عبد الله بن مسعود
عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ
الصَّحَابِيُّ الـجَلِيْلُ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدِ بْنِ غَافِلِ بْنِ حَبِيْبِ بْنِ شَمْخِ بْنِ فَارِ بْنِ مَخْزُوْمِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الـحَارِثِ بْنِ تَمِيْمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلَيَاسَ، الهُذَلِيُّ الـمَكِّيُّ، صَاحِبُ سِرِّ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَدُ أَفْقَهِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهُ عَلَيْهِمْ الَّذِيْنَ رَوَوْا عِلْمًا كَثِيْرًا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَانَ أَحَدَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوْا قَبْلَ دُخُوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَمِ، إِذْ أَخَرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتَنِي سَادِسَ سِتَّةٍ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُنَا.
رَوَى عَنْهُ القِرَاءَةَ أَبُوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ فُضَيلَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَاتَّفَقَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَسِتِّيْنَ حَدِيْثًا، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِوَاحِدٍ وَعِشْرِيْنَ حَدِيْثًا، وَمُسْلِمٌ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ.
وَكُنْيَتُهُ أَبُوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَنَّانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُوْلَدَ لِي.
وَكَانَ يُعْرَفُ أَيْضًا بِأُمِّهِ فَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ءَادَمَ شَدِيْدَ الأُدْمَةِ، نَحِيْفًا قَصِيْرًا دَقِيْقَ السَّاقَيْنِ، وَكَانَ لَطِيْفًا فَطِنًا وَمَعْدُوْدًا فِي أَذْكِيَاءِ العُلَمَاءِ.
مِنْ مَنَاقِبِهِ:
هُوَ الصَّحَابِيُّ الـجَلِيْلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ الَّذِي كَانَ أَحَدَ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ، فَقَدْ أَلْهَمَهُ اللهُ حُبَّ العِلْمِ وَطَلَبِهِ مُنْذُ نُعُوْمَةِ أَظْفَارِهِ، فَقَدْ رَوَى الإِمْامُ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوْ بَكْرٍ فَقَالَا: يَا غُلَامُ هَلْ عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِيْنَا؟، فَقُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ عَلَى الغَنَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَـمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الفَحْلُ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، فَمَسَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْعَهَا وَدَعَا فَامْتَلَأَ الضَّرْعُ، فَاحْتَلَبَ، فَشَرِبَ أَبُوْ بَكْرٍ وَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ لِلْضَّرْعِ: اقْلِصْ، فَقَلَصَ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا القَوْلِ، فَقَالَ: إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ، فَأَخَذْتُ مِنْ فَمِهِ سَبْعِيْنَ سُوْرَةً لَا يُنَازِعُنِي فِيْهَا أَحَدٌ.
وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ عَلِمَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي سِيَرِهِ وَغَيْرُهُ، عَنْ لِسَانِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مَعَ أُنَاسٍ مِنْ قَوْمِي نَبْتَاعَ مِنْهَا، فَأَرْشَدُوْنَا إِلَى العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الـمُطَّلِبِ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ زَمْزَمٍ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الصَّفَا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَبْيَضَانِ، كَأَنَّهُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ، يَمْشِي عَلَى يَمِيْنِهِ غُلَامٌ حَسَنَ الوَجْهِ، تَقْفُوْهُمُ امْرَاةٌ قَدْ سُتِرَتْ مَحَاسِنُهَا، حَتَّى قَصَدَ الـحِجْرَ فَاسْتَلَمَ وَاسْتَلَمَ الغِلَامُ وَاسْتَلَمَتِ الـمَرْأَةُ، ثُمَّ طَافُوْا البَيْتَ سَبْعًا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ فَرَفَعَ يَدَهُ، وَكَبَّرَ وَقَامَ ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ، فَأَقْبَلْنَا عَلَى العَبَّاسِ نَسْأَلُهُ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَالغُلَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالـمَرْأَةُ خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَتُهُ. أَمَا وَاللهِ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ يَعْبُدُ اللهَ بِهَذَا الدِّيْنِ إِلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ.
كَانَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَحَدَ أَفْقَهِ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَمَهُمْ بِالقُرْءَانِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ الأَجِلَّاءُ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَذَكَرُوْا سَعَةَ عِلْمِهِ، فَفِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَالِسٌ فَقَالَ: كَنِيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا.
وَسُئِلَ الإِمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَنْ أَيِّهِمْ تَسْأَلُوْنَ؟، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ، فَقَالَ: عُلِّمَ القُرْءَانَ وَالسُّنَّةَ ثُمَّ انْتَهَى.
وَرَوَى الذَّهَبِيُّ فِي “سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ” أَنَّ أَبَا مُوْسَى الأَشْعَرِيَّ قَالَ: لَا تَسْأَلُوْنِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الـحَبْرُ فِيْكُمْ، يَعْنِي بِذَلِكَ ابْنَ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَعَنْ مَسْرُوْقٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ ءَايَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ وَأَعْلَمُ فِيْمَا نَزَلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تَنَالُهُ الـمَطِيُّ لَأَتَيْتُهُ.
وَعَنْ مَسْرُوْقٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: شَامَمْتُ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمْ انْتَهَى إِلَى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ: عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللهِ وَأُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُوْ الدَّرْدَاءِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ شَامَمْتُ هَؤُلَاءِ السِّتَّةَ فَوَجَدْتُ عِلْمَهُمْ انْتَهَى إِلَى رَجُلَيْنِ: عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَقَالَ: جِئْتُ إِلَى أَمِيْرِ الـمُؤْمِنِيْنَ مِنَ الكُوْفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الـمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَي الرَّحْلِ، فَقَالَ: مَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ، فَمَا زَالَ عُمَرُ يَطْفَأُ وَيَسِيْرُ عَنْهُ الغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كَذَلِكَ فِي الأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الـمُسْلِمِيْنَ، وَإِنَّهُ سمرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ، فَخَرَجَ رَسُوْلُ اللهِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الـمَسْجِدِ، فَقَامَ رَسُوْلُ اللهِ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ قَالَ: “مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْءَانَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ” ثُمَّ جَلَسَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوْ، فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ لَهُ: “سَلْ تُعْطَ”.
وَفِي سِيَرِ الذَّهَبِيِّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا مُوْسَى الأَشْعَرِيَّ وَعِنْدَهُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ وَأَبُو مَسْعُوْدٍ الأَنْصَارِيُّ وَهُمْ يَنْظُرُوْنَ إِلى مُصْحَفٍ، ثُمَّ خَرَجَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ فَقَالَ أَبُوْ مَسْعُوْدٍ: وَاللهِ مَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ مِنْ هَذَا القَائِمِ، يَعْنِي بِذَلكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُوْدٍ.
ثَنَاءُ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ:
مِمَّا مَدَحَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُوْدٍ مَا رَوَاهُ أَبُوْ نُعَيْمٍ فِي “حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ” وَهُوَ أَنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْتَنِيَ سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيْقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيْحُ تَكْفَؤُهُ وَتُمِيْلُهُ، فَضَحِكَ القَوْمُ، فَقَالَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا يُضْحِكُكُمْ؟” قَالُوْا: مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الـمِيْزَانِ مِنْ أُحُدٍ”.
فِي سِيَرِ الذَّهَبِيِّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ مَنْصُوْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الـحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَوْ كُنْتُ مُؤْمِّرًا أَحَدًا عَنْ غَيْرِ مَشُوْرَةٍ لَأَمَّرْتُ عَلَيْهِمْ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ”. يَعْنِي ابْنَ مَسْعُوْدٍ.
كَمَا أَخْرَجَ الـحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “قَدْ رَضِيْتُ لَكُمْ مَا رَضِيَ لَكُمْ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ”.
