الجمعة نوفمبر 8, 2024

فصل في بيان أن كلام الله تعالى الذي هو صفته ليس بحرف ولا صوت عند أهل السنة

 

اعلم أن القائل بخلق القرءان الذي يُكَفَّرُ هو الذي يعتقد أن الله ليس له كلام إلا الصوت الذي يخلقه في غيره. هذا الذي يكفره الشافعي وغيره، وهذا مذهب المعتزلة الذين يقولون الله ليس له كلام إنما كلامه ما يخلقه في غيره كالإنسان والملائكة والجن والشجرة التي وقف عندها موسى فسمع ما سمع على تفسير من فسر ءاية: {فلَمَّا أتاها نُودِيَ يا موسى* إنّي أناْ ربُّكَ} [سورة طه/11-12] أن هذا الصوت خلقه الله في الشجرة فسمعه موسى لا على تفسير ذلك بأنّ موسى سمع كلام الله الذي ليس صوتًا بل عُبّر عنه بما هو حرف وصوت. والنداء يكون صوتًا ويكون غير صوت كما دلّت على ذلك هذه الآية في حق ءادم وحواء {وناداهُما ربُّهُما أَلَمْ أنْهَكُما عن تِلكُما الشجرةِ} [سورة الأعراف/22] فإنهما سمِعا نداء الملك المأمور بذلك مبلّغًا عن الله. وهذا دليل على أن نسبةَ النداء إلى الله ليسَ معناه أن الله أسمعهما صوتًا منه. وقول من قال لا يكون النداء إلا بصوت باطل.

والراجح من التفسيرين أن سيدنا موسى سمع كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا بالطور وعندما أتى الشجرة وليس الذي سمعه صوتًا خرج من الشجرة، فإنه سمع الكلام الذاتي في المقامين.

 

والذي يجب اعتقاده أن الله تعالى متكلم بكلام غير مخلقو ليس حرفًا ولا صوتًا لأن الحرف والصوت مخلوقان لأنهما يحدثان ثم ينقضيان ثم يحدثان ثم ينقضيان وهذا صفة المخلوق، ولو كان كلامُه من هذا النوع لكان مشابهًا لنا ليس كما تقول المشبهة إن الله لا يشبه المخلوق من بعض الوجوه فقط، يقولون المشابهة المنفية عنه هي المشابهة من كل الوجوه أما المشابهة من بعض الوجوه فليست منفية عنه، وءاية {ليس كمثله شئ} نفت مشابهة شئ له على الإطلاق.

 

وكذلك ءاية {يَوْمَ هُم بارِزونَ لا يَخفَى على اللهِ منهُم شئٌ لِمَنِ المُلكُ اليومَ للهِ الواحدِ القَهَّارِ} [سورة غافر/16] نداء من الملك بإذن الله يومَ القيامة.

 

وقد نقل تاج الدين السبكي في “طبقات الشافعية” عند ترجمة صلاح الدين الأيوبي ما نصه [1]: “ومن الكتب والمراسيم منه كتبَ في النهي عن الخوض في الحرف والصوت: {لئِن لمْ يَنْتَهِ المُنافِقونَ والذينَ في قُلوبهم مَرضٌ} [سورة الأحزاب/60] الآية خرجَ أمرُنا إلى كلّ قائم في صفّ أو قاعد في أمامٍ أو خلف أن لاي تكلم في الحرف بصوت ولا في الصوت بحرف ومن يتكلم بعدها كان الجدير بالتنكيل: {فليَحذرِ الذينَ يُخالِفونَ عن أمرِهِ أن تُصيبهم فِتنةٌ أوْ يُصيبَهُمْ عذابٌ أليمٌ} [سورة النور/63].

 

وسأل النواب القبض على مخالفي هذا الخطاب وبَسْط العذاب ولا يُسمَع لمتفقه في ذلك تحريرُ جواب، ولا يُقبل عن هذا الذنب متاب، ومن رجع إلى هذا الإيراد بعد الإعلان وليس الخبر كالعيان رجع أخسر من صفقة أبي غبشان وليُعلن بقراءة هذا الأمر على المنابر ليُعلم به الحاضر البادي ويستوي فيه البادي والحاضر والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل” اهـ.

 

فالسني هو الذي يقول: الله تعالى له كلام ليس بحرف وصوت، وقد صرح بذلك الإمام أبو حنيفة في إحدى رسائله الخمس. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: “والله يسمع ويرى لا كما نسمه ونرى ويتكلم لا ككلامنا نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف” قالَه في “الفقه الأكبر” وهي إحدى رسائله الخمس التي ألّفها في العقيدة، وهذا مذكور في ص/137 وما بعدها من كتاب “إشارات المرام من عبارات الإمام”. وهذه الرسائل كما قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي ثابتة بالأسانيد الصحيحة، قال ذلك في شرح إحياء علوم الدين [2].

