15]) التفسير الكبير (23/51).

([16]) طرح التثريب في شرح التقريب (دار الكتب العلمية، الجزء الثاني ص201).

([17]) المصدر نفسه، (ص205، 206).

([18]) عصمة الأنبياء (دار الكتب العلمية ص13).

([19]) النُبوَّات (تحقيق أحمد حجازي السقا، ص8).

([20]) تنزيه الأنبياء عما نَسَبَ إليهم حُثالة الأغبياء (دار الفكر المعاصر – بيروت، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثانية ص36).

([21]) المصدر نفسه، (ص38).

([22]) المصدر نفسه، (58).

([23]) المصدر نفسه، (98).

([24]) المصدر نفسه، (99).

([25]) الجامع لأحكام القرءان (طبعة دار الفكر بيروت الطبعة الأولى سنة 1407هـ المجلد 11 ص 323 – 324).

([26]) مجادلة الأنبياء في التوحيد لأقوامهم على حسب ما جاء في القرءان (للمؤلفين البروفسور نور الدين محمد سولماس والبروفسور إسماعيل لطفي شكان، طبع في إسطنبول في 10-2-1975 بتصديق وموافقة التعليم الدولي في تركيا بموافقة وزير التربية والتعليم ص180).

([27]) أسنى المطالب (دار الكتاب العربي ص376).

([28]) (طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1407هـ، المجلد الثامن ص130).

([29]) الأذكار (طبعة دار المنهاج الطبعة الأولى سنة 1425هـ).

([30]) المصدر نفسه (ص515).

([31]) المصدر نفسه، (طبعة مكتبة المتنبي – القاهرة ص284).