بَعْضُ كَلَامِهِ وَمَوَاعِظِهِ:
لَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَثِيْرَ الـحِلْمِ وَالـمَوَاعِظِ شَدِيْدَ التَّأْثِيْرِ فِي سَامِعِيْهِ، فَمِنْ شَهِيْرِ مَوَاعِظِهِ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ فِي مَمَرٍّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي ءَاجَالٍ مَنْقُوْصَةٍ وَأَعْمَالٍ مَحْفُوْظَةٍ، وَالـمَوْتُ يَأْتِي بَغْتَةً، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا فَيُوْشِكُ أَنْ يَحْصُدَ رَغْبَةً، وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا فَيُوْشِكُ أَنْ يَحْصُدَ نَدَامَةً، وَلِكُلِّ زَارِعٍ مِثْلُ مَا زَرَعَ. لَا يَسْبِقُ بَطِيءٌ بِحَظِّهِ، وَلَا يُدْرَكُ حَرِيْصٌ مَا لَـمْ يُقَدَّرْ لَهُ، فَإِنْ أُعْطِيَ خَيْرًا فَاللهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ وُقِيَ شَرًّا فَاللهُ وَقَاهُ. الـمُتَّقُوْنَ سَادَةٌ وَالفُقَهَاءُ قَادَةٌ، وَمَجَالِسُهُمْ زِيَادَةٌ.
وَمِنْ حِكَمِهِ: مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَنَفْسٌ تُنْجِيْهَا خَيْرٌ مِنْ إِمَارَةٍ لَا تُحْصِيْهَا، وَشَرُّ الـمَعْذِرَةِ حِيْنَ يَحْضُرُ الـمَوْتُ، وَشَرُّ النَّدَامَةِ نَدَامَةُ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَشَرُّ الضَّلَالَةِ الضَّلَالَةُ بَعْدَ الـهُدَى، وَخَيْرُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَادِ التَّقْوَى.
وَمِنْ بَلِيْغِ كَلَامِهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ ارْتَقَى الصَّفَا يَوْمًا وَأَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ قَائِلًا: يَا لِسَانُ، قُلْ خَيْرًا تَغْنَمُ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمُ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: “أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ”.
وَمِنْ مَوَاعِظِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ جَوَامِعَ نَوَافِعَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئًا، وَزُلْ مَعَ القُرْءَانِ حَيْثُ زَالَ، وَمَنْ جَاءَكَ بِالـحَقِّ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعِيْدًا بَغِيْضًا، وَمَنْ جَاءَكَ بِالبَاطِلِ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَبِيْبًا قَرِيْبًا.
وَعَنْ أَبِي الأَحْوَصِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَعَ كُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ، وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ حَبْرَةٌ (سَعَةُ عَيْشٍ) إِلَّا مُلِئَ عِبْرَةٌ.
وَمِنْ حِكَمِهِ فِي بَيَانِ حَالِ الدُّنْيَا وَسَاكِنِيْهَا: مَا مِنْكُمْ إِلَّا ضَيْفٌ وَمَالُهُ عَارِيَةٌ، فَالضَّيْفُ مُرْتَحَلٌ، وَالعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ إِلَى أَهْلِهَا.
وَفِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” لِابْنِ الـجَوْزِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَهْرَانَ قَالَ: بَيْنَمَا ابْنُ مَسْعُوْدٍ يَوْمًا مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ مَرَّ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: عَلَى مِيْرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَسِمُوْنَهُ. يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الدِّيْنَ، وَذَلِكَ مِصْدَاقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ”. أَيْ أَنَّهُمْ وَرِثُوْا عَنْهُمْ العِلْمَ يَتَعَلَّمُوْنَهُ وَيُعَلِّمُوْنَهُ النَّاسَ.
وَفَاتُهُ:
ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُوْدٍ أَنَّهُ تُوُفِّي سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِيْنَ لِلْهِجْرَةِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ الـجَوْزِيِّ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي عُتْبَةَ وَابْنِ بَكِيْرٍ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثَ وَثَلَاثِيْنَ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: قُلْتُ لَعَلَّهُ مَاتَ فِي أَوَّلِهَا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الـمَدِيْنَةِ الـمُنَوَّرَةِ وَدُفِنَ فِي البَقِيْعِ.
وَفِي سِيَرِ الذَّهَبِيِّ أَنَّ الـخَلِيْفَةَ عُثْمَانَ بْنَ عُفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ زَارَهُ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي؟، قَالَ: ذُنُوْبِي، فَقَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟، قَالَ: رَحْمَةَ رَبِي.
رَحِمَ اللهُ الصَّحَابِيَّ الـجَلِيْلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُوْدٍ صَاحِبَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.