 

والقرءان الذي هو يقرأ بالحرف والصوت عبارة عن ذلك الكلام كما أن لفظ الجلالة عبارة عن الذات المقدس ليس عينَه، فهذا اللفظ أي قول القرءان مخلوق لا يجوز إلا لضرورة تعليم أن لفظ القرءان ليس عين كلام الله الذي هو صفةُ ذاته كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة والعلم أما لغير ذلك حرام أن يقال القرءان مخلوق ولو قُصد به اللفظ للإيهام. وعلى قصد اللفظ المنزل يُحمل ما حصل من الخليفة المأمون وأخويه من القول بأن القرءان مخلوق ولذلك خاطب الإمام أحمد الخليفة المعتصم بالله: “يا أمير المؤمنين” فبطل ما ظنه بعضٌ من أن أحمد خاطب المعتصم بهذه العبارة والمعتصمُ يعتقد ما تعتقده المعتزلة أن الله ليس له كلام إلا الصوت الذي يخلقه في غيره.

وقد ثبت عن الشافعي تكفيره للقائل بخلق القرءان الذي يقول إن الله ليس له كلام إلا ما يخلقه في الخلق لأن الله متكلم بكلام هو صفته ولا يصح أن يقال إن الله متكلم بكلام يخلقه في غيره لأن هذا إلحاق نقص بالله تعالى، وقد قال أبو حامد المروزي أحد أصحاب الوجوه من الشافعية: إن الشافعي نص في مواضع من كتبه بتكفير القائل بخلق القرءان ولا يعني الشافعي بذلك من يقول إن ألفاظ القرءان مخلوقة مع اعتقاده أن لله كلامًا قديمًا أزليًّا ليس حرفًا ولا صوتًا إنما يعني من ينفي صفة الكلام عن الله ويقول ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره كما كان يعتقد حفص الفرد الذي كفره الشافعي وتعتقد جماعته وهم المعتزلة، أما من قال القرءان مخلوق ولا يعني بذلك ما تعنيه المعتزلة بل يعني أن ألفاظ القرءان مخلوقة مع إثبات الكلام الذي هو صفة له ذاتية فلا يكفّره الشافعي وذلك كالخليفة المأمون وأخويه اللذين استُخلفا بعده فإنهم كانوا يُلزمون الناس أن يقولوا القرءان مخلوق يعنون اللفظ المنزل من غير أن يعتقدوا أن يَعْنُوا أنّ اللفظ المتلو كلام هو صفة لله لذلك خاطب الإمام أحمد المعتصم بيا أمير المؤمنين وهو الذي أراد أن يكرهه أن يقول القرءان مخلوق فلم يقل فسلط عليه مائة وخمسين جلادًا في ليلة واحدة، فلا حجة لمن ادعى أن القول بخلق القرءان على ما تعتقده المعتزلة لا يؤدي إلى كفر فلم يكفر المعتزلة لهذا. وقد بلغني أن الدكتور محمد سعيد البوطي يقول ذلك ولا مستند له لأن اعتقاد أن ألفاظ القرءان مخلوقة حق لكن لا يجوز أن يقال القرءان مخلوق ولو أريد به اللفظ المتلو مخلوق والكلام الذي هو مُعبّرٌ باللفظ عنه ليس بمخلوق بل هو صفة قديمة أزلية كقدرته وعلمه ومشيئته وسمعه وبصره وحياته. وهذا اعتقاد أهل السنة الأشاعرة والماتريدية.

 

ولعل النووي ومن تابعه على القول بصحة الصلاة خلف المعتزلة لا يعرفون أن المعتزلة يعتقدون أن الله كان قادرًا على خلق حركات العبد وسكناته قبل أن يعطيه القدرة عليها فلما أعطاه القدرة عليها صار عاجزًا عنها لأن العبد صار مستقلاً بخلق أفعاله دون الله.

وهذه المقالة أي أنه يجوز الاقتداء بالمعتزلي وأمثاله من المبتدعة الذين يكفّرون مع الكراهة هذه مزلقة شنيعة زلقها النووي وبعض المتأخرين من الشافعية كابن حجر الهيتمي. وجزى الله الحافظ الفقيه الشافعي سراج الدين البلقيني حيث رد كلام النووي المذكور وقال [3] إن كبار أصحاب الشافعي على خلاف كلام النووي وبه الفتوى أي على أنه لا تصح القدوة بهم. وكثيرًا ما رد في مواضع عديدة على النووي في حاشيته على “روضة الطالبين” بحقّ فرضي الله عنه البلقيني وجزاه خيرًا وهو الذي قال فيه صاحب القاموس صديقنا علامة الدنيا قال ذلك في تفسير بلقينه في حرف الباء [4].

 

وقصور عظيم من النووي عدم اطلاعه على كفر المعتزلة فإنه ثبت أنهم يقولون تلك المقالة إن الله صار عاجزًا عن خلق أفعال العباد بعد أن أعطاهم القدرة عليها، فمن يتردد في كفر من يقول هذه المقالة إلا الكافر؟! والظن بالنووي وأمثاله أنهم لم يعملوا ذلك.

 

وهذا التحقيق مهم ليطلع عليه المتفقه ولذلك كُره ذكره أكثرَ من مرة. ومن أرتد التأكد من هذا فليطالع كتاب صلاة الجماعة من حواشي الروضة التي ألفها الحافظ البلقيني.

[1] طبقات الشافعية [7/351].

[2] إتحاف السادة المتقين [2/4].

[3] حواشي الروضة [1/83].

[4] القاموس المحيط [ص/1524].